منذ مطلع هذا الشهر الكريم تطالعنا الصحف اليومية بين الفينة والأخرى، بسلسلة من الأخبار المؤسفة عن الازدياد الكبير في حوادث الطرق، وما ينجم عنها من خسائر جسيمة في الأنفس وتلف في الممتلكات .. نشعر بالحزن تارة عندما نسمع أو نقرأ عن وقوع حادث مروع ذهب ضحيته أغلب, بل وفي أحيان كثيرة جميع, أفراد أُسرة وما يترتب على ذلك من يتم وترمُّل ومرارة فراق الأحبة والأقرباء. بل إنّنا نمتلئ بالغيظ والغبن تارة أخرى، حينما يتكرر المسلسل الممل والرتيب والمحزن لحوادث سير المعلمات اللاتي يقطعن الفيافي والصحاري القاحلة، ويسافرن مئات الكيلو مترات اليومية في هجير الصيف وزمهرير الشتاء، تاركات صغارهن لأجل تعليم بناتنا القاطنات في الهجر والضواحي النائية لقاء أجر زهيد فرضه بند - (محو الأمية) - الجائر الذي يصادر أبسط الحقوق المادية الآدمية. إنّ السؤال إذاً الذي يبحث عن إجابة هو: لماذا هذه الزيادة المضطردة في حوادث السير؟ .. وهل هناك أسباب اقتصادية سوف تؤدي إلى تفاقم تلك الظاهرة؟ .. حتى نحصل على الإجابة الموضوعية لهذا التساؤل, يجب أن نأخذ بعين الاعتبار جميع العوامل التي من الممكن أن تساهم في وقوع الحوادث, فهناك مسببات تتعلّق بالمركبة والسائق والطريق، هذا بالإضافة إلى القوانين والأنظمة التي تحكم السير. إنّ من أهم أسباب وقوع حوادث السير هو وجود عطل فني في أحد المكونات الأساسية للمركبة، يترتب عليه خلل في القيادة يؤدي إلى الانقلاب أو الاصطدام بعربة أخرى. في أحيان كثيرة يتجاهل مالك المركبة الصيانة الدورية أو يعمد إلى تركيب قطع غيار رخيصة، لكنها رديئة حتى يوفر مادياً أو يزيد هامشه الربحي في حال استخدام المركبة في نشاطات اقتصادية. مما يزيد احتمالية حدوث السيناريو الفائت هو غياب دور جهاز الرقابة على المواصفات والجودة خصوصاً المتمثلة في فحص قطع الغيار المستوردة مما يخلق حافز للشركات الأجنبية المنتجة لاستهداف السوق السعودي بجميع أنواع السلع الرديئة. إنّ المثال الواضح على ذلك هو تدني نوعية إطارات السيارات الموجودة في السوق السعودي، والذي يتسبب في حدوث العديد من حوادث السير المؤلمة, لعل ذلك يعيد إلى الأذهان ماركة الإطارات العالمية الشهيرة تلك التي تم سحبها من الأسواق العالمية قبل بضع سنوات في الوقت التي كان يُعلن عن بيعها للمواطنين على نطاق واسع. يتجاهل وكلاء استيراد وتوزيع السيارات التعليمات التي تصدرها الشركة المصنعة والتي تتناقلها وسائل الإعلام العالمية بضرورة إصلاح الأعطاب التي تكتشف لاحقاً أي بعد بيع المركبة, ولعل الجشع وتراخي الأجهزة الحكومية وجهل المستهلك تُعتبر أهم أسباب عدم اكتراث الموزع باستدعاء وإصلاح السيارات ذات العيوب التصنيعية، مما يتمخض عنه المغامرة بالأرواح البريئة في لقاء الكسب المادي. كما أن الاستخدام الخاطئ للمركبة من تحميلها أكثر من الطاقة القصوى وعدم الاهتمام بقواعد السلامة حين نقل المواد الخطرة يترتب عليه حوادث مروعة يُقتل فيها العشرات. إنّ من الأمور التي تبعث حقاً على الاستغراب هو تهور السائقين السعوديين الذي من المتوقع أن يتضاعف مع وجود التأمين، وذلك لوجود خلل في طريقة فرض رسوم بوليصة التأمين على المركبات وعدم وجود نظام لجمع المعلومات الضرورية عن السائقين للتمييز بينهم في مستوى المخاطر. فمن الناحية النظرية يعاني سوق التأمين من مشكلتين أساسيتين: مشكلة الاختيار الخاطئ Adverse Selection ومشكلة الخطر الأخلاقي Moral Hazard. تتجسّد مشكلة الاختيار الخاطئ في الحالة التي تقوم فيها شركات التأمين برفع أسعار التأمين بشكل كبير جداً مما يؤدي إلى إقصاء السائقين قليلي المخاطر وإقبال الآخرين من أصحاب المخاطر المرتفعة نظراً لأهمية التأمين لهم حتى لو كان سعر البوليصة مرتفعاً .. أما الخطر الأخلاقي فيتمثل في التغير في سلوك قائد المركبة