هؤلاء الذين يحمل اسمهم معنى التشرد والغربة والضياع ثم نبذهم هذا المجتمع وقذف بهم خارج دائرة تعامله كما يقذف السيل الجارف بالزبد المنتشر فوق سطحه وعلى الضفاف الجرداء. لقد دفعني إلى هذه الوقفة آبيات من الشعر قرأتها لعروة ابن الورد أو (عروة الصعاليك) فأعجبت بها إعجاباً ملك على كل مشاعري لأنها تعبر عن صدق إحساس قائلها ونقاء فطرته وصفاء قريحته، وهي قوله: إني امرؤ عافي انائي شركة وانت امرؤ عافي انائك واحد اتهزأ مني ان سمنت وان ترى بجسمي شحوب الحق والحق جاهد افرق همي في جسوم كثيرة واحسو قراح الماء والماء بارد *** ويعبر عروة في هذه الأبيات عن أروع المعاني الإنسانية في نبل الطبع وشرف المحتد وكرم الإيثار، إذ تعرض له أحدهم يعيره بأنه شاحب اللون هزيل الجسم فقال له عروة.. إنني امرؤ يشاركني في طعامي كثير من الفقراء والمحرومين والسائلين، ولذلك فقد أصبحت ناحلاً هزيلاً كما ترى، أما أنت فقد سمنت لأنك تأكل من اناء واحد لا يشركك فيه أحد فأنت القمين بالهزء والخليق بالسخرية لا أنا. ولقد تصورت عروة الهزيل النحيل يقف بعدها بشموخ واعتداد، ويحني الآخر ظهره في خجل واندحار، ليخفي معالم (كرشه الكبير) هذه الصورة (الكاريكاتيرية) التي رسمتها بخيالي لهذا الموقف لازالت عالقة في ذهني ماثلة أمامي وكأنها صورة معلقة في لوحة لا تبرح ناظري وربما شطح الخيال فبالغت في الصورة. فمن هم هؤلاء الصعاليك؟ يقول الدكتور شوقي ضيف في الجزء الأول من كتابه (تاريخ الأدب العربي) العصر الجاهلي ص375 (ويمكن أن نميز فيهم -أي الصعاليك- ثلاث مجموعات من الخلعاء الشذاذ الذين خلعتهم قبائلهم لكثرة جرائرهم مثل حاجز الأذدي وقيس بن الحدادية وأبي الطمحان القيسي ومجموعة من أبناء الحبشيات السود ممن نبذهم آباؤهم ولم يلحقوهم بهم لعار ولادتهم مثل السليك بن السلكة وتأبط شرا. والشنفري وكانوا يشبهون أمهاتهم في سوادهم فسموا هم وأضرابهم باسم أغربة العرب، ومجموعة ثالثة لم تكن من الخلعاء ولا أبناء الحبشيات غير أنها احترفت الصعلكة احترافاً وحينئذ قد تكون أفراداً مثل (عروة بن الورد العبسي) وقد تكون قبيلة برمتها مثل قبيلتي هذيل وفهم اللتين كانتا تنزلان بالقرب من مكةالمكرمة والطائف على التوالي). وتقول الدكتورة بنت الشاطئ في كتابها (قيم جديدة للأدب العربي القديم والمعاصر): (أهدر ابن سلام الاعتراف بهم -أي الصعاليك- في طبقاته ويقول تراثنا أن شعرهم يمثل الفطرة العربية ويعبر عن معاناة وجدانية لمحنة الغربة والتشرد ويعكس صورة مثيرة من واقع حياتهم المحروثة من أنس الجماعة). وتقول: (وفاتنا أو فات كثيرا منا أن نلمح وراء هذا الذي يبدو في ظاهره انطلاقاً وتحرراً، تلك الروابط النفسية التي كانت تشدهم إلى الأهل والعشيرة وأن نحس تلك المرارة التي تفيض بها