كيف تُسجل الذكريات عبر هذا التشابك الهائل من خلايانا العصبية؟ لقد صور علماء من جامعة جنيف الاثر المادي للذاكرة. كل ذكرى جديدة يكتسبها الشخص تحوله على كائن مختلف, ربما كان في هذه العبارة شيء من الفلسفة، غير انها تشير الى حقيقة ملموسة: تُسجل الذاكرة في دماغنا باحداث تحول في مورفولوجيا خلاياه العصبية ويشتبه علماء الاحياء العصبية بوجود هذه الظاهرة منذ الخمسينيات وعندما قدموا فكرةتفيد بان تشكّل وتخزين الذكريات مرتبطان بتغيرات في فعالية الاتصالات بين الخلايا العصبية، وربما كانت هذه التغيرات تسهل تنشيط الدارات التي تتحرض عند تذكر الذكريات، وبذلك تخط الذكريات لنفسها طريقا عبر شبكات الخلايا العصبية هذا الطريق الذي يزداد وضوحا كلما ارجع الشخص ذكرى او تعلما الى ميدان الواقع الفعلي يجب اذن ان يكون التحول مستمرا دون ان يصبح مع ذلك نهائيا بشكل منظم، والا اصبح من غير الممكن ان ننسى شيئا ولاشبع دماغنا بعدد لا يحصى من الذكريات التي لا فائدة منها الا ان بعض الخلايا العصبية تحديدا قادرة على تحوير علاقاتها بالخلايا العصبية المجاورة لها على امد قد يطول او يقصر هذه العلاقات التي تتم عبر المشابك العصبية وهي زوائد نامية دقيقة توضع بطول الالياف العصبية التي تتبادل الخلايا العصبية من خلالها الرسائل الكيميائية وتؤدي هذه الخلايا العصبية المسماة (غلوتامينية الفعل) - لانها تستخدم الغلوتامات من اجل التواصل فيما بينها - دورا أساسيا في سيرورة الحفظ، وهكذا تتجلى الآفات الدماغية التي تخربها بشكل عام اضطرابات ذاكرية هامة, وتأتي لدانة الخلايا العصبية غلوتامينة الفعل من خلال ظاهرة لم تكتشف الا منذ عشر سنوات تقريبا: ازدياد الكمون على الامد الطويل وهي مظهر فيزيولوجي حقيقي للذاكرة فعندما تحرر الخلية العصبية المنشطة الغلوتامات عند تماسها بخلية عصبية اخرى حساسة لهذه المادة تطلق هذه الاخيرة فورا اشارة كهربائية وكيميائية باتجاه الخلايا العصبية من الدارة نفسها ويؤدي هذا التفاعل الى ازدياد مستمر في فعالية التماسات المشبكية يمكن ان تصل الى بضعة اشهر؟ كيف يمكن ان تستمر الفعالية المشبكية طيلة هذاالوقت؟ يقول معظم الاختصاصيين بوجود سيرورتين: ظهور عدد اكبر من المستقبلات في المشابك على سطوح الخلايا العصبية التي تتلقى الرسالة والتحول المورفولوجي للمشابك يتغير شكل هذه المشابك لتوفر مساحة اكبر للتبادلات الكيميائية بل يمكن ان تنقسم الى عدةاجزاء بحيث يضطلع مشبك واحد بدور عدة مشابك الا ان المعطيات الابصارية حول هذا التغير في الشكل ظلت قليلة الى ان توصل فريق من الباحثين من جامعة جنيف الى تصويره بواسطة مجهر الكتروني. كان تغير الشكل المشبكي صعب الايضاح لانه لا يطال سوى عدد قليل من المشابك عشرة من بين العشرة الاف مشبك التي يمكن ان تحويها الخلية العصبية الواحدة, عدا ذلك على الخلايا العصبية المعنية ان تكون معروفة ومحددة ضمن المائة مليار خلية عصبية الموجودة في الدماغ, وبعد تحديد الخلايا المعنية في قطع دماغ جرذ دقيقة قام باحثو جنيف بتحريضها بواسطة مساري كهربائية دقيقة بعدئذ جزئت الازرار المشبكية الى خمسين صفاحة بثخانة اربعين نانومتر, اخيرا عولجت المعطيات الوصفية لهذه المقاطع بأحد البرامجيات فأعيد تكوين الصورة بثلاثة ابعاد, وبدا الامر واضحا تضاعفت المشابك العصبية. ما هي الآليات الحيوية المؤدية الى هذا التضعيف؟ لقد اكتشف علماء الاحياء العصبية السويسريون ان ازدياد الكمون على المدى الطويل يترافق بتخليق انزيم مسمى (كام كيناز2) الذي له تأثير مضاعف، فمن جهة: يساهم هذا الانزيم في مضاعفة مستقبلات الخلية العصبية التي تتلقى الاثارة. ومن جهة اخرى يضاعف مرتين عدد المشابك المنشطة عبر التأثير المباشر على بروتينات هيكل الخلية اي مكونات هيكل الخلايا العصبية. وهكذا يتضح جانب هام من الذاكرة, وبالنسبة للوقت الراهن لايفتح ذلك افقا خاصا في علاج الاضطرابات الذاكرية مع ذلك حدد الباحثون السويسريون واليابانيون والامريكيون دور ال(كام كيناز2) مع ملاحظة ان تثبيطه يعيق ازدياد الكمون على الامد الطويل, اذن يمكننا ان نتصور انه اذا ما نشطنا ال(كام كيناز2) امكننا التوصل الى تسهيل ازدياد الكمون وبالتالي تقوية الذاكرة, هذا الميدان يحتاج الى المزيد من الاستكشاف.