جاءت الميزانية السنوية للمملكة العربية السعودية متوافقة مع حالة التفاؤل الكبير التي سادت أوساط المجتمع السعودي وشغلت المختصين والمهتمين في ظل الزيادة الكبيرة والمتواصلة في أسعار النفط العالمية ومعها القفزة الهائلة في الإيراد الحكومي مما ساعد على التوسع في الإنفاق العام، ولقد عكست هذه الميزانية التي تُعد الأكبر في تاريخ المملكة القوة والمتانة التي يتمتع بها الاقتصاد السعودي والمقدرة العالية على التعافي من الهزات الاقتصادية التي أُصيبت بها المنطقة في العقدين الأخيرين نتيجة لمتغيرات سياسية واقتصادية أثَّرت بشكل مباشر على أداء الاقتصاد العالمي بشكل عام والاقتصاد السعودي بشكل خاص.. وفيما يلي نظرة تحليلية لأبرز مؤشرات الميزانية: أولاً: مؤشرات عامة بلغ حجم الإيرادات الحكومية 390 مليار ريال بفائض يُقدر ب 55 مليار ريال عن المصروفات التقديرية لسنة الميزانية التي تبلغ 335 مليار ريال مسجلة بذلك أكبر ميزانية في تاريخ المملكة العربية السعودية ومتزامنة مع معطيات اقتصادية عالمية لها تأثير مباشر على واقع ومستقبل الاقتصاد السعودي مثل الارتفاع في أسعار النفط العالمية وانضمام المملكة العربية السعودية لمنظمة التجارة العالمية.. ولقد حظيت القطاعات المختلفة بنصيب وافر من هذه الميزانية لتعكس هكذا زيادة الاهتمام الحكومي المتزايد بتوفير معدلات متزايدة من الرفاهية المجتمعية والحياتية للمواطنين والمقيمين ولتؤكد الحرص العام على استكمال متطلبات البنية التحتية التي ما زالت تعاني من بعض جوانب القصور خاصة في المناطق الأقل نمواً وفيما يلي موجز لأرقام مخصصات القطاعات الخدمية والتنموية: 1 - حظي قطاع التعليم بما نسبته 26% من الميزانية ليعكس المزيد من الاهتمام الكمي والنوعي بهذا القطاع الحيوي الذي ظل يعاني في سنوات الانحسار الاقتصادي من قلة الإنفاق وتدني مستوى البيئة التعليمية سواء من حيث مقرات التعليم أو من حيث التجهيزات العامة أو من حيث الكم الذي ظل قاصرا عن استيعاب الأعداد المتزايدة من الطلاب والطالبات في مراحل التعليم المختلفة.. ولعل أبرز الأرقام التي تشد الانتباه في هذا القطاع إنشاء ثلاث جامعات في جازان وحائل والجوف 2700 مدرسة للبنين و85 كلية جديدة بالإضافة إلى 3 مستشفيات جامعية و35 منشأة تعليمية وتقنية.. هذه الأرقام بلا شك ستشكل إضافة نوعية وكمية تسهم في رفع مستوى خدمة التعليم وتحسن من مستوى مخرجاته لتواكب بذلك متطلبات سوق العمل واحتياجات الوطن التنموية. 2 - قطاع الصحة حظي بنصيب من الاهتمام الحكومي حيث خصصت الميزانية المبالغ المطلوبة لإنشاء 440 مركزاً للرعاية الصحية و24 مستشفى حكومياً جديداً مما سينعكس على مستوى الخدمات الصحية ويزيد من توفرها للمحتاج من المواطنين في مناطق المملكة المختلفة. 