مشاعرهم وهم يهيمون على وجوههم في الفوات أحراراً فيما يبدو، مشردين غرباء في الواقع). أو ليس صدى ذلك الحرمان الاجتماعي والانفصام عن دنيا الناس ما نراه مسجلاً في ثنايا قصائدهم وأشعارهم المليئة بصدى وحشة الاغتراب وفقدان الاستقرار النفسي. انك لتجد مصداق ذلك في بيت الشنفري. وألف هموم ما تزال تعوده عياداً كحمى الربع أو هي أفضل أو في قوله الذي ينطق بما تركه الخلع الاجتماعي في نفسه. *** ولا تقبروني أن قبري محرم عليكم ولكن أبشرى أم عامر هنالك لا أرجو حياة تسرني سجيس اليالي مبسلا بالجرائر. ولعل ذلك الانطلاق والانسياح في الأرض الواسعة قد ترك في نفوسهم آثاراً من الاستهانة بالصعاب وبالحياة وطبعها بطابع المغامرة وحب الفتك، فهذا تأبط شرا يحدثنا عن نفسه أو عن الصعلوك فيه فيقول: قليل التشكي للمهم يصيبه كثير الهوى شتى النوى والمسالك يظل بمواماة ويمسى بغيرها جحيشا ويعرورى ظهور المالك اذا حاص عينيه كرم النوم لم يزل له كالئ من قلب شيحان فاتك يرى الوحشة الانس الانيس ويهتدي بحيث اهتدت أم النجوم الشوابك فهو قليل التشكي لما يعتمل في نفسه ولم يشكو؟ وهو الغريب الشريد المغامر بحياته فلا يستقر، يجوب الصحراء صباح مساء متعرضاً للمصاعب ممتطياً ظهور المهالك. إذا طرق عينيه الكرى بقى قلبه يقظاً يحميه فهو كمن: ينام باحدى مقلتيه ويتقى باخرى المنايا فهو يقظان نائم وهو جواد كريم لا يسمع عذل العاذل ولا لوم اللائم له على كرمه الزائد وإهلاكه المال في البذل والإنفاق. بل من لعذالة خذالة أشب حرق باللوم جلدى أي تحراق تقول أهلكت مالا لو قنعت به من ثوب صدق ومن بز واعلاق عاذلتي أن بعض اللوم معنفة وهل متاع وأن أبقيته باق وأن أحدهم ليؤثر الجوع ويصبر على الطوى يغتبق الماء القراح فيكفيه في الوقت الذي يتخم فيه الشحيح البخيل بالطعام، وهو -أي الصعلوك- يؤثر بالطعام غيره إذا وجده كل ذلك حتى يحيا عزيزاً فلا يذل لأحد ولا ينحر كرامته على مذبح الاستجداء والذل، ويصور أبو خراش الهذلي ذلك مفتخراً لزوجه فيقول: وإني لأثوي الجوع حتى.. يملني فيذهب لم يدنس ثيابي ولا جرمى واغتبق الماء القراح فانتهي إذا الزاد أمسى للمزلج ذا طعم أرد شجاع البطن قد تعلمينه واوثر غيري من عيالك بالطعم مخافة أن احيا برغم وذلة وللموت خير من حياة على رغم وعروة بن الورد يصور لنا حياة الصعلوك ويعرضها في صورتين متناقضتين صورة الصعلوك. الخامل الهمة الدنئ العزيمة.. يقول: *** لحى الله صعلوكا إذا جن ليلة مصافي المشاش آلفا كل مجزر يعد الغنى من دهره كل ليلة أصاب قراها من صديق ميسر ينام عشاء ثم يصبح قاعدا يحث الحصا عن جنبه المتعفر يعين نساء الحق ما يستعنه فيضحى طليحا كالبعير المحسر وصورة الصعلوك المغامر الجريئ، يبغت أعداءه في عفر دارهم غير هياب ولا وجل، قد