الناس في مختلف مجتمعاتهم، لا يستغني بعضهم عن بعض، ولا يترك بعضهم التعامل مع بعض للاستغناء، بل إن كل مهنة وصنعة، وكل فرد في المجتمع، في القرية أو المدينة، في البادية أو في الريف الزراعيّ، التاجر والفقير، العالم والجاهل، وغيرهم كل في حاجة للتعامل والارتباط مع النوع الآخر: رجالاً كانوا أو نساء، طلاباً كانوا أو معلمين، دعاة ومدعوين,, كلهم ينطبق عليهم قول الشاعر: الناس للناس من بدوٍ وحاضرة بعض لبعض، وإن لم يشعروا خدم هذا التعامل لا يستقيم، ويرتاح إليه الناس، في شئونهم الخاصّة والعامّة، ما لم يقم على أسس من التفاهم، وحسن الأداء، والصدق والأمانة، ولطافة اللسان والثقة المتبادلة. وهذه الصفات قد توجد عند الناس على نوعين: الأول: المنطلق الدينيّ، حيث يؤجر الإنسان على عمله عند ربه، لأنه امتثل لتعاليم دينه، وشريعة ربه، والثاني: المصلحة الدنيوية، سواء لكسب المحمدة، أو لجلب منفعة مالية، أو مادية، وهذا له ما قصد، وأمره إلى الله,. والنوع الأول: قد اهتمّ به دين الاسلام، بتوجيهاته وآدابه، حيث يدعو إلى حسن الخلق، ويحثّ على أمثل الطرق في التعامل مع الآخرين, بل يأمر بالتي هي أحسن في كل أمر,, وهذا ما يسمى في العصر الحاضر بالمثالية: خلقاً وحديثاً وبيعاً وشراء، وصدقاً في الحديث، ووفاء بالعهد. ولأن هذا هو الذي رضيه الله لخير أمة أخرجت للناس، فإن أدبه وتعاليمه، لابدّ أن تكون مثالية في أصلها ومثالية في أثرها على الفرد وعلى الأسرة، ودورها في المجتمع، وعلى مصالح الناس فيه: دينية ودنيوية,, والمسلم يجب أن يهتَمّ بالأثر الدينيّ، أما المصالح الدنيوية فهي تأتي للإنسان بالتبعيّة، لأنها مما قدرها الله عليه,, والإيمان بالقدر خيره وشرّه, جزء من عقيدة المسلم,, ولذا يهيئ الله له الأمرين: تيسير أمور الدنيا، والأجر الحسن مع نيّته الصادقة. وما ذلك الا أن دين الاسلام يحمّل أبناءه لواء الدعوة إلى دين الله الحق، وهو الهدف الأساسي الذي خلق البشر والجنّ من أجله، ومسؤولية الأداء فيه كبيرة، والأمانة الملقاة ثقيلة، يقول سبحانه عن مسؤولية التبليغ لهذا الدين من كل فرد قادر فاهم: وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون (الزخرف 44). هذا الدين بعقيدته الراسخة بالوحدانية لله جل وعلا، وشموليته لمتطلبات الفرد والجماعة، في كل عصر ومصر، الى ان يرث الله الأرض ومن عليها، وبمكانته الثابتة في التعاليم التي لا تتبدل، وفي القلوب بالتصديق وحسن الامتثال، يرسم منهجاً لمن يدعو إليه، ولمن أنعم الله بالهداية إليه، بالتحمّل في سبيله، والصّبر على الأذى فيه، والعفو والصفح والإحسان لمن يرد منه إساءة، سواء عن جهل أو بتعمّد للعداوة والكيد، لأن ذلك يدعو للارتباط بالله، واحتساب الأجر في سبيل الدعوة إليه,, لأن من تنكّب أمراً، لابد أن يتحمّل في سبيله، ومن تصدى للدعوة الى دين الله، وهي اشرف مهنة فلابد أن يكون صبوراً، وأن يكون وافر العلم، واسع الصدر، حليماً فيما يدعو اليه، عالماً فيما ينهى عنه، قدوة حسنة في نفسه وعمله، حسن النطق والحديث، لا يسبّ ولا يشتم,, ويبتعد عن الكلام البذيء والمثير لما عند الآخرين حتى لا يوصف بما ينفّر