3 - وفي مجال الخدمات البلدية التي تلامس احتياجات المواطن ومتطلباته اليومية فقد خصص ما نسبته 4% من الميزانية لهذا المجال الهام منها 10 مليارات ريال لمشاريع جديدة في كافة مناطق المملكة، وهذا من شأنه أن يسهم في رفع مستوى الخدمات البلدية ويزيد من النطاق الجغرافي الذي تغطيه هذه الخدمات ويقلل من فرص التلوث البيئي الذي تعاني منه بعض المناطق وبشكل خاص تلك التي لم تحظ بنصيب وافر من الاهتمام خلال سنوات الوفرة الاقتصادية الأولى. 4 - أما في الجانب الاجتماعي فقد رفعت الميزانية المخصص السنوي للضمان الاجتماعي بنسبة 80% مقارنة بما كان في العام الماضي كما خصص للإسكان الشعبي مبلغ وقدره عشرة مليارات ريال لتعطي الفرصة لوزارة الشؤون الاجتماعية للتوسع في خدماتها الاجتماعية وتغطية أكبر قدر ممكن من الاحتياجات الضرورية للفقراء والمحتاجين من أبناء الوطن الذين يعانون من ويلات الفقر وشدة ظروف الحياة المعيشية. 5 - وفي مجال النقل والاتصالات تم تخصيص ما نسبته 3.4% من الميزانية لهذا الغرض منها مبلغ وقدره 7.8 مليارات ريال لإنشاء طرق جديدة بطول 5700 كلم مما سيحد من إشكالات التواصل الاجتماعي ويقلل بإذن الله من الحوادث المرورية ويزيد من فرص الوصول إلى الخدمات العامة كالمستشفيات والمدارس وغيرها من مرافق الاحتياج العام. 6 - حظي الجانب التنموي باهتمام خاص في ميزانية هذا العام كما يتضح ذلك من خلال الزيادة الكبيرة في رؤوس أموال صناديق التنمية المختلفة، فقد زاد مخصص صندوق التنمية العقاري بمبلغ 9 مليارات ريال ليصبح 92 مليار ريال وليصبح في مقدور الصندوق التوسع في عملية الإقراض دون الاعتماد الكلي على سداد المقترضين لقروضهم وهذا بلا شك سيزيد من أعداد المستفيدين ويقلل من فترة الانتظار التي وصلت في أوقات سابقة إلى أكثر من عشرة أعوام.. وزاد مخصص صندوق التنمية الصناعي بمبلغ وقدره 12 مليار ريال ليصبح 20 ملياراً.. مؤكداً التوجه العام لدعم الصناعات الوطنية وتشجيع المستثمر السعودي خاصة في ظل البيئة الاقتصادية الجديدة التي تعاني من حمى المنافسة الدولية على استقطاب رؤوس الأموال الأجنبية، وفي مجال الاستثمار التعليمي تم تخصيص 300 مليون ريال لدعم الاستثمار في مجال إنشاء الجامعات والكليات الأهلية، الذي بدوره سيقلل من الاعتماد على التعليم الحكومي ويزيد من فرص تأهيل أبناء الوطن الذين كانوا في السابق يتدافعون تجاه الجامعات الأجنبية في الدول المجاورة بحثاً عن مقاعد دراسية تقيهم على الأقل مضار البقاء بلا عمل خلال سنوات الدراسة الجامعية. ثانياً: استنتاجات عامة من خلال الاستعراض السابق لأرقام مخصصات القطاعات الخدمية وصناديق الإقراض التنموية يمكن الخروج ببعض الاستنتاجات المهمة التي يأتي في مقدمتها: 1 - استمرار اعتماد الاقتصاد السعودي بشكل عام والإنفاق الحكومي بشكل خاص على الإيرادات النفطية كمصدر رئيس للدخل مما يؤكد عجز السياسات السابقة عن تحقيق التنويع المستهدف لمصادر الدخل بالمعدلات المنشودة. وهذا الاستنتاج يؤكد استمرار خاصية الانفتاح الكبير للاقتصاد السعودي على العالم الخارجي وبالتالي استمرار تعرضه لتقلبات اقتصادية خطيرة