في رمضان تتجلّى آثار العبادة على الصائم، من خلق حسن وبر وتواضع وإحسان ولين ورحمة وغير ذلك، وهو مطالب بذلك في رمضان وغير رمضان: وفي الصحيح (الصِّيَامُ جُنَّةٌ، فَلاَ يَرْفُثْ وَلاَ يَجْهَلْ، وَإِنِ امْرُؤٌ قَاتَلَهُ أَوْ شَاتَمَهُ فَلْيَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ .. مَرَّتَيْنِ). ومن أفضل ما يتحلّى به الصائم في رمضان وغيره خلق الحلم، وما أحوجنا لهذا الخلق في كثير من المواقف، خاصة في هذا العصر الذي تتلاحق فيه الأحداث، وتتكاثر فيه الفتن، حتى تدع الحليم حيراناً. وأصل مادة الحلم اللغوية تدلُّ على: ترك العجلة في كلِّ شيء. والحلم هو الطمأنينة عند سورة الغضب، وتأخير مكافأة الظالم على ظلمه، وإذا كان الغضب هو غليان دم القلب للانتقام؛ فالحلم على الضد من ذلك، ففيه معنى احتمال الأذى من الأدنى، وضبط النفس، والأناة والتعقُّل. والحلم خلق يتوسّط بين الغضب والمهانة وسقوط النفس، والانحراف عنه وعدم التخلُّق به ينجرف بصاحبه إلى أحد خلقين: إمّا إلى طيش ونزق وحدة وخفة، وإمّا إلى ذل ومهانة وحقارة. والعدل والوسط هو من سمات هذه الأُمّة، فبعض الحلم إذعان كما أنّ استعماله في بعض الحالات لبّ العقل: لَئِن كُنتُ مُحتاجاً إِلى الحِلمِ إِنَّني إِلى الجَهلِ في بَعضِ الأَحايِينِ أَحوَجُ وَلي فَرَسٌ لِلحِلمِ بِالحِلمِ مُلجَمٌ وَلي فَرَسٌ لِلجَهلِ بِالجَهلِ مُسرَجُ فَمَن شاءَ تَقويمي فَإِنّي مُقَوَّمٌ وَمن شاءَ تَعويجي فَإِنّي مُعَوَّجُ وَما كُنتُ أَرضى الجَهلَ خَدناً وَصاحِباً وَلَكِنَّني أَرضى بِهِ حينَ أُحرَجُ ألا ربما ضاقَ الفضاءُ بأهلِهِ وأمكنَ من بين الأسنةِ مخرجُ فَإِن قالَ قَوم: إِنَّ فيهِ سَماجَةً فَقَد صَدَقوا وَالذُلُّ بِالحُرِّ أَسمَجُ والناس مجبولون على الغضب والحلم معاً، فمن غضب وحلم في نفس الغضب، فإن ذلك ليس بمذموم، ما لم يخرجه غضبه إلى المكروه من القول والفعل، على أنّ مفارقته في الأحوال كلِّها أحمد. وقيل: إذا لم يغضب الرجل لم يحلم، لأنّ الحليم لا يُعرَف إلاّ عند الغضب. وما أحسن توطين النفس على لزوم الحلم والعفو عن الناس كافة، وترك الخروج لمجازاة الإساءة، إذ لا سبب لتسكين الإساءة أحسن من الإحسان، ولا سبب لنماء الإساءة وتهييجها أشد من الاستعمال بمثلها، وأغنى الناس عن الحقد من عظم عن المجازاة، وأجلّ الناس مرتبة من صدّ الجهل بالحلم، وما الفضل إلاّ لمن يحسن إلى من أساء إليه فأمّا مجازاة الإحسان إحساناً فهو المساواة في الأخلاق. فالمسلم يلزم الحلم عن الناس كافة فإن صعب ذلك عليه فليتحالم؛ لأنّه يرتقي به إلى درجة الحلم، وأول الحلم المعرفة، ثم التثبُّت ثم العزم ثم التصبُّر ثم الصبر ثم الرضا ثم الصمت والإغضاء، وما الفضل إلاّ للمحسن إلى المسيء، فأمّا من أحسن إلى المحسن وحلم عمّن لم يؤذه فليس ذلك بحلم ولا إحسان. وثمت فرق بين حلم الذل والعجز والمهانة، وبين حلم الاقتدار والعزة والشرف. كُلُّ حِلمٍ أَتى بِغَيرِ اِقتِدارٍ حُجَّةٌ لاجِئٌ إِلَيها اللِئامُ والحلم كغيره من الأخلاق، إمّا يجبل عليه الإنسان، أويتخلّق به حتى يصير ملكة وسجيّة. ففي صحيح مسلم أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال لأشج عبد القيس: (إِنَّ فِيكَ خَلَّتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ الْحِلْمُ وَالأَنَاةُ). وفي رواية لأبي داود: قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَا أَتَخَلَّقُ بِهِمَا أَمِ اللَّهُ جَبَلَنِي عَلَيْهِمَا ؟ قَالَ: (بَلِ اللَّهُ جَبَلَكَ عَلَيْهِمَا). قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَبَلَنِي عَلَى خَلَّتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ. وفي الأثر: إنّما العلم بالتعلُّم وإنّما الحلم بالتحلُّم ومن يتحرَّ الخير يعطه ومن يتّق الشر يوقه(1). وقال الأحنف بن قيس - رحمه الله تعالى -: لست بحليم ولكنّني أتحلّم. ومن أسمائه سبحانه وتعالى: الحليم؛ يرى معصية عبادة ومخالفتهم لأمره ثم يمهلهم ولا يسارع في عقوبتهم مع اقتداره واستحقاقهم لها، {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ}(61)سورة النحل. ومن شرف اسم الحلم وارتفاع قدره أنّ الله جلّ وعلا تسمّى به {وَاللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ}(225)سورة البقرة، {وَاللّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ}(263)سورة البقرة، {وَاللّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ}(12)سورة النساء. ثم لم يسم بالحلم في كتابه أحداً إلاّ إبراهيم خليله وابنه الذبيح فقال: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ}(114)سورة التوبة، وقال: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ}(101)سورة الصافات. ومن تأمّل سيرة النبي صلى الله عليه وسلم العطرة النيِّرة أدرك أنّه سيد أهل الحلم والفضل والوقار. فهو الذي قال: (لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ، إِنَّمَا الشَّدِيدُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ). وسمّى الذي يملك نفسه عند الغضب صُرعة؛ لأنّه قهر أقوى أعدائه نفسه وشيطانه، وكانوا يعتقدون أنّ الصرعة الممدوح القوي الفاضل هو القوي الذي لا يصرعه الرجال، بل يصرعهم، وليس هو كذلك شرعاً، بل هو من يملك نفسه عند الغضب، فهذا هو الممدّح الذي قلّ من يقدر على التخلُّق بخلقه ومشاركته في فضيلته. وعندما جاءه رجل يقول له: أَوْصِنِي. قَالَ: (لاَ تَغْضَبْ). فَرَدَّدَ مِرَارًا، قَالَ: (لاَ تَغْضَبْ). وهذه الكلمة من جوامع كلمه، وهي أصل في التربية على حسن الخلق وضبط النفس وتقييد هواها. وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أَنَّ رَجُلاً أَتَى النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - يَتَقَاضَاهُ، فَأَغْلَظَ، فَهَمَّ بِهِ أَصْحَابُهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: (دَعُوهُ فَإِنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ مَقَالاً). ثُمَّ قَالَ: (أَعْطُوهُ سِنًّا مِثْلَ سِنِّهِ). قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ لاَ نَجِدُ إِلاَّ أَمْثَلَ مِنْ سِنِّهِ. فَقَالَ: (أَعْطُوهُ فَإِنَّ مِنْ خَيْرِكُمْ أَحْسَنَكُمْ قَضَاءً). وفي البخاري ومسلم عن ابن مسعود قَالَ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - يَحْكِي نَبِيًّا مِنَ الأَنْبِيَاءِ ضَرَبَهُ قَوْمُهُ فَأَدْمَوْهُ، وَهْوَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ، وَيَقُولُ: (اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ). وما أعظم خلق هذا النبي وحلمه على من جهل عليه، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كُنْتُ أَمْشِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَعَلَيْهِ بُرْدٌ نَجْرَانِيٌ غَلِيظُ الْحَاشِيَةِ، فَأَدْرَكَهُ أَعْرَابِي فَجَبَذَ بِرِدَائِهِ جَبْذَةً شَدِيدَةً - قَالَ أَنَسٌ فَنَظَرْتُ إِلَى صَفْحَةِ عَاتِقِ النَّبي - صلى الله عليه وسلم - وَقَدْ أَثَّرَتْ بِهَا حَاشِيَةُ الرِّدَاءِ مِنْ شِدَّةِ جَبْذَتِهِ - ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ مُرْ لِي مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي عِنْدَكَ. فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ فَضَحِكَ، ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ. بل اسمع إليه صلى الله عليه وسلم - كما في الصحيحين - وهو يحكي لعائشة رضي الله عنها ما لاقاه من قومه ومع ذلك يحلم عليهم؛ فقد قَالَتْ له - صلى الله عليه وسلم - هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ؟ قَالَ: (لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ مَا لَقِيتُ، وَكَانَ أَشَدُّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ الْعَقَبَةِ، إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلاَلٍ، فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلاَّ وَأَنَا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي، فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي، فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ فَنَادَانِي فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ، فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ، فَسَلَّمَ عَلَيّ ثُمَّ قَالَ يَا مُحَمَّدُ، فَقَالَ: ذَلِكَ فِيمَا شِئْتَ، إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمِ الأَخْشَبَيْنِ، فَقَالَ النَّبِي - صلى الله عليه وسلم -: بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلاَبِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا). وليس حلمه على قومه فقط، ففي الصحيحين عن عَائِشَةَ - رضي الله عنها - قَالَتْ دَخَلَ رَهْطٌ مِنَ الْيَهُودِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالُوا: السَّامُ عَلَيْكُمْ. قَالَتْ عَائِشَةُ فَفَهِمْتُهَا فَقُلْتُ: وَعَلَيْكُمُ السَّامُ وَاللَّعْنَةُ. قَالَتْ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: (مَهْلاً يَا عَائِشَةُ، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الأَمْرِ كُلِّهِ). فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا! قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: (قَدْ قُلْتُ وَعَلَيْكُمْ). ولقد تجلّى الحلم في أسمى صوره في الجيل الفريد الأول جيل الصحابة في أقوالهم وأفعالهم وفيمن جاء بعدهم من التابعين، وهذه صفحة مشرقة من صفحاتهم: قال عمر رضي الله عنه: كان أبو بكر رضي الله عنه - يوم السقيفة - أَحْلَمَ مِنِّي وَأَوْقَرَ، وَاللَّهِ مَا تَرَكَ مِنْ كَلِمَةٍ أَعْجَبَتْنِي فِي تَزْوِيرِي إِلاَّ قَالَ فِي بَدِيهَتِهِ مِثْلَهَا أَوْ أَفْضَلَ مِنْهَا حَتَّى سَكَتَ. وجاء رجل يسب ابن عباس رضي الله عنه، فقال ابن عباس لمولاه عكرمة: يا عكرمة هل للرجل حاجة فنقضيها؟ فنكس الرجل رأسه واستحى مما رأى من حلمه. وقال ابن عمر رضي الله عنهما: نحن معشر قريش نعد الحلم والجود السؤددَ ونعد العفاف وإصلاح المال المروءة. وبلغ عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنّ جماعة من رعيته اشتكوا من عماله؛ فأمرهم أن يوافوه، فلمّا أتوه قام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيُّها الناس، أيّتها الرعية، إنّ لنا عليكم حقاً: النصيحة بالغيب والمعاونة على الخير، أيّتها الرعاة إنّ للرعية عليكم حقاً فاعلموا أنّه لا شيء أحب إلى الله ولا أعز من حلم إمام ورفقه، وليس جهل أبغض إلى الله ولا أغم من جهل إمام وخرقه. وقال رضي الله عنه: تعلّموا العلم وتعلموا للعلم السكينة والحلم. وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ليس الخير أن يكثر مالك وولدك، ولكن الخير أن يكثر علمك ويعظم حلمك، وأن لا تباهي الناس بعبادة الله، وإذا أحسنت حمدت الله تعالى، وإذا أسأت استغفرت الله تعالى. وقال أيضاً: إنّ أول ما عوض الحليم من حلمه أنّ الناس كلُّهم أعوانه على الجاهل. وقال ابن مسعود - رضي الله عنه -: ينبغي لحامل القرآن أن يكون باكياً محزوناً حكيماً حليماً سكيناً، ولا ينبغي لحامل القرآن أن يكون جافياً ولا غافلاً ولا صخاباً ولا صياحاً ولا حديداً. وقال معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما: لا يبلغ العبد مبلغ الرأي حتى يغلب حلمه جهله، وصبره شهوته، ولا يبلغ ذلك إلاّ بقوة العلم. وسأل عمرو بن الأهتم: أيّ الرجال أشجع؟ قال: من ردّ جهله بحلمه، قال فأيّ الرجال أسخى؟ قال من بذل دنياه لصالح دينه. وقال لعرابة بن أوس: بم سدت قومك يا عرابة؟ قال: كنت أحلم عن جاهلهم، وأعطي سائلهم، وأسعى في حوائجهم، فمن فعل فعلي فهو مثلي، ومن جاوزني فهو أفضل، ومن قصر عني فأنا خير منه. وقال: عليكم بالحلم والاحتمال حتى تمكنكم الفرصة، فإذا أمكنتكم فعليكم بالصفح والإفضال. وأسمعه رجل كلاماً شديداً، فقيل له: لو عاقبته، فقال: إني أستحي أن يضيق حلمي عن ذنب أحد من رعّيتي. وقال طاووس - رحمه الله تعالى -: ما حمل العلم في مثل جراب حلم. وقال وهب بن منبه - رحمه الله تعالى -: الرفق ثني الحلم. وعن الحسن البصري - رحمه الله تعالى - في تفسير قوله تعالى: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا}، حلماء إن جهل عليهم لم يجهلوا. وعن علي بن الحسين - رضي الله عنهما - أنّ رجلاً سبّه فرمى إليه بخميصة كانت عليه، وأمر له بألف درهم؛ فقال بعضهم: جمع له خمس خصال محمودة: الحلم، وإسقاط الأذى، وتخليص الرجل مما يبعده عن الله عز وجل، وحمله على الندم، والتوبة، ورجوعه إلى مدح بعد الذم، اشترى جميع ذلك بشيء من الدنيا يسير. وقال أكثم بن صيفي - رحمه الله تعالى -: دعامة العقل الحلم، وجماع الأمر الصبر. وقال عطاء - رحمه الله تعالى -: ما أوى شيء إلى شيء أزين من حلم إلى علم. وقال عمر بن عبد العزيز - رحمه الله تعالى -: خمس إذا أخطأ القاضي منهن خطة كانت فيه وصمة: أن يكون فهماً، حليماً، عفيفاً، صليباً، عالماً سؤولاً عن العلم. وقال أبوعمروبن العلاء - رحمه الله تعالى -: كان أهل الجاهلية لا يسودون إلاّ من كانت فيه ست خصال وتمامها في الإسلام سابعة: السخاء، والنجدة، والصبر، والحلم، والبيان، والحسب، وفي الإسلام زيادة العفاف. وقال بعضهم: ليس الحليم من ظلم فحلم، حتى إذا قدر انتقم، ولكن الحليم من ظلم فحلم حتى إذا قدر عفا. أسباب باعثة على ضبط النفس: أحدها: الرحمة للجهال وذلك من خير يوافق رقة. قال أبو الدرداء رضي الله عنه لرجل أسمعه كلاما: يا هذا لا تغرقن في سبنا، ودع للصلح موضعاً، فإنّا لا نكافئ من عصى الله فينا بأكثر من أن