كلنا يحزن لفقد حبيب أو عزيز، ويزداد هذا الحزن إذا كان هذا الحبيب ذا أثر في حياتنا، فكيف إذا كان هذا الفقيد من علّمك أبجديات كتاب الله؟! إنّه معلمي وأستاذ الجيل الشيخ الجليل العم سعد بن حمد بن سعد آل مقرن،- رحمه الله رحمة واسعة-، توفاه الله فجر يوم الثلاثاء السابع من شهر صفر، بعد أن عاش ما يربو على المائة عام قضاها في تعليم الناس الخير وباذلاً لكل عطاء فكانت حياة مثمرة طالت بآثارها الخيّرة الجميع. وعظم قدرهذا الشيخ الفاضل مرتبط بعظم قدر كتاب الله، وله منزلة عالية في قلبي وكياني مرتبطة كل الارتباط بحرصي على إتقان حفظ كتاب الله ما حييت، فما زلت أتذكر في سنوات عمري الأولى كيف كنت أفيق في الصباح الباكر، وأفزّ لصلاة الفجر توقظني أمي وتحثّني جدتي- رحمهما الله- على ألا أتأخر على (الكتّاب)، تلك المدرسة العريقة بجوار (دكّة الجماعة) في بلدة القرينة، تتكون من غرفة واحدة بعمود واحد وسلم يصعد للسطح حيث ينتشر الطلاب ليتذاكروا دروسهم. وبعد الإفطار تسلمني أمي اللوح وعيدان الكتابة ودواة الحبر، وأذهب مبكراً للمقعد الأقرب شوقاً لدرسه- رحمه الله-، نحتبي على الأرض، ويبدأ- رحمه الله- الدرس الذي يمتد لصلاة الظهر، يواصل أثناءه تعليمنا في البدايات ما كان يعرف (بالإعراب) وتهجئة الألف باء، ثم ننتقل لمرحلة (الغبيبة) ثم نشرع في القراءة من المصاحف بدءاً من سورة (الناس) نظراً ثم غيباً، وتتواصل أيام (الكتّاب) عاماً كاملاً، ويتأكّد (للمطوّع) الفروق بين طلابه، فمنهم الموهوب، ومنهم من دون ذلك، ومنهم للأسف من كان يتسرب، ولا يواصل. وتميّز معلمنا- رحمه الله- بأسلوب راقٍ، يجمع باقتدار بين الضبط والحزم تارة، وبين اللين والتحبب تارات، وهو يعلم- رحمه الله- أهميّة حفظ كتاب الله وأثر القرآن على أخلاق حافظيه، والارتفاع بقدراتهم الفكريّة والمعرفيّة. ما زالت هذه الذكريات الحبيبة، والتي كان يروق لي تذكرها مراراً وبالأخص معه- رحمه الله- أثناء زياراتي له في المستشفى أثناء مرضه، حيث كان يتبسّم لتلك الذكريات ويحاول أن يختبرني ممازحاً في جودة الحفظ والإتقان. تلقى العلم على شيخي الحبيب سواي جمع غفير من الناس، منهم الشيخ عبدالرحمن بن محمد بن مقرن، المستشار الشرعي بإمارة منطقة الرياض سابقاً، والشيخ سليمان بن عبدالعزيز الوهبي، القاضي في محكمة التمييز سابقاً، والشيخ محمد بن عبدالعزيز بن الشيخ،- رحمه الله-، والشيخ عبدالرحمن بن سعد بن مقرن، معلم اللغة العربية القدير، وغيرهم كثير يصعب حصرهم. وكان- رحمه الله- ذا صوت رخيم في التلاوة، يتلذذ لسماعه كل من صلى خلفه، و مازلت أحتفظ بصوته مسجلاً على أشرطة للقرآن كاملاً أهداه لي أبناؤه- حفظهم الله-، وآنس به إلى جوار وسادتي وهو يقرأ ما تيسر حتى أنام. وكان محبّاً لاجتماع الشمل حريصاً على صلة الرحم، وتربية أبنائه على ذلك، تجتمع عنده أسرة آل مقرن في العيدين، ويدعم كل ما يؤصل ذلك، وقد رعى -رحمه الله- الجائزة السنوية المعروفة بجائزة قرّان للتفوق العلمي، والتي تقدم شهادات تقدير وجوائز لكل أبناء الأسرة المتفوقين في دراستهم. وقد شهد الصلاة عليه جمع غفير اكتظت بهم جنبات جامع الملك خالد بأم الحمام، وقد أم المصلين في الصلاة عليه سماحة المفتي- حفظه الله-، وكان من المصلين فضيلة الشيخ صالح اللحيدان رئيس مجلس القضاء الأعلى، وعدد كبير من الأعيان وأبناء الحمولة جميعاً. ذاك هو شيخنا، معلمنا، و عميد أسرتنا،- رحمه الله وغفر له-، وجمعنا به في مستقر رحمته في جنات ونهر، في مقعد صدق عند مليك مقتدر.