نتيجة للتقلبات الاقتصادية والسياسية العالمية، وهذا يتطلب وضع استراتيجية وطنية عملية تشرف عليها جهة مستقلة تستهدف تسريع الخطى لتنويع مصادر الدخل وتخفيف الاعتماد على هذه السلعة الخطيرة اقتصادياً وسياسياً.. وفي هذا السياق أرى أن من الضروري عدم الانخداع بالفائض المتحقق لارتباطه الوثيق بتصدير النفط الخام الذي لا يمكن الاعتماد عليه لوضع استراتيجية طويلة الأجل لتنمية وطنية شاملة. 2 - تتميز الميزانية الحالية ونتيجة لحجم الفائض بالسعي الجاد لاستكمال متطلبات البيئة التحتية وبشكل خاص تلك المتعلقة بالبعد الاجتماعي كالمدارس والمستشفيات والجامعات والضمان الاجتماعي.. وهذا يعني أن الهدف الإستراتيجي لهذه الميزانية يمكن وصفه بالسعي لرفع رفاهية وتحسين مستوى المعيشة للمواطن، لكن تبقى مسؤولية المحافظة على هذا المستوى حبيسة المقدرة الوطنية على رفع قدرات المواطن الغني والفقير الإنتاجية حتى يستطيع أن يساهم في صناعة المستقبل الوطني دون أن يعتمد على الخدمات العامة التي تقدم مجاناً. 3 - على الرغم من أهمية دور القطاع الخاص في دعم عملية التنمية وتحقيق سياسة تنويع مصادر الدخل، إلا أن الملاحظ أن صناديق التنمية ذات البعد الإنتاجي كصندوق التنمية الصناعي لم تحظ بالدعم الكافي الذي يمكنها من تفعيل السياسة الوطنية للصناعة خاصة إذا علمنا أن قطاع الصناعة - بالإضافة إلى قطاع الخدمات - يظل القطاع الأكثر قابلية لقيادة التنمية وتخليص الاقتصاد السعودي من خاصية الاعتماد على النفط كمصدر رئيس للدخل.. ولقد كنت أتمنى أن تتضاعف حصة هذا الصندوق حتى يمكن استغلال الموارد غير النفطية وحتى يمكن تجاوز العقبات الإنشائية التي تحد من تنمية المناطق الأقل نمواً وحتى تتحقق لنا فرصة الاستغلال الأمثل للموارد المالية المتاحة التي قد لا تتوفر في المستقبل. 4 - تمَّ تخصيص مبالغ لتخفيض حجم الديْن العام ليصل إلى 475 مليار ريال بنهاية العام، وهذا يعني أن السياسة الوطنية تسعى إلى تخفيف الأعباء عن الأجيال القادمة من خلال تحميل الميزانية الحالية النصيب المتزايد من الديْن العام الذي استهلك للوفاء بمتطلبات الأجيال الحالية.. وفي اعتقادي أننا مطالبون بإعطاء الديْن العام اهتماماً أكبر حتى نستطيع أن نخلص أنفسنا من الالتزامات السابقة التي خلفتها سنوات الجفاف خلال العقدين الماضيين خاصة أن عمر الوفرة الحالية لا يمكن التنبؤ به في ظل التقلبات السياسية العالمية وفي ظل استمرار اعتماد الاقتصاد السعودي على النفط الخم كمصدر رئيس للدخل. ثالثاً: توصيات عامة بعد الحمد لله على نعمه التي لا تعد ولا تحصى ومنها هذه الميزانية الرائعة التي ستحدث نقلة في المستوى النوعي والكمي للخدمات الصحية والتعليمية والاجتماعية، أرى أن من الضروري أن نستشعر أهمية العناصر الأخرى التي تشارك في الحراك الاقتصادي الوطني حتى يمكن تحقيق الاستفادة القصوى من الموارد المتاحة.. وفي هذا الشأن أرى أننا نحتاج إلى الآتي: 1 - تطوير ومتابعة