عودهم على انتظار غاراته عليهم، فهم يترقبون عودته وينتظرونها مكرهين كما ينتظر الغائب من الأهل. ولله صعلوك صحيفة وجهه كضوء شهاب القابس المتنور مطلا على أعدائه يزجرونه بساحتهم زجر المنيح المشهر وأن بعدو لا يأمنون اقترابه تشوف أهل الغائب المنتظر وذلك أن يلق المنية يلقها حميدا وأن يستغن يوما فأجدر وعروة يصحح مفهوم الصعلكة القائم على النهب والسلب إلى نهج جديد يقوم على التعاون والتكافل الاجتماعي والبر بالفقراء. قال صاحب الأغاني: (كان عروة بن الورد إذا أصابت الناس سنة شديدة وتركوا في دارهم المريض والكبير والضعيف، يجمع أشباه هؤلاء من دون الناس من عشيرته في الشعلة ثم يحضر لهم الأسراب ويكنف عليهم الكنف ويكسبهم ومن قوى منهم خرج به معه فأغار وجعل لأصحابه الباقين في ذلك نصيباً حتى إذا أخصب الناس والبنوا وذهبت السنة، ألحق كل إنسان بأهله وقسم له نصيبه من غنيمه إن كانوا اغتنموها فربما أتى الإنسان منهم أهله وقد استغنى فلذلك سمى (عروة الصعاليك). وكان عروة يحب المغامرة فقد روى أن الناس أصابهم سنة (جذب) فاستصرخوه قائلين يا أبا الصعاليك أغثنا فرق لحالهم وخرج ليغزوا بيهم فاعترضت امرأته سبيله، طالبة إليه البقاء وعدم تعريض نفسه للهلاك لائحة اياه على كثرة غزواته ومغامراته فقال: *** أرى أم حسان الغداة تلومني تخوفني الأعداء والنفس أخوف لعل الذي خوفتنا من أمامنا يصادفه في أهله المتخلف فإني لمستاف البلاد بسربة فمبلغ نفسي عذرها أو مطوف ويقول في موضع آخر: دعيني للغنى أسعى فإني رأيت الناس شرهم الفقير وأبعدهم وأهونهم عليهم وان أمسى له حسب وخير ويقصيه الندى وتزدريه حليلته وينهره الصغير ويلقى ذو الغنى وله جلال يكاد فؤاد صاحبه يطير قليل ذنبه والذنب جم ولكن للغنى رب غفور *** ان مثلي من لا يرضى بالقعود وحياة الخمول ومن يركب الصعاب لا يخشى الموت أو يهاب المخاطر. وغبراء مخشى رداها مخوفة أخوها بأسباب المنايا مغرر قطعت بها شك الخلاج ولم أقل لخيابة هيابة كيف تأمر قال عبدالملك بن مروان: (من زعم أن حاتماً أسمح الناس فقد ظلم عروة بن الورد) إن عروة لا يجمع المال لنفسه وحده ولو أراد ذلك لأثرى بل حسبه من هذه الدنيا سيف وحصان يدخرهما للملمات وهذا رأس ماله الذي يفخر به ويعتز: وذي أمل يرجو ثرائي وان ما يصير له منه غدا لقليل ومالي مال غير درع ومغفر وأبيض من ماء الحديد صقيل واسمر خطى القناة مثقف واجرد عريان السراة طويل وبعد: فهذه وقفة سريعة وربما كانت بقدم واحدة ومع يقيني أنه ليس فيها من جديد على القارئ الكريم إلا أن ذلك لم يمنع أن نسجل إعجابنا بهذا اللون من التراث - شعراً ومنهجاً للحياة- من الجانب الإنساني لا الجانب الغوغائي ثم لعل هذا يدفع إلى وقفة منصفة ومستقصية من تراثنا الأصيل. الجوف - ثاني الحميد