المتلقّين. ولذا فقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سبّ آلهة الذين يدعون من دون الله، حتى لا يكيلوا الصاع صاعين، فيسبّوا الله، ويتطاولوا على الذّات الإلهية عدواً بغير علم. لأن أدب التعامل، وحسن الدخول الى القلوب، وخاصّة في مجال الدعوة، يدعو الى اللين مع المدعوين، والعطف على جهّالهم، بحسن الدخول في الحديث، واستمالة العواطف، ثم إبانة حقيقة ما يُدعى اليه، التماساً لمواطن الاستجابة، في قلوبهم لعلّ وعسى، يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: حدّثوا الناس بما يعرفون، حتى لا يكذب الله ورسوله,, وهذا من أدب النزول الى مستوى من تتعامل معه، واستمالته بما يدركه عقله، ثم الارتقاء معه تدريجياً، ليعرف حقيقة وأهداف هذا الدين الذي تدعوه اليه، بدون عنف ولا تشنّج. وفي هذا يؤدب الله رسوله بقوله الكريم: ولا تسبّوا الذين يدعون من دون الله، فيسبّوا الله عدواً بغير علم (الأنعام 108). وهذا من حسن المعاملة مع أنهم على ضلال، حتى لا يدفعهم تعصبّهم الأعمى إلى التطاول على ربّ العزة والجلال، مماثلة وتعصباً لما يعبدون من دون الله. وما اكثر ما تحث آيات الذكر الحكيم، وأحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم، على حسن التعامل مع الآخرين، في كل شأن من الشئون، ولكن مجال الدعوة أوسع لأنها تدخل في كل شيء، فقد تتعامل مع التاجر فتكون دعوة، ومع الصانع ومع المزارع ومع البائع والمشتري، ومع كل جنس، فيكون هذا دعوة لدين الله سبحانه,, لأن المسلم يتخلّق بآداب الإسلام، ويتزيّا بزيّه الثابت في شئونه كلها، حتى مع زوجته وأولاده، وكل من حوله,. وقدوتنا في ذلك أنبياء الله، وما يأتيهم من توجيه لحسن التعامل مع الآخرين، ودعوتهم: بالمخاطبة بالتي هي أحسن وعدم الغلظة والجفوة في الدخول معهم، حواراً ومساءلة، فموسى وهارون لما بعثهما الله سبحانه الى فرعون لدعوته الى دين الله وأخذ بني اسرائيل من ملّته، أمرهما جل وعلا بالرفق واللين، بقوله الكريم: (فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى) (طه 44). ونبينا وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم لما حمّله ربه رسالته، يوجهه إلى طريق الدعوة، الممهّد السهل، اللين الذي ينفذ إلى سويداء القلب فيقول سبحانه: (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، وجادلهم بالتي هي أحسن) (النحل 125), ويبيّن سبحانه الخلق الذي جبل نبيّه عليه، ليكون حاملاً أدب الدعوة، الذي هيأه الله له، على أكمل وجه فيقول سبحانه: (ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك) (آل عمران 159)، ثم يعقب ذلك حمله على خصلة من أنبل الخصال في التعامل، واستعباد القلوب واستمالتها، تلك هي خصلة العفو والتسامح، ونسيان ما حصل من إساءة أو نتيجة جهل، لأن لين القلب، والهدوء في التبليغ، رحمة من الله، فكانت من خصال حامل الدعوة: النبيّ الأمية، حتى لا ينفضّوا من حوله، فأمر بالعفو عنهم فقال: (فاعف عنهم، واستغفر لهم) الآية. وهذا الأدب الإلهي الكريم، كان هو مركب أنبياء الله في الدعوة، والأمة لهم بالتبعيّة والقدوة، حيث أخبر صلى الله عليه