ومراقبة عنصر الإدارة باعتباره الجهاز المباشر لعملية تنفيذ السياسات والمسؤول عن تحقيق الأهداف الوطنية ولعل أهم ما يؤكد هذه الضرورة ما أشار إليه خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز عندما ذكر بأن المسؤولية تقع على الوزراء بعد أن تم تأمين السلاح الفاعل للوفاء بالمتطلبات التنموية.. وهنا لا بد أن نشير إلى أن مستوى التقدم الاقتصادي يسبق بمراحل مستوى الفاعلية الإدارية مما عطَّل الكثير من السياسات وأخّر تنفيذ العديد من المشروعات وبالتالي فإن المال لا يعني بالضرورة تحقيق الغاية ما لم يكن للإدارة دور مباشر في تحسين مستوى الأداء ومراقبة الصرف وجودة التنفيذ.. ولعلي أذكر بأننا كنا سنوات الوفرة الماضية معذورين لعدم وجود الكادر الإداري المؤهل أما الآن وقد صرفت الدولة على تأهيل وتدريب الموظفين الأموال الطائلة، فإن المسؤولية تقع في المقام الأول على الوزراء الذين عليهم اختيار الكادر الإداري القادر على تحقيق تطلعات الوطن وقيادته المباركة. 2 - متابعة تنفيذ المشاريع التنموية التي تعاني في كثير من الأحيان من التأخر ورداءة التنفيذ خاصة في المناطق الأقل نمواً البعيدة عن أنظار أصحاب المعالي الوزراء فنتيجة لعدم توفر الكادر الفني القادر على تغطية مراحل تنفيذ المشاريع ونتيجة لعدم وجود الكفاءة الإدارية لدى أفرع الوزارات المعنية، نجد أن هنالك المشاريع الخدمية التي تعاني من التأخر في التنفيذ على الرغم من توفر السيولة اللازمة ومن رداءة التنفيذ نتيجة لعدم وجود المقاولين المؤهلين والمكاتب الاستشارية الأمنية والذي بدوره أدى إلى هدر المال العام بطريقة غير مقبولة. وبالتالي فإن توفر السيولة وإقرار المشروع لا يعني بالضرورة الوفاء بالمتطلب الاجتماعي ما لم يكن لمتابعة التنفيذ الميدانية دور رائد في رصد خطوات التنفيذ وهذا ما هو مفقود في الوقت الحاضر ونحتاجه بشكل ملح في هذا الوقت وفي المستقبل.. وفي نظري أننا ربما نحتاج إلى جهة مستقبلة تتولى عملية متابعة تنفيذ المشاريع مالياً وإدارياً وفنياً وتساهم في عملية استلام المشاريع حتى لا نضطر إلى إقرار مبالغ لصيانة المشروع فور استلامه أو قبل ذلك. 3 - أهمية إعطاء المناطق الأقل نمواً عناية خاصة ليس فقط في مجال إقرار المشاريع، لكن أيضاً في مجال متابعة تنفيذ هذه المشاريع حتى يمكن تجسير الفجوة التنموية بينها وبين المناطق الأخرى، وحتى يمكن توفير البيئة الاجتماعية والاقتصادية اللازمة لتحقيق الاستقرار الاجتماعي خاصة في المناطق الحدودية ذات البعد الاستراتيجي الهام. 4 - تفعيل دور وسائل الإعلام في إبراز مكونات الميزانية والمشاريع التنموية التي أقرت وفي مجال متابعة تنفيذها ميدانياً لدعم الانتماء الوطني وتبصير المواطن بحجم الرعاية التي يلقاها من قيادة هذه البلاد المباركة. وأخيراً: الأرقام كبيرة والأمل معقود بعد الله بجهود العاملين في الوزارات المعنية، التي نرجو لها التوفيق لتحقيق تطلعات القيادة والمواطنين.