بعد شراء التأمين على المركبة حيث تزداد عدم المبالاة بسلامة الآخرين طالما شركة التأمين سوف تتحمل جميع تكاليف الحوادث من إصلاح وتعويض السيارات التالفة، بل وحتى ديات القتلى. فهذان العاملان سوف يؤديان إلى ارتفاع كبير في حوادث السيارات محلياً في المستقبل، خصوصاً في ظل غياب أي إجراءات عملية للتخفيف منهما. ومما يؤكد هذا التأثير هو توجُّه شركات التأمين السعودية مؤخراً لرفع أسعار التأمين على المركبات على جميع السائقين دون أي مراعاة للفوارق في مستويات التعليم والفئات العمرية والحالة الزوجية والتي تستخدم كمؤشرات لمستوى المخاطر. إنّ المأساة الحقيقية هي تحوُّل بلدنا إلى أكبر مدرسة لتعليم القيادة في العالم حيث يسيطر الأجانب على النقل العام, سواء نقل البضائع أو المسافرين. الغريب أن هؤلاء الأجانب يأتون من بلادهم دون معرفة أبسط أبجديات القيادة والدليل على ذلك أنهم دائماً طرف أساسي في الغالبية العظمى من حوادث السير, وبالتالي يلعب التأمين دوراً كبيراً في تغطية أخطائهم المكلفة في القيادة كما أنهم يعلمون نقاط ضعف الأنظمة المحلية ويستطيعون - بناءً على ذلك - مغادرة البلد هرباً من المسؤولية إذا اقتضى الأمر. تُعتبر جودة الطرق من أهم العوامل في تقليص معدلات حوادث السير, فتندر حوادث السير في البلدان التي تتميز بالطرق الفسيحة الخالية من العوائق التي تفاجئ السائقين, هذا مع توافر العوامل المهمة الأخرى مثل وضوح إرشادات المرور وتطبيق إجراءات صارمة على مخالفي أنظمة السير. وضع الطرق في المملكة العربية السعودية يُعد متميزاً من ناحية الالتزام بالمعايير العالمية، إلاّ أنّ هناك ملاحظة مهمة ألا وهي التراجع السريع في جودة الطريق, فلا يكاد المقاول يفرغ من تعبيد طريق حتى تبدأ عمليات الصيانة المستمرة، وقد يكون ذلك الوضع نتيجة لسببين رئيسيين: * أولاً, غش المقاول لمعايير الجودة نظراً لتراخي الجهة الرقابية في تطبيق الأنظمة وفرض العقوبات على المخالفين .. هذا الوضع يعطي فرصة سانحة للمقاول في رفع هامشه الربحي طالما أن الطريق سوف تتم الموافقة عليه دون إبداء أي اعتراض، وبالتالي يقوم المقاول باستخدام مواد أقل من معايير الجودة المتعارف عليها لأجل تقليص التكاليف. * ثانياً, تجاهل ملاّك الشاحنات للقواعد المنظمة لاستخدام الطرق السريعة مثل التقيّد بالحد الأقصى للوزن مما يترتب عليه تسارع اهتلاك الطريق بعد مضي وقت وجيز من عمره الافتراضي .. إنّ تراجع جودة الطريق يترتب عليه وجود عوائق تؤثر في السلامة المرورية وينتج عنها حوادث مروعة. يُلاحظ التزام المواطنين السعوديين بقواعد السير حين القيادة في الخارج إلاّ أنهم يتقاعسون عن توخِّي الحيطة والحذر محلياً. لعل أهم أسباب هذا التناقض في سلوكيات القيادة مرده إلى تراخي جهاز السلامة المرورية في تطبيق الأنظمة والجزاءات الرادعة على المخالفين بصرف النظر عن مكانتهم الاجتماعية .. لعل من الأمور التي تثير الدهشة حقاً هو تعمّد بعض السائقين ارتكاب المخالفات الخطيرة أمام أنظار رجال المرور دون إعارتهم أي اهتمام, بل إن الأمر الأشد غرابة هو تجاهل رجال المرور وعدم تحرُّكهم لردع المخالفين ومعاقبتهم. إن السبب الحقيقي في هذا السلوك السلبي لدى رجال المرور يكمن في غياب الدافع أو الحافز في تطبيق الأنظمة المرورية, بل على العكس تماماً قد يؤدي حماسهم لملاحقة المخالفين إلى النقل التأديبي إلى إحدى المناطق النائية وبالتالي فإن أفضل سياسة هي غض الطرف وتجاهل تطبيق الأنظمة وإلا سيكون المصير هو النفي القسري لمنطقة تفتقر لمقومات الحياة الأساسية. وختاماً, ما لم تكن هناك رغبة صادقة وإرادة جادة في دراسة وعلاج المسببات المذكورة أعلاه فسوف يستمر هذا الهدر المالي والخسائر الفادحة في الأرواح إلى أمد بعيد. * أستاذ الاقتصاد المساعد - معهد الدراسات الدبلوماسية