منذ قرابة أسبوعين فقدت التلاوة علماً من أعلامها ورمزاً من رموزها وفقدت البلاد نبيلاً من نبلائها ذلكم هو فضيلة الشيخ الزاهد المتواضع ذو الصوت الشجي النقي المقرئ علي بن عبد الله جابر إمام المسجد الحرام الذي عاش بعيداً عن الأضواء التي لازمته فترة كبيرة من حياته غير أنه كان يعاندها ويبتعد عنها راغباً في الهدوء والتفرّغ لما هو مفيد من تلاوات وبحث. تعرَّفت إلى هذا الشيخ الجليل منذ عام 1411ه ثم ترسخت علاقتي بفضيلته إبان دراستي للماجستير في جامعة الملك عبد العزيز حين كنت ارتاد مسجد الكلية فأرى طلابه متحلِّقين حوله يعاملهم بلطف وابتسامة ويتحدث إليهم بلغة المعلِّم المربِّي عبر أسلوب يشد السامع ويشبع من هو للعلم جائع. ومن هنا فقد استأذنته لحضور بعض دروسه رغم عدم تخصصي في مثل تلك الدروس فوافق وكانت تلك بداية تعرّفي عليه رحمه الله فقد دعاني إلى مكتبه المجاور للمسجد وكنا نتبادل الحديث عن كل شيء مفيد فلم يبخل بمعلومة، بل كان يتحمّل أسئلتي الكثيرة ويجيب عليها بتواضع جم رغم ما كان فيها من خصوصيات، كم أخجلني بكرمه وبساطته وقد أصبح لقائي به يتكرّر يوم الأحد من كل أسبوع، تحدثت معه عن فترة إمامته للمصلين في الحرم المكي وعن ذكرياته لتلك المرحلة والتي كان يعدها أفضل مراحل حياته وكان يذكر جميع من تعامل معهم بالخير ولم يذكر أحداً بسوء مما يدل على حسن نيته وطهارة قلبه. شكوت له ذات مرة من قلة التسجيلات النقية لتلك الفترة فبيَّن انزعاجه من قيام بعض التسجيلات بإدخال قراءة على أخرى لإكمال آية أو سورة مما يشوِّه القراءة، وفي اللقاء التالي فوجئت به يهديني مجموعة من الأشرطة تحوي قراءة عطرة نقيّة بتسجيل أصلي لصوته خلال إمامته للمصلين في الحرم المكي فكانت من أغلى الهدايا التي أفدت منها واقتنيتها في مكتبتي. كنت التقيه في مسجد بقشان بعد صلاة التراويح، حيث كان يؤم المصلين خلال العشرين يوماً الأولى من الشهر ثم يبقى العشرة الأخيرة بجوار بيت الله الحرام، فكان يسأل خلال اللقاء عن سير دراستي ويحثني ويشجّعني للسير قدماً في هذا الطريق وحتى بعد أن أنهيت دراستي لم أنقطع عنه، بل كنت اتصل به هاتفياً وحين أزور جدة كنت التقيه في مسجد الهدى في صلاتي المغرب والعشاء وكان يؤثرني بمكانة خاصة رغم كثرة المترددين على مجلسه.حين مرض مرضه الأخير كنت أتابع أخباره وحين زرته في المستشفى التخصصي كان يرافقه ابنه عبد الله - رعاه الله - وقد تأثرت للتغيرات التي طرأت على صحة الشيخ وفقدانه لكثير من وزنه ورغم ما كان يعانيه - رحمه الله - فقد حاول أن يهوِّن علي الأمر وأن يطمئني على حاله. وحين خرج من المستشفى كنت اتصل بعبد الله لأطمئن على الشيخ فكان يطمئنني عليه، غير أن قضاء الله نافذ ولا راد لقضائه. {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}. غفر الله للشيخ علي جابر وأسكنه فسيح جناته وجعل في ذريته خير خلف، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.