نطيع الله عز وجل فيه. وشتم رجل الشعبي فقال: إن كنت كما قلت فغفر الله لي، وإن لم أكن كما قلت فغفر الله لك. الثاني: القدرة على الانتصار وذلك من سعة الصدر وحسن الثقة، وقد قيل: ليس من الكرم عقوبة من لا يجد امتناعاً من السطوة. وأحسن المكارم عفو المقتدر، وجود المفتقر. الثالث: الترفُّع عن السباب، وذلك من شرف النفس وعلو الهمة. لا يبلغ المجد أقوام وإن كرموا حتى يذلوا وإن عزوا لأقوام ويشتموا فترى الألوان مسفرة لا صفح ذل ولكن صفح أحلام الرابع: الاستهانة بالمسيء؛ يروى أنّ رجلاً أكثر من سب الأحنف وهو لا يجيبه فقال: والله ما منعه من جوابي إلا هواني عليه. 7وأسمع رجل ابن هبيرة كلاماً بذيئاً فأعرض عنه فقال له الرجل: إياك أعنى. فقال له: وعنك أعرض. الخامس: الاستحياء من جزاء الجواب، وهذا يكون من صيانة النفس وكمال المروءة. وقد قيل: احتمال السفيه خير من التحلِّي بصورته، والإغضاء عن الجاهل خير من مشاكلته. وقال لقيط بن زرارة: وقل لبني سعد فما لي وما لكم ترقون مني ما استطعتم وأعتق أغركم أني بأحسن شيمة بصير وأني بالفواحش أخرق وإن تك قد فاحشتني فقهرتني هنيئاً مريئاً أنت بالفحش أحذق. السادس: التفضُّل على السبّاب؛ فهذا يكون من الكرم وحب التآلف، وقد حكي عن الأحنف بن قيس أنه قال: ما عاداني أحد قط إلاّ أخذت في أمره بإحدى ثلاث خصال: إن كان أعلى مني عرفت له قدره، وإن كان دوني رفعت قدري عنه، وإن كان نظيري تفضّلت عليه. السابع: استنكاف السباب وقطع السباب. وهذا يكون من الحزم، كما حكي أنّ رجلاً قال لضرار بن القعقاع: والله لو قلت واحدة لسمعت عشرا. فقال له ضرار: والله لو قلت عشرا لم تسمع واحدة، وقال الشعبي: ما أدركت أمي فأبرّها، ولكن لا أسب أحداً فيسبّها. والثامن: الخوف من العقوبة على الجواب. وهذا يكون من ضعف النفس وربما أوجبه الرأي واقتضاه الحزم. التاسع: الرعاية ليد سالفة، وحرمة لازمة. وهذا يكون من الوفاء وحسن العهد، وقد قيل في منثور الحكم: أكرم الشيم أرعاها للذمم. قال بعض الشعراء: وللكف عن شتم اللئيم تكرماً أضر له من شتمه حين يشتم ولو لم يكن في الحلم خصلة تحمد إلاّ ترك اكتساب المعاصي والدخول في المواضع الدنسة؛ لكان الواجب على العاقل أن لا يفارق الحلم ما وجد إلى استعماله سبيلا؛ فهو صفة تكسب المرء محبة الله ورضوانه، ودليل كمال العقل وسعة الصدر، وامتلاك النفس، وفيه إعانة الناس لصاحبه ووقوفهم في صفه، وهو صفة من صفات الله سبحانه، وهي من صفات أوليائه، والحلم فيه تآلف القلوب ونشر المحبة بين الناس. اللهم تقبّل منا صومنا وقيامنا إنّك أنت السميع العليم، اللهم أغفر لنا إنّك أنت الغفور الرحيم، اللهم اهدنا إلى سواء السبيل، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، اللهم احشرنا مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا، اللهم متِّعنا بالنظر إلى وجهك الكريم، في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة، اللهم زيِّنا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين، اللهم وفِّقنا لصيام رمضان وقيامه، اللهم ارزقنا فيه الخير. اللهم صل على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم. [email protected] 1- الدارقطني والخطيب عن أبي هريرة والطبراني عن أبي الدرداء. 2- البخاري ومسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه -. 3- البخاري ومسلم. واللفظ للبخاري. 4- البخاري ومسلم.