فطر الله جلَّ وعلا بني آدم وبناته على العفاف وحب الستر ومواراة العورات عن الناس. وجعل اللباس زينة وستراً ووقايةً. قال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ}. إن الستر فطرة تجعل المجبول عليها لا يأذن للعوادي أن تكشفه كائنة من كانت. ولو اضطر يوماً ما إلى أن يبدي سوءته الجسدية لضرٍ ألمَّ به فسيكون ذلك على استحياء وخجل شديدين أمام طبيب ونحوه. ولقد حرص الشيطان على أن يقضي ابتداءً على عنق الزجاجة ومكمن الحياة وهو الستر: {فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ} يخصفان عليها خجلاً من تعريهما، إذ لا يتعرّى وينكشف إلا من فسدت فطرته. ويا لله لقد نسي آدم فنسيت ذريته. ولقد امتن الله جلَّ وعلا على عباده بما جعل لهم من اللباس والريش الذي يوارون به سوءاتهم. فباللباس تستر العورات عن أعين بني آدم. وباللباس يكبح جماح الشهوة الطاغي ويكفكف اللحظ ومماداة البصر من أن ينطلق إلى ما لا يرضي الله تعالى. وباللباس تستر المرأة أنوثتها وتحفظ كيانها على أن تكون علكاً ملتصقاً بأحذية لصوص المرأة وأيدي العابثين حتى تصبح جوهرة في صدفة لا ينظر إليها إلا الخواص وهم الأزواج. وباللباس والستر يقدِّم المرء رجلاً أو يؤخِّرها إذا ما امتدت نفسه إلى خطبة امرأة بالحلال. وباللباس يعرف الذكور والإناث عن مدى احتشامهم واستقامتهم وحبهم للستر مظهراً ومخبراً وبه تُعرف الأسر المصونة من غيرها. وباللباس والستر قد يحمى ركن أساس مما أجمع عليه الأنبياء والرسل قاطبة وهو حماية العرض والنسب من نواهبهما. ولله در القائل: منع السفور كتابنا ونبينا فاستنطقي الآثار والآيات ولا غرو - أيها الإخوة - فإن في مقابل نعمة اللباس والستر والامتنان بهما أن يشرع الحمد من قبل المرء على ما يكسو به معيبه ويواري سوءته. فلقد صحَّ أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول عند الكسوة: (الحمد لله الذي رزقني من الرياش ما أتجمّل به في الناس وأواري به عورتي) رواه الإمام أحمد. والأمر في هذا ليس حكراً على ستر العورة الحسيَّة الجسدية فحسب. بل إن لباس التقوى وستر القلوب خير ما يجمّل المرء، إذ ما عسى ستر البدن أن ينفع إذا كان القلب عارياً. فقد استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال: (الله أكبر ما فتح من الخزائن اليوم. أيقظوا صويحبات الحجر فرب كاسية في الدنيا عارية يوم القيامة) رواه البخاري. فالفطر السليمة والأنفس السوية تجفل بطبعها من ظهور السوأتين وتحرص أشد الحرص على مداراتهما والذين يحاولون في تبعياتهم النكوص عن هذه الحقيقة على علم أو جهل بما يطلقون من دعوات هنا وهناك عبر ألسنتهم وأقلامهم ومقرراتهم لتأصيل هذه المعرة هم الذين يريدون سلب خصائص فطر الإنسان، وإن تعجبوا - أيها الإخوة - فعجب أن اليهود هم أول من شنَّ الحرب على نزع الستر وإظهار السوأة منذ تآمر رجلان منهم في سوق بني قينقاع على نزع حجاب امرأة وكشف سوءتها حينما كانت جالسة في السوق فربطوا خمارها بطرف ثوبها. فلما قامت واقفة بدت سوءتها للناس فاستغاثت بمن حولها ثم توالت بعد ذلك أحداث شبيهة.