* رأى جماعة من كبار المفتشين وهم الأساتذة محمد جاد المولى بك، ومحمد علي مصطفى، ومحمود محمد حمزة، ومصطفى أمين، وأحمد علي عباس، رأى هؤلاء الأكابر بأخلاقهم وآدابهم أن أوقف الجدال الذي أثرته في وجه الأستاذ السباعي بيومي، وحجتهم أنه وصل إلى درجة من العنف تؤذي كرامة المشتغلين بخدمة اللغة العربية، وأنا أجيب هذه الدعوة، لأنها أول دعوة كريمة صدرت، لكف الشربيني وبين من أخاصمهم بقلمي لا بقلبي، فلم أسمع مثل هذا الصوت يوم خاصمت رجالاً أعزّاء، لم يكن يسرني أن يقصم القلم ما بيني وبينهم من عهود.. * ثم قال زكي مبارك بعد كلام طويل يدور هذا المدار: (أذكر أني أهنت رجلاً وادعاً بلا نفع ولا غناء، فما آثرت ميدان النقد الأدبي إلا لغرض نبيل، هو إيقاظ الغوافي من العواطف والقلوب، المهم هو الظفر بنفع محقق للغة العربية، أما العبارات التي آذيت بها الأستاذ السباعي بيومي والتي استوجبت أن يتوسط بيني وبينه كبار المفتشين، وهم لي وله إخوان، فأنا أراها هيّنة رقيقة عليّ شرط أن تُنبّه الغافلين من تلاميذ المرصفي العظيم، وإلا فهي إثم اجترحته في بلاد لا تعرف حقوق الرجال). * هذا بعض ما قاله زكي مبارك في تبرير تخليه عن المعركة، بعد أن أكّد من قبل أنه لن يتراجع، وأن رجالاً رجوه في ذلك فصرخ في وجوههم، وقال إن خدمة الحق أولى من كل مجاملة.. والحق أن زكي لم يكن يتوقع سطوة السباعي عليه بهذه الحدة التي أزعجته حقاً، لأنه تعقب شطحاته التي خرج بها عن الموضوع، فنسفها نسفاً، كما أن إعلانه الصريح بنقد تعليقات زكي مبارك على كتاب زهر الآداب قد أقض مضجعه، فالسباعي محقق عالم دارس وهو في هذه الناحية أقوى من زكي مبارك، الذي لم يكن تحقيق كتاب زهر الآداب لديه إلا وسيلة من وسائل الارتزاق، حين كان مضطراً إليها في ظروف تحدث عنها كثيراً. * والطريف بعد ذلك أن الأستاذ سيد قطب كتب في الرسالة تعليقاً صريحاً قال فيه: (قرأت ما ذكره الدكتور زكي مبارك عن الجدل بينه وبين الأستاذ السباعي بيومي.. وقد رأيت في الصورة التي عرض بها الدكتور زكي مبارك هذه الوساطة ما دعاني إلى الاستفسار من حضرات من ذكرهم عن الصورة الدقيقة لتدخلهم، فعلمت منهم أن وساطتهم بين الأستاذ والدكتور كانت منصبة على أسلوب الجدل لا على موضوعه، وفي نظرهم أن مستوى المناقشة بين أدبين ورجلين من رجال التعليم يجب أن يترفع عن هذه اللهجة.. أما الفحص عن الحقيقة وتصاول الأقلام في الموضوعات العلمية والأدبية، فليس لهم عليها اعتراض، بل يسرهم أن يشجعوا عليهما ويستزيدوا منهما، وهذا رأي الأساتذة الأفاضل الذين احتج بهم الدكتور للانسحاب من المعركة التي أثارها، فإذا كان لدى الدكتور زكي مبارك ما يقوله بالأسلوب اللائق، فليستمر فيه غير ملوم من أحد، ولا مرجو في الانسحاب). * وقد عقبت مجلة الرسالة على قول الأستاذ سيد قطب بقولها: (أرسل إلينا الأستاذ السباعي بيومي مقاله الرابع يهجم فيه على الدكتور زكي مبارك، فهيأناه للنشر، لكن بعض ذوي الرأي والفضل، رغب إلينا أن نوقف هذه المناظرة العنيفة عند هذا الحد، بعد أن ألقى أحد المتناظرين الفاضلين القلم إجابة لدعوة زملائه الكريمة). * والرسالة بذلك قد حمت الدكتور زكي مبارك من سطوة الأستاذ السباعي، وكان عليها أن تنشر المقال الرابع الذي وصل إليها، ثم تُعلن وقف المناظرة، لكنها جاملت زكي مبارك، حين رأته يجنح إلى الهروب. * وإذا كان جمهرة القراء والكُتَّاب قد رأوا أن تراجع الدكتور زكي مبارك يصوّر الهزيمة، كما عبَّر عن ذلك الأستاذ أنور الجندي، الذي قدَّمناه في أول هذا الحديث، فإن باحثاً آخر هو الأستاذ محمد جاد البنا - رحمه الله -، رأى أن المسألة ليست هزيمة، لأن المعركة لم تكن من المعارك الموضوعية، لكنها كانت من المعارك التي لا نصر فيها ولا هزيمة، إنما هي مجال للقدرة على نشر المثالب الذاتية والعيوب الشخصية.. ويبدو أن الأستاذ السباعي قد فهم اللعبة التي يلعبها زكي مبارك، فكال له من الكيل نفسه، وحاربه بالأسلحة نفسها التي يجيد استخدامها، فبدا له وللناس أنه انتصر على زكي مبارك. * وهذا كلام لا يخلو من اعتراض واضح، لأن المعركة موضوعية في صميمها، فهي تتحدث عن موضع الأستاذين المرصفي والسباعي من التحقيق، وموقفهما من المبرد، كما تتحدث عن مُنشئ المقامات في الأدب العربي أهو ابن دريد أم بديع الزمان الهمذاني؟ وقد خرج الدكتور زكي مبارك عن جوهر الموضوع إلى تطاول لا مبرر له، وعرف السباعي أن هذا الخروج سيُضيع لب القضية فجابهه بخروجه عن الموضوع، وكال له كيلاً بكيل، لذلك كان القول يتراجع الدكتور زكي مبارك بأنه هزيمة مما لا شك فيه، لا سيما أنه تعلّل بأن إخوانه المفتشين في وزارة المعارف قد رأوا وقف المناظرة، وهذا ما لم يحدث، إنما كان اعتراضهم على أسلوبها القاسي، أما المناظرة نفسها، فهم يرحبون بها في ضوء الالتزام الخلقي الذي يبعد عن ذكر السفاسف والمهاترات، وهذا ما قاله سيد قطب - رحمه الله -، ولم يستطع زكي مبارك أن ينكره، فالتراجع هزيمة لا شك فيها، ولعلي بسطت موضوع المناظرة، وطريقة تناولها بما يرضي الحقيقة دون تحيُّز لأحد، وهذا ما أبتغيه. ملاحظة : المراجع الخاصة بهذه المناظرة هي: 1- مجلة الرسالة (المجلد التاسع) سنة 1941م، الأعداد الصادرة في 6 يناير، 10 فبراير، 17 فبراير، 24 فبراير، 10 مارس، 17 مارس، 24 مارس. 2- كتاب الأستاذ أنور الجندي (زكي مبارك) ص 152 ما بعدها. 3- كتاب (المعارك الأدبية بين زكي مبارك ومعاصريه) للأستاذ الدكتور محمد جاد البنا، ص 235 وما بعدها. 1- الدكتور زكي مبارك، قال عنه صاحب الأعلام الأستاذ خير الدين الزركلي: (زكي عبد السلام بن مبارك: أديب، من كبار الكُتّاب المعاصرين، امتاز بأسلوب خاص في كثير مما كتب، وله شعر، في بعضه جودة وتجديد، ولد في قرية (سنتريس) بمنوفية مصر، وتعلَّم في الأزهر، وأحرز لقب (دكتور) في الآداب، من الجامعة المصرية، واطلع على الأدب الفرنسي في فرنسا، واشتغل بالتدريس بمصر، وانتدب للعمل مدرساً في بغداد، وعاد إلى مصر، فعين مفتشاً بوزارة المعارف، ونشر مؤلفاته في فترات مختلفة. وكان في أعوامه الأخيرة يوالي نشر فصول من مذكراته وذكرياته في فنون من الأدب والتاريخ الحديث تحت عنوان (الحديث ذو شجون) وأُصيب بصدمة من (عربة خيل) أدت إلى ارتجاج في مخه فلم يعش غير ساعات، وكانت وفاته في القاهرة، ودفن في سنتريس، له نحو ثلاثين كتاباً، منها (النثر الفني في القرن الرابع - ط جزءان)، و(البدائع ط مقالات في الأدب والإصلاح) و(حب ابن أبي ربيعة وشعره - ط) و(التصوف الإسلامي - ط) و(ألحان الخلود - ط ديوان شعره)، و(ليلى المريضة في العراق - ط ثلاثة أجزاء)، و(الأسمار والأحاديث - ط)، و(ذكريات باريس - ط) و(الأخلاق عند الغزالي- ط)، و(وحي بغداد - ط)، و(ملامح المجتمع العراقي - ط)، و(الموازنة بين الشعراء - ط)، و(عبقرية الشريف الرضي - ط جزءان)، و(اللغة والدين في حياة الاستقلال)، ولفاضل خلف: (زكي مبارك) في سيرته وكتبه.. وورد اسمه على بعض كتبه (محمد زكي مبارك). 2- الأستاذ السباعي بيومي: - تخرج في دار العلوم - جامعة القاهرة - عام 1912م، وعين أستاذاً للغة العربية بالمدارس الابتدائية والثانوية، ثم ناظراً لمدارس المعلمين.. وانتقل إلى التدريس بدار العلوم، وظل بها مدرساً وأستاذاً ووكيلاً، حتى أُحيل إلى التقاعد، وهو من تلاميذ الشيخ أحمد الإسكندري، الذين اتبعوا منهجه في التاريخ للأدب، مثل محمد هاشم عطية، ومحمود مصطفى وله مؤلفات، منها: الأدب العربي في العصر العباسي - جزءان كبيران. - كان يكتب المقالات الأدبية في مجلة دار العلوم وفي مجلات الرسالة والسرّاج والمعرفة. - أما معركته الأدبية مع زكي مبارك، فقد دارت على صفحات مجلة الرسالة، سنة 1941م. - اختير أستاذاً للأدب العربي بالجامعة الأمريكية بمصر لعدة سنوات. - شارك في تأليف الكتب المدرسية بوزارة المعارف، مثل كتاب المطالعة التوجيهية وغيرها. - توفي في الستينيات الميلادية، الثمانينيات الهجرية، - رحمه الله -.