أشار معالي نائب وزير المالية والاقتصاد الوطني د.جبارة الصريري في تصريحه المنشور بجريدة الشرق الأوسط ((العدد/8730 في 17/8/1423ه)) إلى ان السلطات المالية السعودية تجري دراسة مكثفة لايجاد تنظيم جديد لموازنة الدولة يتعلق بادخال تعديلات على هيكلة تنظيم بيانات الميزانية، وكشف معاليه ان هذه الدراسات تهدف للانتقال من أسلوب ميزانية البنود إلى ميزانية البرامج، وأوضح معاليه ان هذا التحول يتطلب جهداً كبيراً في تأهيل كوادر الوزارة وكذلك الكوادر العاملة في هذا القطاع لدى الجهات الحكومية المختلفة. إن هذا الاتجاه الذي أشار إليه معاليه أسعد الجميع، وهو ما كان يجب ان تأخذ به الوزارة قبل سنوات، عندما كانت قادرة على ضبط الكوادر العاملة في الجهات الحكومية، أما الانتقال إليه في هذه المرحلة فسوف يكلفها الكثير الكثير، ولسنا هنا مع استحالة تنفيذ الاتجاه، أبداً!!! وإنما ضد التأخر في الأخذ بوسائل التطور، لاسيما في الجوانب الاقتصادية التي تعتمد عليها الدولة في كثير من سياساتها الداخلية والخارجية. جميل جداً ان تنتقل الوزارة إلى الأخذ بأسلوب ((الأداء)) أو ما يعرف ب ((ميزانية البرامج)) فهذا هو الأصل، لأن الأخذ بأسلوب البنود الحالي لم يكن قادراً على معالجة أي مشكلة، ولم يدفع الأجهزة الحكومية إلى التطوير، بل بالعكس أصبح شماعة ترمى عليها كل اشكالات هذه الأجهزة ومعاناتها وعدم قدرتها على تحسين مستوى الأداء، ولم تكن وزارة المالية -طيلة هذه السنوات- بعيدة عن رؤية هذا الخلل، وإنما تتعامل معه بأسلوب بعيد عن التشخيص الحقيقي لواقع المشكلة، فتفرض على الأجهزة الحكومية ما يتلاءم مع توجهاتها باعتبارها الجهة الأقوى في هذا الجانب، وتظل الأجهزة تعاني من سوء التنظيم دون ان تكلف نفسها عناء البحث، لأنها ترمي أي نقص في إجراءاتها أو قصور في مستوى الأداء على سياسة وزارة المالية في تعاملها مع ميزانية هذه الجهات، وفي نفس الوقت تظل الوزارة -المالية - الجهة التي تنكسر عليها النصال، من خلال ثبات موقفها، وكثرة الضغوط عليها، حتى استطاعت إقناع الجهات الحكومية بأن الحديث عن واقع الميزانية ومشكلاتها لا يأتي بنتيجة، وإنما هي الخصم والحكم. إن تصريح معالي نائب وزير المالية يفتح أملاً نحو الأخذ بوسائل التطوير، ذلك ان الدولة الآن بدأت تتجه نحو قياس مستوى الأداء على كل الأصعدة، ولا يتحقق ذلك إلا من خلال إعادة هيكلة الميزانية لتأخذ بالاتجاه الحديث وفق متطلبات الواقع، حيث تشكل الميزانية العامة دوراً مهماً في تحقيق الأهداف الاقتصادية والاجتماعية في جميع الدول. إن ميزانية ((البنود)) التي تأخذ بها وزارة المالية تهتم بالمدخلات، أي بمقدار ماينفق على المشروعات والمرافق والأنشطة المختلفة، دون الاهتمام بطبيعة ونوع الخدمات أو الأنشطة موضوع الانفاق أو المخرجات التي تحققها الأجهزة نتيجة هذا الانفاق، فهي تعتمد على أساس مبدأ الاستحقاق السنوي المفترض، وتقوم على أساس التقسيم الإداري ((حسب الوزارات)) والتقسيم النوعي ((حسب الأبواب))، ورغم ان هذا الأسلوب يتميز بفرض الرقابة على صحة صرف الأموال العامة، بحيث يتسنى معرفة حدود الانفاق العام واتجاهاته مما يمكن معه تحديد المسؤولية بصورة واضحة عند حدوث أي انحراف أو إهمال أو تقصير، إلا أنه لم يكن الأسلوب الأفضل، وإنما نشأ من اعتبار تاريخي طويل، على أساس ان الميزانية العامة لأي دولة تمثل الرقابة على الأموال العامة، وتحوّل ذلك مع الوقت إلى مسمى ((الميزانية العامة)). ولعل وزارة المالية رغم انسجامها مع هذا المنهج، وإحكام رقابتها المالية من خلاله أدركت مع الوقت ان هذا الأسلوب سبب لها الكثير من المشكلات التنظيمية والاجرائية من خلال: 1- صرف الجهد على التفاصيل، وإهمال القرارات الرئيسة التي تؤثر على السياسة العامة للدولة، خاصة مايتعلق منها بسياسة التوظيف واستيعاب الخريجين. 2- فقدان عنصر التخطيط، لأن اهتمام الميزانية يتجه نحو الرقابة والمحاسبة والتدقيق، مع إهمال التخطيط وإعداد البرامج التطويرية، وقياس مستوى الأداء، وتقدير التقدم في تحقيق الأهداف. 3- المعاناة من أسلوب المساومة والضغوط، من خلال التفاوض والشد والجذب عند مناقشة مشروع الميزانية مع المختصين في الأجهزة الحكومية، الجهة تطلب الزيادة ووزارة المالية تصر على التخفيض، وقد نتج عن ذلك أن تلجأ بعض الجهات إلى ان تتعمد المبالغة في ماتعرضه من بيانات وأرقام تعكس الاحتياج، لمعرفتها ان النتيجة تقاس بما يقدم وليس بالواقع. إن المتابع لجهود الوزارة وحرصها على الانتقال من أسلوب البنود إلى أسلوب البرامج يقدر لها هذا الجهد، وهذه الرغبة، وقد لمسنا ذلك بصورة واقعية من خلال تصاريح بعض المسؤولين في الوزارة وماصدر من توجيهات بهذا الشأن، ونحن ندرك حجم المسؤولية الملقاة على الوزارة، ونقدر لها هذا الجهد الذي تبذله. إن تزايد النشاط الحكومي، وما يتطلبه ذلك من زيادة في طلبات الانفاق العام يتطلب إعادة النظر في أسلوب تنظيم الميزانية من خلال الاهتمام بالنتائج وليس الاهتمام بوسائل التنفيذ، وليكن ذلك بصورة عاجلة، حتى لو أدى هذا إلى الضغط على الإمكانات، وتكثيف البرامج اللازمة، لأن هذا التنظيم مرتبط بأهم عنصر لبناء الدولة من خلال تعريف المواطنين بحسن أداء الدولة لوظائفها، ويجب ان تدرك الوزارة ان هذا الأسلوب ليس جديداً وإنما بدأ من عام ((1934م)) أي قبل ما يقارب السبعين عاما عندما أخذت به الولاياتالمتحدةالأمريكية، وانتقل منها إلى كثير من الدول الأوروبية والآسيوية، واهتمت به هيئة الأممالمتحدة عندما أصدرت سنة 1965م كتيباً عن ميزانية ((البرامج والأداء)) حتى توسع الأخذ به، وبدأت الدول تعرف أبعاده، وتحقق نتائج طيبة من خلال تطبيقه على الواقع العملي. على وزارة المالية ان تعمل على ترشيد اختيارات الميزانية من خلال السرعة في تطبيق أسلوب ((ميزانية البرامج أو الأداء)) لأن هذا الأسلوب ينطلق من غايات العمل الحكومي وليس من توزيع الاعتمادات السنوية، بمعنى أنه يركز على الأهداف التي يسعى العمل الحكومي إلى الوصول إليها، والتي تعتبر أهدافاً دائمة للدولة ترى أنها واجبة التحقيق. إننا ندرك حجم المسؤولية نحو الأخذ بهذا الأسلوب، لأنه يعتمد على وجود أرقام قياسية ومؤشرات تعكس الواقع والمتطلب، ونحن لانزال نهمل هذا الجانب، لكننا يجب ان ننطلق!!! ونبارك هذه المرحلة التي تشكل نقلة نوعية في أداء وزارة المالية ونظرتها إلى إعداد الميزانية العامة. إن هذه المرحلة تتطلب نوعاً من القدرة على الأداء، وهذا لايتم إلا من خلال وضع برامج تمثل مجموعة من الأدوات والوسائل المخصصة لتحقيق الأهداف المحددة بدقة، مع وجود أرقام قياسية لقياس النتائج المتوصل إليها، فتعطى كل وزارة أو مصلحة الاعتمادات اللازمة لانجاز أعمالها التي تحقق بواسطتها أهدافها، وهذا يعني ضرورة ان تقتنع وزارة المالية بمبدأ ((استقلالية)) الأجهزة الحكومية لكي تكون قادرة على تحقيق أهدافها بشكل أفضل، مع تحويل الأسلوب الرقابي الذي تمارسه الوزارة على المال العام إلى أسلوب مرن يسمح بالأخذ بالبدائل، وان توجه الوزارة نظرها إلى قياس درجة التقدم نحو تحقيق أهداف الميزانية، بدلاً من الاعتمادات الاجمالية السنوية المحددة سلفاً. على وزارة المالية ان تفتح مجالاً واسعاً للحوار مع المختصين في الأجهزة الحكومية من خلال تبادل الآراء نحو عملية الترشيد، وان تبتعد عن الأسلوب التقليدي الذي يحدد الموقف من طرف واحد، وهو الأقوى، أقصد ((المالية)) طبعاً!!!