الحوار مفهوم بناه القرآن المجيد أولاً في الحضارة الإسلامية، وغرسه في تصور المسلمين وفي رؤيتهم الكلية، وجعله جزءاً من بنائهم العقلي والنفسي بحيث لم يعد ممكناً تصور الاستغناء عنه في أي جانب من جوانب الفكر والتصور والسلوك، فالحضارات دليل عافية ودليل تواصل، والحوار أولاً وأخيراً مطلوب لما يشكله من حراك ديناميكي تعني انفتاحا بين ثقافات المجتمعات على بعضها البعض. وإذا كان الحوار هو التفاهم والتعارف بين الشعوب، كفضيلة ربانية، فإن ما أشارت إليه المعجزة الكريمة سبق تأريخي في حياة الأمم والشعوب لتحقيق التكافؤ وتصحيح مسار الوضع الاقتصادي العالمي قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}، كما أن الحوار فضيلة أخلاقية ودينية تتيح حق الاختلاف، فالخلاف فلسفة التسامح ولا يعني الاعتراف بما يقوله الآخر بل باحترام ما يقوله. إن لكل حضارة صفة تميزها عن غيرها، والحوار بين الحضارات ينتج عنه ثقافة عالمية واحدة قائمة على استبطان التعددية وقبول الاختلاف في المرجعية الثقافية وظهور ثقافة السلام والتسامح، وليس هناك اعتراض على تلك الأسس، فالسلام في صلب الإسلام، والحوار من صلب العقيدة الإسلامية السمحة قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} ويثير الحوار بين الحضارات الكثير من الشجون لعل أهمها وأخطرها، إن الذين ينادون بهذا الحوار من الطرفين العربي والغربي لا يتقدمون نحو منطقة وسطى لبدء هذا الحوار، كما أن الحوار مع الآخر ليس مقصوراً على طرف المستعمر، بل إن الشعوب لها دور في تغيير المفاهيم المشبوهة التي سبقت عنها، وأعود للعرب وصورتهم المشوهة في الذهنية الغربية سواء كعرب أو مسلمين. فالسؤال الذي يؤرق الجميع اليوم وتدور حوله الأحاديث التي يثيرها البعض في إطار إقامة حوارات حضارية ويدعون إليه، أليس من الأفضل أن نتحسس مالدينا وأن نضع استراتجياتنا وأن ندير ونوجه دفتنا الإعلامية قبل أن نجلس أمام الآخر في حوار يبدو مثل الحوار غير المتكافئ، أليس الأجدى أن نقود خطانا بأنفسنا بدلاً من أن يقودنا الآخرون؟ فلا ينبغي للضعيف أن يكون طرفاً في حوار وهو في حال ضعفه، فلابد له قبل الحوار أن يتجاوز حالة الضعف وأن يحقق توازناً ولو في حدود معينة مع الطرف الذي يرشح نفسه للحوار معه، فذلك التوازن ضروري للضعيف لبلوغ مستوى الشريك في الحوار، فإذا توازنت القوى كان هناك مجال لحوار، أما إذالم يتحقق ولو قدر ضئيل من التوازن فويل للضعيف من القوي، وويل للفقير من الغني... إلخ. وهنالابد أن نذكر بأن الشرط الأساسي لبدء أي حوار هو الاستعداد الدائم لدى الأطراف المتحاورة لقبول نتائج الحوار، أما حين لا يكون هذا الاستعداد متوافراً فإن الحوار آنذاك يكون مجرد محاولة من الطرف الأقوى لإقناع أتباعه وغيرهم إن أمكن بشرعية فعله وعدالته بعد ذلك، وأنه قد أعطى لخصمه الفرصة المناسبة لتلافي الصراع. أما تحديد المقصد من هذا الحوار فهو ناجم من حقيقة أن التوازن والتكافؤ بين أطراف الحوار، وأنه لايمكن أن يتم التحاور إلا بين أطراف على حد أدنى من الندية والتساوي في القوة والوزن والاستعداد لقبول نتائج الحوار والالتزام بها. وقد يزيد بعضهم، ويدعو إلى حضارة الغرب وديمقراطيته ونظامه وينفي أيةحضارة نمتلكها، وإن كان لا ينفي استعدادنا للمثول أمام الغرب صاغرين شاكرين، والحقيقة أن الغرب قد وصلوا إلى الباب المسدود بعد أن أشبع مادياً واستهلاكياً، وأصبح يشعر بالحاجة إلى شيء آخر غير الأديان، أصبح جائعاً للروحانيات، ومن يستطيع أن يقدم له ذلك إلا عصر النهضة وفلسفته الروحانية والإنسانية، والواقع إذالم يخرج الغرب من عقلية الاستعلاء والتفوق فإنه لا يمكن أن يحصل حوار حقيقي بين الثقافات وبين الحضارات، وسوف ندور في حلقة مفرغة ولن نصل إلى أي نتيجة. إننا نعاني من صدمة الجهالات لا من صدمة الحضارات، فنحن نجهل بعضنا بعضاً، بل نجهل حتى تراثنا الماضي الذي تنصلنا عنه مئات السنين، وهذه العودة للماضي ليست رجعية على عكس ما يتوهم الكثيرون، وإنما هي إيجابية فعالة، ففي الماضي دروس وعبر يمكن أن نستفيد منها لحل مشاكل الحاضر. [email protected]