توجيه خادم الحرمين الشريفين - حفظه الله - ليلة إعلان الميزانية العامة للدولة يوازي تلك الأرقام التي أعلن عنها، حيث تناول المواطنون بكل أطيافهم تلك الكلمات الموجزة، وذلك الرجاء الحار الذي طرحه أمامهم.. (.. ليس لكم عذر الآن.. الأموال متوفرة.. والمواطن يتطلع إلى العمل.. وهذا الوطن غالٍ على الجميع.. المهم السرعة.. أرجوكم الاهتمام..). فماذا يعني هذا التوجيه؟وإلى أي مدى يمكن إحداث التغيير نحو الأفضل؟ من يستعرض تلك الأرقام المعلنة يدرك أن هذه الميزانية تعكس متانة الاقتصاد السعودي، وأنها تحمل الكثير من التطلعات لمستقبل اقتصادي متميز بما اشتملت عليه من مشاريع تنموية تعمل على رفع معدلات النمو الاقتصادي، وإيجاد فرص عمل جديدة، وتشجيع الاستثمار الخاص، كما ترجمت هذه الميزانية طبيعة متطلبات المرحلة القادمة من خلال الإنفاق الكبير على البرامج المتعلقة ببناء (الإنسان) حيث ركزت على دعم برامج التعليم بكل فئاته وكذلك الابتعاث والتدريب، مع الاهتمام بتحسين مستويات المعيشة بزيادة مخصصات الرواتب، ودعم القطاع الصحي والضمان الاجتماعي والبنوك التي تقدم القروض للمواطن. ****** وأمام هذه النقلة الكبيرة لابد من الوقوف طويلاً لمعرفة ما تتطلبه من تغييرات في مجال الرقابة والإشراف على التنفيذ. لقد وضع -حفظه الله- الجميع أمام مسؤولياتهم، وأشهد كل المواطنين على ذلك، وهذا التوجيه تتحدد من خلاله القدرة على استيعاب متطلبات هذه المرحلة الجديدة، ولا يمكن تجاوز هذه المرحلة إلا بإدراك مدى الحاجة إلى التغيير، وتأمين الموارد البشرية اللازمة لإدارة التغيير في ظل عالم متغير نحو الأفضل، واليقين بأن التغيير لا يمكن أن يدير نفسه، وأننا إن لم نضطلع بإدارة التغيير فسيقوم هو بإدارتنا. إن هذه الأرقام وهذا الانفتاح في الدعم يفرض علينا مسارعة الخطى إلى التحول من ميزانية البنود إلى ميزانية البرامج، بحيث يتم اعتماد الميزانية على قياس مستوى الأداء، وأعتقد أن وزارة المالية سبق أن طرحت هذا الخيار بأمل أن يتحقق ذلك عن قريب، لكنها تدرك أن هذا التحول يتطلب جهداً كبيراً في تأهيل كوادر الوزارة أولاً. إن تحقيق أهداف هذه الميزانية يتطلب تواجد نمط إداري معين، قادر على الاضطلاع بمهام التغيير، لضمان حسن معالجة المشكلات التي لم تكن الظروف تسمح بمعالجتها لأسباب خارجة عن الإرادة. إن هذه الميزانية وهذا التوجيه الكريم يعنيان أن التغيير الفعال مطلب أساسي، وأن المسؤولين في الدولة وعلى رأسهم الوزراء لابد وأن يكونوا قادرين على التكيف السريع مع توافر إمكانيات الارتقاء، والنمو الذاتي، من أجل الحياة، ومن أجل العلم، ومن أجل حسن التفاعل، ومعايشة عالمنا الحالي، وعالم المستقبل القريب، وهذا يتطلب تبني استعداد معين تجاه العمل، واكتساب المهارات المطلوبة لإدارة التغيير. يجب على كل المسؤولين في الدولة أن يدركوا أن أرقام هذه الميزانية ستضعهم أمام اختبار حقيقي لا يقبل الإعادة أو التأجيل، وأن مقاييس النجاح والفشل ستظهر من خلال القدرة على مواكبة التطلعات والتنبؤ بنتائج الأعمال، واستخدام الميزانية بفعالية، حيث لم توضع هذه البنود من أجل وضعها في المكاتب ولكن من أجل وضعها موضع التنفيذ لخدمة الغرض الذي أعدت من أجله. عليهم أن ينظروا إلى الميزانية كخطة مترجمة في صورة رقمية، تحتوي على مجموعة من الأهداف التي يتعين إنجازها خلال فترة معينة، وأنها بمثابة منبه