إن العري سمة حيوانية بهيمية ولا يميل إليه إلا من هو أدنى من الإنسان ومتى رؤي العري والتعرّي جمالاً وذوقاً وتقدماً ومسايرة لركب الغافلين فقولوا على الفطرة السلام. ولتبدأ الآذان مصغية في سماع ما يبكي ويحزن من مآسي التفنن والتنويع في الانسلاخ والتجرد عن قيم الإسلام. ناهيكم عن سوء العواقب المؤلمة وحينئذ واقعون لا محالة فيما حذّرنا منه الباري بقوله: {يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا}. وإن لنا في كل يوم أجناساً من الذكور والإناث تنمو غضة رقيقة لا يتعهدها أحد بسقي ولا رعاية حتى تصيبها الجائحة فتجف وتذبل. كما أن عواصف التغريب ورياح الاستنساخ تحطم أعراقاً متينة من الستر والحشمة طالما أظلت وسقت حتى اجتثت فلا بواكي لها. وفي الوقت نفسه تزهر أفئدة من بني الجنسين ثم تؤتي أكلها ثمراً ناضجاً حلواً فلا يوجد في بعض الجمهور مستبشر بها غير سالم من وكزات دعاوى التخلّف ومعرّة ما يُسمى ب(مشي الرجوع) على حدِّ زعمهم. إن الخلل الذي تعيشه جملة من الشعوب الإسلامية في قضية اللباس والستر إنما كان منشؤه من ممارسات خاطئة في كيفية التعامل مع الحضارة المدنية في كافة شؤونها الحياتية مما علّق مواهبهم وقدراتهم عن تسخيرها باقتدار وإجادة حتى التحقوا بالركب المتقدم عن طريق التشبه والاقتباس منه. وإن الإصابة بحمى اللباس ليست على درجة واحدة بين المسلمين، إذ منهم من شمل السفور والتشبّه نساءه ورجاله أو الكثرة منهم. ومنهم من ظهر فيهم واستعلن. وإن لم يعم ويشمل. ومنهم من بدأ يقرع أبوابهم ويضع إحدى قدميه إن لم تكونا وضعتا كلتاهما. وحدث ولا حرج عن انهماك الكثير بما يُسمى في لغة العصر ب(الموضة)، حيث يتلاعب مصممو اللباس بنفسيات الجنسين في جذب أنظارهم تجاه كل لباس مستحدث مهما كان انسلاخه من معاني الرجولة أو سمات الأنوثة العفيفة. يتم من خلالها استنزاف للأموال واستخفاف بالرعاة ونشر للفاحشة بعرض المفاتن وسبل الإغراء. حتى أصبحت الموضة تكأة للإثراء ووأداً للعفاف لدى كثير من الشعوب. والزمن كفيل في أن يقنعوا جمهور اللاهثين في قبول الأحداث المتجدد المتراوح بين انتشار ما يلبس دون الركبة أو فوقها أو ما يفتح من الجانبين ليبدو ما يتمنى المرء المسلم معه الموت ولا أن يرى يوماً ما شيئاً من ذلك في محارمه.. فإنه التفنن في إذابة الأعراض وإغراء الشعوب بما يبعدهم عن ربهم وخالقهم. وإنه التفنن في تعويد المرأة أن تبدو سافرة متبذِّلة، وأما الشباب فحدِّثوا ولا حرج عن تململهم بلباسهم الرجولي وغدوا في إشفاق مشين بلبسا أهل الفن والمجون. ولسائل أن يسأل: أهكذا نرى شباب المسلمين؟ أو لأي شيء يستنكف الناس لنداءات الفطرة وحدود شرع الله ومنهاجها؟ إن هذه المفاهيم والأخطار المدلهمة ينبغي ألا يفهم إنكار المصلحين لها على أنهم يريدون لها التحجير أو الإبقاء على القديم بحيث يظن البعض أن المراد هو الإلزام بكل ما كانت تلبسه أمهاتنا ومن ولدنهن أو آباؤنا ومن ولدوهم كلا. إن الشرع لم يلزم بذلك. وإنما منع من كشف العورات ومن لبس ما يخدش الحياء أو يبرز المفاتن وترك لنا في الجملة اختيار الزي الذي يلائمنا ويسترنا مهما تجددت صورته ولكن علينا ألا نرى التستر عيباً والعفاف عاراً. وحسبنا تفكيراً برؤوس غيرنا ونظراً بعيون عدونا المتمردة. وقد سأل رجل ابن عمر: ماذا ألبس من الثياب؟ فقال: (ما لا يزدريك فيه السفهاء ولا يعيبك به الحكماء). ألا وإن على التجار في هذا المقام مسؤولية عظمى تجاه ذلك. إذ عليهم أن يوجدوا البديل المباح. وأن يكفوا عن بيع ما يخدش الحياء أو يكشف العورات. وليحذروا مغبة فعلهم وليعلموا أن عليهم إثم ما يبيعونه وإثم من يلبسه إلى قيام الساعة من غير أن ينقص من أوزار من يلبسه شيء. بل ليحذروا الوقوع في أن يكونوا بفعلهم هذا ممن يحب أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا وأنهم مسؤولون عن أموالهم من أين اكتسبوها وفيمَ أنفقوها؟فاللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا. وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة يا رحمن.