كان هناك شعور جميل مثلج يداعب مَوَاطن الفرح في داخلي حين حللت بمشروع معماري نموذجي لا يمكن أن يقال عنه إلا أنه أحد علامات التطور العمراني في الجزيرة العربية,, وكان هذا الشعور يمتد بأحلامه الكبيرة الى بقية المشاريع التي أخذت تضرب في أبعاد الآماد العليا، بعد أن كانت تضرب في أبعاد الآماد الأدنى في كافة دول الخليج وفي المملكة على وجه الخصوص,, ومنها مشروع الفيصلية الكبير والجميل والمثير لهذه المشاعر ولسعادة تلك الموَاَطن,, والمشاريع الأخرى تترى. لكن الذي عكّر ذلك الشعور، وخدش الفرح فيه أن كل صوت يرد، وكل كلمة تقال، وأي تفاهم يتم سواء كان مواجهة بين الآخر وبينك، أو عن طريق البرمجة المتطورة الضاربة في أبعاد الوسائل الحديثة والدقيقة أنها لا تتم إلا باللغة الانجليزية,, مما أثار في داخلي شيئا كبيرا من الألم,,، وكأن هذه المشاريع لا تقوم بين أبناء لغة الضاد ولا تنجح ولا تأخذ وجاهتها إلا عن طريق تلوينها وزخرفتها باعوجاج اللسان، وتذويب الهوية اللغوية. ذلك تذويب كامل للغة الأم,, وهو ليس مدخلا هينا الى الحضارة الحديثة، وانما هو قتل كامل للغة العربية من خلال سحقها والوقوف فوق أشلائها المتناثرة على الافواه تنتصب خفايا مليئة بنوايا بعيدة، لا أعتقد أنها تخفى على ذي العقل,, فكيف بمن يضطلعون بمشاريع بنائية حضارية هامة ويغفلون مناط تميزهم، وهوية أصولهم، داخل أراضيهم وفي مراكز انتمائهم؟. لا أبالغ اذا قلت إنني كنت مخدوشة الفرحة، مألومة النفس، لكنني لم أجد من أحادثه بشأن هذا الالم ولا تلك الانكسارات إلا شخصية نسائية كبيرة في الامارات كانت تدعوني الى حفل شاي مقتصر وتداولنا هذا الأمر,, وأحسب أنه استقر بشكل إيجابي في داخلها عسى أن يخرج بشكل يكون له دور في التلافي السريع لمثل هذه الأخطاء الجائرة في حق اللغة العربية. ذكرني ذلك بالرغبة التي تعتري غالبية الأسر المسلمة حين ينشأ صغارها عن مرحلة الرضاع فأول المدارس التي يتسابقون اليها تلك التي تعلم باللغة الأجنبية. وينشأ الصغير يتقن هذه اللغة ولا يستطيع أن يستقيم على لسانه حرف الضاد ولا العين ولا جملة عربية تخلو من الاهتزاز باللّحن والتكسير. ولئن كانت المشاريع الكبيرة في الدول العربية تلجأ الى اللغات الأخرى بمظنة أن يبرر لها اتصالها بمصادر هذه اللغات من شركات وبنوك ومؤسسات، ويشرف عليها الملونة عيونهم وشعورهم، تسابقا الى الخبرات,,، لأن اشاعة اللغة العربية في هذه المشاريع تتطلب تدريب صاحب هذه اللغة كي يكتسب ما ينقصه من الخبرات والمعارف كي يكون مؤهلا لهذه الأعمال. فإن التسابق إلى إدراج الصغار في المدارس التي تعلم باللغات الأخرى أو تعلمها بشكل مكثف يبرر بأساليب وأنظمة هذه المدارس، وبرامجها التي تنمي المهارات، وتُكسب الخبرات، وتأخذ بالأساليب الحديثة في التدريس والتقويم وبناء الشخصية. والسؤال الذي يطرحه كل من سئل في هذا الشأن: لماذا لا تكون المدارس في كل برامجها وأساليبها ومناهجها على ما تقوم به هذه التي يقبل عليها الناس في مراعاة لحقيقة يجهلها الجميع وهي أن الواجب الأول للوالدين المسلمين هو تنشئة الصغير على اتقان اللغة العربية مدخلا الى اتقان قراءة القرآن ومعرفة الدين,, وأن المسؤولية الأولى في التعليم للمسلم هي تعليم الأبناء أمور الشرع التي لا تسقط عن أي منهم ولا يقوم بها واحد عن آخر,,، وهؤلاء الشبيبة ينشأون وهم مزودون بكافة الخبرات والمعارف في مجال الرياضة والفن والأناقة والسفر ويجهلون أولويات دينهم، بل لا يكادون يحفظون من القرآن إلا السور الصغيرة لأداء فروض الصلاة,, وكثيرون لا يقيمون الصلاة في أوقاتها، والأكثر يفرطون حتى في اقامتها؟ ان المعضلة الكبرى أن هناك غيابا تاما في أذهان الناس عن واجبهم الأول والأساسي وإن المعضلة الأكبر أنهم لا يميزون قيمة لغتهم، ولا يُثمّنون انتماءهم لهذه اللغة، وان المعضلة الأكبر فأكبر أنهم لا يتحمسون لدينهم الحماس الواجب ذلك لأنهم لم يجدوا من يعلمهم من صغرهم، ولا من ينمي وعيهم، ولا من يربط أمورهم اليومية بأمور دينهم، ولا من يسقيهم مع القطرة بسم الله، ويطعمهم مع النعمة الحمد لله، ويتحلق حولهم يدربهم على قراءة القرآن، وشرح معانيه، ومعرفة أسباب نزول آياته، ويقرئهم سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعلمهم الأحاديث، ويقوّم ألسنتهم، ويدرب خبراتهم، ويقوي عزائمهم بالقدوة من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين، ويعرفهم برجال الاسلام والمحدثين والأئمة الصالحين, وظل هذا الأمر لا يعم وإنما يخص كل من وفقه الله لأن يلج كليات التخصص ,, على الرغم من أن هذا النبع وهذا المعين كان لابد ألا يحصر بالتخصص وإنما يجري بين الناس كل الناس كي تبنى الثقة في أنفسهم، ويعرزون بلغتهم ودينهم فلا تجد المثالب والصغائر والآثام والتفريط دروبها اليهم. ألا ترون العلماء والأدباء والمفكرين والأثرياء والطيبين والصالحين والجاهلين واللاهثين في معية الحياة الدنيا وهم يحملون درجات علمية أو يتقلدون مناصب رفيعة، أو يتطاولون في البناء، أو يخزنون ثرواتهم في البنوك، أو يتصعلكون هنا أو هناك، أو يبحثون وراء أرزاقهم، تعلموا أو لم يتعلموا، عرفوا أو لم يعرفوا وجميعهم يمر بهم الشهر والأشهر وهم لم يجلسوا الى كتاب الله ولا للحظة، ولم يتحلقوا حول حديث أو سيرة عطرة أو موقف عبرة؟ إن سألتهم عن أولويات معارفهم الشرعية ردوك الى ذوي الاختصاص؟ وإن جادلتهم وجدتهم في خواء من أمورهم الدينية؟ هذه مواجهة يقتضيها الوقت. وهي مكاشفة دافعها يقظة. تستحق الالتفات والتقدير.