للإدارة كي تستيقظ في وقت معين لمواجهة الضعف في بعض المواقع والعمل على تصحيحه. إن قضية التغيير تتطلب مجهودات كبيرة قد تمتد لتشمل قضايا مهمة من خلال التصرفات والسلوكيات التي يضطلع بها كل مسؤول، سواء كان ذلك بتحفيز العناصر البشرية من أجل عدم مقاومة التغيير، أم بالحصول على الموارد الصحيحة لمجهودات التغيير واستمراريتها. إن استشراف المستقبل لواقع الإدارة في المملكة لا يعني القيام برسم صورة لذلك الواقع مبنية على الآمال والأماني وأضغاث الأحلام، وسوف.. وسنعمل، ولا تبني مجموعة من الإستراتيجيات العامة المفرطة في التفاؤل البعيد عن الواقع.. الاستشراف يعني: فهم الماضي والحاضر والعوامل التي شكلت معالمها أولاً، وإذكاء الوعي حول أبعاد المستقبل الناتجة عن المعرفة المتراكمة حول معالم ذلك الماضي وهذا الحاضر ثانياً، ثم الإشارة إلى بضع سمات بدائل المستقبل المرتبطة بواقع الإدارة لدينا، بمعنى آخر: لا بد من فهم الإنجازات وتحديد المشاكل والتعرف على التحديات المتعلقة بذلك الواقع. على كل مسؤول أن يدرك أن أساليب الإصلاح ومحاربة الفساد من شأنها تحسين مستوى الأداء، بما يخدم مصلحة الوطن والمواطن، وأن كل المحاولات السابقة للارتقاء بهذا المستوى لم تحقق النتائج والصورة المطلوبة، وأن ميزانية هذا العام تختلف عن كل الميزانيات السابقة بما ارتبط معها من ظروف توجب التغيير، حيث أدت زيادة الموارد إلى قفزة في الإنفاق، وأن النمو الوظيفي لا بد وأن يصاحب هذه القفزات، فإذا لم يحسن استغلاله ويوجه التوجيه الأمثل بما يحقق متطلبات التغيير ويساعد على الارتقاء بمستوى الأداء فقد ينعكس سلباً بما يؤدي إلى بروز مظاهر التضخم الإداري. لا بد أن يفتح المسؤولون أملاً نحو الأخذ بأسلوب التطوير، لأن المرحلة المقبلة تتطلب الاتجاه نحو قياس مستوى الأداء على كل الأصعدة، ولا يتحقق ذلك إلا من خلال إعادة هيكلة الميزانية لتأخذ بالاتجاه الحديث وفق متطلبات الواقع. على الأجهزة الحكومية ألا تقصر اهتمامها على مقدار ما ينفق على مشروعاتها دون الاهتمام بطبيعة ونوع الخدمات والأنشطة التي تحققها نتيجة هذا الإنفاق، وأن تدرك هذه الأجهزة أن تزايد النشاط الحكومي، وما يتطلبه ذلك من زيادة في طلبات الإنفاق العام يتطلب إعادة النظر في أساليب الأداء من خلال الاهتمام بالنتائج، حتى لو أدى ذلك إلى الضغط على الإمكانات، وتكثيف البرامج اللازمة، لأن هذا الهدف مرتبط بأهم عنصر لبناء الدولة من خلال تعريف المواطنين بحسن أداء الدولة لوظائفها، وما تريد تحقيقه للمواطن والوطن. وعلى وزارة المالية أن تفتح مجالاً واسعاً للحوار مع المختصين في الأجهزة الحكومية من خلال طرح الأفكار وتبادل الآراء نحو عملية الاستجابة لهذا التوجيه الكريم، وأن تبتعد -الوزارة- عن أسلوبها التقليدي في التعامل مع هذه الأجهزة من طرف واحد، وهذا يتطلب وجود قناعة لديها بضرورة دعم مبدأ (استقلالية) الأجهزة لكي تكون قادرة على تحقيق أهدافها بشكل أفضل، وتكون المحاسبة على النتائج أولاً، مع طرح البدائل الممكنة. وأخيراً لا بد من تكثيف الجهود نحو تدريب وتأهيل العاملين في إدارات الميزانية سواء في الوزارة نفسها أم في الأجهزة، من أجل استيعاب المرحلة المقبلة التي تتطلب نظرة شاملة لواقع الميزانية بما ينسجم وتطلعات المواطن، ويقضي على كثير من السلبيات وعلى رأسها الفساد الإداري وانتهاك حقوق الإنسان.. وبالله التوفيق.