وسلم عن نبي تطاول عليه قومه، فآذوه، وضربوه حتى أدموه، فكان يمسح الدم ويقول: (اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون),,, ذلك أن من يحرص على التمسك بتعاليم دينه، في زمن اشتدت فيه الغربة، وغلب على الناس الهوى والطمع، والاستسلام للملذّات، فإنه لابدّ أن يثبت ويصبر، وأن يكون محسناً مع الناس، والله يحب المحسنين،رفيقاً بهم (فما كان الرفق في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه). فمن تنكّب طريقاً محتسباً الأجر في عمله من الله سبحانه، فإنه لابد ان يكون مدركاً ما في وعورة هذا الطريق من عقبات كأداء، وأشواك تدمي القدمين، وغيرها من أمور ترتبط بالناس، الراصدين لمنافذ هذا الطريق، والتعامل معهم في بادىء الأمر ليس مطلباً شخصياً، وإنما هو مسارعة إلى مغفرة الله، وطمعاً فيما أعد للمتقين. وحتى يكسب المرء الحسنيين فإنه لابد من النية الصادقة (إنما الأعمال بالنيات)، ولابدّ من القدوة في حسن العمل، والصبر، وبذل المال والجهد الجسماني والعقلاني وكلاهما نفقته مخلوفة ونافعة,, ولا يظن أي إنسان أن التعامل مع الناس بالأمر الهيّن، بل هو يحتاج الى ادراك ودراية، وحسن نيّة. لأستسهلنّ الصعب أو أدرك المنى فما انقادت الآمال إلاّ لصابر يحدّد ربنا سبحانه التضحيات التي يجب بذلها، حتى تتحقق النتيجة الموصلة للهدف بقوله الكريم: (الذين ينفقون في السراء والضراء، والكاظمين الغيظ، والعافين عن الناس، والله يحب المحسنين) (آل عمران 134). فكانت خصال أربع يجب توطين النفوس عليها، وتأديبها على تحمل ما يعترض الطريق، مع الصبر والاحتساب وهي: الإنفاق في السراء والضراء، أي في الشدة والرخاء، مع ان المال أثير على النفس، لكن وضعه في الطريق المشروع، الذي أمر الله به، يخفف الأمرو فتجود اليد بطواعية، وحسن اختيار,, هذه هي الأولى. والثانية: كظم الغيظ، لأن للغضب فورة كفورة البركان، عندما ينفجر ولا يتحمّل الكظم الا من قوي الإيمان في قلبه، وأدرك أن تحقق النتيجة الحسنة، بالصبر وكظم الغيظ، حيث تبرد حرارة الغضب التي أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بإطفائها بالوضوء لأنه من فيح جهنم. الثالثة: العفو عن الناس، وهذا من أرفع منازل حسن المعاملة مع الآخرين، بأن تقبل عثرات المسيء، وتعفو عمن تطاول عليك، قدحاً باللسان، أو اخذاً من مال، أو تناولاً باليد، فإن لهذا العفو أثراً يبرز فيما بعد، وكبح النفس عن الإساءة، من مقابلة التّحمل والعفو، لما في ذلك من أجر عظيم لمن احتسبه، ولم يتركه ضعفاً أو خوفاً. والرابعة: الإحسان، وزكىّ الله هذه الخصلة بمحبته سبحانه للمحسنين، والمؤمن يحب ما يحبه الله، وما يحبه رسوله عن عقيدة وإيمان ويتأسى بذلك لأن للإحسان منزلة في القلوب، وإذكاء المودة يقول الشاعر: أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهمو فطالما استعبد الإنسان إحسان فالتاجر لا تروج بضاعته ولا يألفه الناس ليتعاملوا معه، إلاّ إذا كان سمحاً ليّناً، يعامل الناس برفق وإحسان فيجود على الفقير، بفضل ماله، ويصدق مع من يتعامل معه، ويوفي الكيل والميزان، متأسياً بدلالة هذا الحديث: (رحم الله امرأ سمحاً إذا باع، سمحاً إذا اشترى، سمحاً إذا اقتضى). والمعلم لا يقبل تلاميذه على درسه، ويتأدبون عنده، وتصغي أفئدتهم لما يلقيه، إلا إذا كان حسن التعامل معهم، حريصاً على نفعهم، باذلاً جهده في تعليمهم، وتوجيههم، يقول عليه الصلاة والسلام: (لا تحقرنّ من المعروف شيئاً، ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق) رواه مسلم من حديث أبي ذر الغفاري رضي الله عنه. والباذل للمعروف من ماله، او جاهه أو بحسن خلقه، لا يطلب منه الإنفاق بغير طاقته، ولا العمل فوق استطاعته، لكن يجب ان يصحب الجهد، ما يجعل بذله حالاً مكانه، ليؤدي إلى الرضا في النفوس، إما طلاقة في الوجه، وإما جوداً بما يتيسر ولو كان قليلاً، فقد حدث عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اتقوا النار ولو بشق تمرة، ومن لم يجد فبكلمة طيبة). والجار لا تُكسب مودته إلا بأداء حق المجاورة، زيارة وحفظاً للأولاد بعدم ايذائه أو ايذاء أطفاله، أو عدم اراحته في داخل بيته، وعدم نسيانه من الهدية أيا كان نوعها: تمراً في موسمه، أو لحماً في عيد الاضحى، أو طعاماً عندما تأتي مناسبة او غير ذلك لأن جبريل ما زال يوصي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجار حتى ظنّ أنه سيورثه، وإن كان فقيراً فبالاحسان إليه، ونفحه هو وأسرته بما أفاء الله، وبحسب الطاقة والمقدرة (لا يكلف الله نفساً إلا وسعها). وهكذا في كل موقف حين التعامل مع الآخرين، لأن الإنسان ليس بمعزل عن الناس، ولا بد له من التعامل معهم، وأقل مدخل للألفة ولا يكلف شيئا: ردّالسلام، الذي يزيل الجفوة، ويورث المحبة، والبداءة به سنة وردّه واجب، فهو تحية أهل الجنة، والعلامة التي يتعارف بها المسلمون، خاصّة عندما يكونون في الغربة، وفي بلاد أغلب سكانها من غير المسلمين، يقول صلى الله عليه وسلم: (ألا أخبركم بشيء إذا فعلتموه تحاببتم بينكم؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: أفشوا السلام بينكم) وصيغة السلام: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته,, وهذا الكمال,, أما المجزئ: فالسلام عليكم, ولا يجزىء عنه: مرحباً، أو اهلاً، أو ما يرادف ذلك من الكلمات الأجنبية. ومن المناسب وضع بعض التوصيات في حسن المعاملة مع الآخرين: - عليك أن تعامل الناس بالرفق واللين والإخلاص، وتمحضهم النصح، فإن الرفق ما كان يماثله شيء لأنه يريح القلوب، بأكثر من المال، والإخلاص أجل قدراً من الدرهم، والكلمة اللّينة تكسب الآخرين سروراً، لا تأتي بمثله الهدايا. - عامل الناس بالأدب الذي لا يكلفك شيئاً، بل يكسبك رضاهم، ويلين قلوبهم، ويسهل عليك نيل ما تريد منهم. - أحسن الظن بالناس واذكر محاسنهم، وابتعد عن الغيبة والنميمة، والحسد والبهتان، إن اردت ان تكون بعيداً عن انتقادهم لك، واعلم ان من الواجب الأدبي: أن تتكلم عن الأحياء باحسان، وأن لا تذكر من مات إلا بخير. - لا تتسرع في الكلام مع الناس اذا اعتراك غضب، وتروّ قليلاً لأن هذا من حسن المعاملة واللطف في انتقاء الأشخاص والدقّة في فحص الأقوال والأعمال قبل فوات الأوان,, فالكلمة تملكها قبل خروجها، فإذا خرجت ملكتك. - لا تحتقرن مَن