، لأن تبادل الآراء يترتب عليه طرح عدة خيارات، مما يوسع قاعدة الاختيار، وهذا الأسلوب يمثل أفضل طريقة لاتخاذ القرار وإحكام الرقابة. إن وزارة المالية تدرك دور الأجهزة الحكومية في خدمة أهدافها، لكنها لا تسمح لهذه الأجهزة بممارسة هذا الدور، من خلال القيود التي تضعها عند مناقشة مشروع الميزانية، واعتمادها في قراراتها على تصورات ربما تكون بعيدة عن الواقع، أو يحكمها روتين الأداء، ولنأخذ على سبيل المثال (المشاريع) المتعلقة بالبناء، كم تظل في أدراج المسؤولين رغم ان تأخيرها يتسبب في تحميل الميزانية مبالغ طائلة نتيجة الأجور المدفوعة، والتي قد يصل بعضها -أحياناً- إلى ما يقارب قيمة المشروع المطلوب اعتماده. كذلك الموقف الذي تتخذه نحو عملية ((إحداث الوظائف)) والذي يعتمد بالدرجة الأولى على قوة المنافس وقدرته الشخصية، حتى أثر ذلك على سلامة الهياكل التنظيمية نتيجة التأثير على القاعدة الدنيا للوظائف، وخير مثال على ذلك ما نراه من سباق محموم على عملية ((تعديل المسميات)) وربط ذلك برفع المستوى الوظيفي، فجاء هذا على حساب الوظائف ذات المستوى المتوسط أو الأدنى إلى ان أصبحت شبه معدومة في بعض الجهات، وهذا أثر على مستوى الدخول في الوظيفة العامة، وجعل الناس يحكمون على أجهزة التوظيف بأنها عاجزة عن ايجاد الوظائف للخريجين وأصحاب المؤهلات، وما علموا ان هذا ناتج عن سياسة التمسك بميزانية البنود. يجب ان تدرك وزارة المالية ان من تسميهم متخصصين في أعمال الميزانية سواء ممن يعملون لديها أم من العاملين في الأجهزة الحكومية بحاجة إلى تدريب وتأهيل لاستيعاب المرحلة المقبلة التي تتطلب نظرة شاملة لواقع الميزانية بما ينسجم مع تطلعات المواطن، وعليها ان تدرك هذا جيداً، لأن الواقع الحالي الذي يتم به إعداد الميزانية لايخدم الأجهزة الحكومية بصورة جيدة، وإنما ترك ثغرات واسعة للدخول منها نحو التأثير على أهداف هذه الأجهزة، وترك الباب مفتوحاً على مصراعيه لهذا السباق المحموم نحو الخدمة الذاتية لتحقيق أهداف قريبة على حساب أهداف عامة بعيدة!!! على الوزارة ان تربط مناقشتها لاحتياجات الأجهزة من الوظائف بالواقع الفعلي من خلال الدراسات الميدانية التي يجب ان تقوم بها، وعليها ان تدرك ان الأجهزة ليس بالضرورة ان تكون متماثلة في الاحتياج حتى لو كانت متماثلة في الهياكل، لأن طبيعة الإجراء، والاختصاص تختلف. إن المواطن يتطلع إلى دور الوزارة بأن توسع قاعدة المستوى المتوسط من الوظائف في كل فئاتها لتتمكن من استيعاب أكبر قدر من الخريجين، وألا تمس هذه الوظائف بالتعديل أو الرفع من أجل خدمة فئة قليلة تنالها بالترقية أو الترشيح، لأن الواقع الفعلي يشير إلى قرب انقلاب المعادلة فتصبح الوظائف العليا أكثر من الوظائف ذات المستوى المتوسط أو الوظائف الدنيا، وهذا لايحقق أي هدف، بل إنه يتعارض مع التوجه العام لسياسة التوظيف التي تحرص الدولة على الأخذ بها عندما تصدر الأوامر السامية الكريمة باحداث وظائف جديدة للخريجين والخريجات في مختلف التخصصات. إن المواطن يدرك حرص الدولة على تحقيق رفاهيته وتطلعاته، ويدرك مسؤوليتها الكبيرة والعظيمة في هذا الجانب، لكنه يدرك أيضاً ان تحقيق هذه التطلعات لايمكن ان يتحقق إلا من خلال قدرة الأجهزة العاملة على التطوير وتحقيق الأهداف المنوطة بها، ولعل وزارة المالية تأخذ زمام المبادرة من خلال رغبتها في إدخال تعديلات على هيكلة تنظيم بيانات الميزانية، لكن عليها ان تسابق الزمن في الأخذ به، وتحدث تغييراً جوهرياً في هيكلها أولاً. وشكراً لمعالي نائب الوزير على هذا التصريح وبالله التوفيق.