دونك، ولا تفتخر بما عندك من مال، ولا بعقلك، وعليك أن تعرف قدر نفسك, وقدر من تتعامل معه، وأن تنزل الناس منازلهم، وعامل كلاً بحسب درجته ومكانته. - عليك في تعاملك مع الآخرين أن تضع هذه الحكمة بين عينيك: عامل الناس بما تحب أن يعاملوك به. من محاسن الورع: ذكر البيهقي أن رجلاً دخل بئر زمزم، فإذا هو بشخص ينزع الدلو مما يلي الركن، فلما شرب أرسل الدلو فأخذته، فشربت فضلته، فإذا هو سويق لوز، لم أر سويق لوز أطيب منه, فلما كانت القائلة في ذلك الوقت، دخل الرجل وقد أسبل ثوبه على وجهه، ونزع الدلو وشرب, وأرسل الدلو فأخذته، وشربت فضلته، فإذا هو ماء مضروب بالعسل، لم أشرب أطيب منه، فأردت أن آخذ طرف ثوبه، فانظر من هو؟ ففاتني ، فلما كان في المرة الثالثة قعدت قبالة زمزم، فلما كان في ذلك الوقت، جاء الرجل وقد أسبل ثوبه على وجهه فدخل، فأخذت طرف ثوبه، فلما شرب من الدلو وأرسلها قلت: يا هذا أسألك بربِّ هذه البنيّة، من أنت؟ قال: تكتم علي حتى أموت؟, قلت: نعم, قال: أنا سفيان وهو الثوري فتناولت فضلته، فإذا هو ماء مضروب بالسكر الطبرزد اي الأبيض الصلب لم أر قط أطيب منه، فكانت تلك الشربة تكفيني إذا شربتها إلى مثلها من الوقت، لا أجد جوعاً ولا عطشاً (المحاسن والمساوي2: 48). وذكر الخطيب البغدادي أن أبا رجاء قتيبة يقول: لولا الثوري لمات الورع,, ثم ذكر أن رجلاً جاء الى سفيان ببدرة أو قال: بدرتين، وكان أبو ذلك الرجل صديقاً لسفيان جدا، وكان سفيان يأتيه فيقيل عنده، ويأتيه كثيرا فقال: يا أبا عبدالله في نفسك من أبى شيء؟ فأثنى عليه وقال: رحم الله أباك، وذكر من فضله، فقال لسفيان: قد عرفت كيف صار إليّ هذا المال، وأنا أحب أن تقبل هذا الذي جئتك به، تستعين به على عيالك، فقبله منه فخرج الرجل، أو كاد أن يخرج، قال لمن حوله: الحقه فرده، فلما ردّه قال له: يا ابن أخي أحب أن تقبل هذا المال، فإني قد قبلته منك، ولكن أحبّ أن تأخذه فترجع به، فقال له: في نفسك منّي شيء؟ قال: لا ولكن أحبّ أن تقبله، فلم يزل به حتى أخذه، فلما خرج قيل له: هل قلبك هذا حجارة؟ أنت ليس لك عيال؟ أما ترحمهم وترحمنا معهم؟ فقال: تأكلونها أنتم هنيئاً، وأسأل أنا عنها (تاريخ بغداد 9: 161). وذكر ابن عساكر في تاريخ دمشق: أن أبا مسلم الخولاني المشهور بورعه وزهده وعبادته: قد انصرف يوماً إلى منزله فإذا جاريته تبكي فقال لها: يا بنيّة ما يبكيك؟, فقالت: ضربني سيدي ابنك, فدعا ابنه فقال: كيف ضربكِ؟ قالت: لطمني, قال لابنه: اجلس فجلس, فقال لها: الطميه كما لطمكِ, فقالت: لا ألطم سيدي، فقال لها: عفوت عنه؟, قالت: نعم، قال: لا تطلبينه في الدنيا ولا في الآخرة؟, قالت: نعم, قال: اذهبي حتى تشهدي على ما تقولين, فدعت رجالاً، فقال لهم أبو مسلم: إن ابني لطمها لطمة، فدعوتها لتقتصّ من ابني، فأبت ان تقتصّ، فزعمت أنها قد عفت عنه، لا تطلبه لا في الدنيا، ولا في الآخرة، فكذلك؟ قالت: نعم, قال: اشهدكم أنها حرة لوجه الله,, فأقبل عليه بعض القوم، فقال: أعتقتها من أجل أن لطمها ابنك، وليس لك خادم غيرها؟, قال: دعونا منكم أيها القوم، ليتنا نفلت كفافاً، لا لنا ولا علينا (تاريخ دمشق 12: 62 63).