مع بدايات انهيار السلطنة العثمانية في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي، ظهرت في العالم العربي تيارات فكرية متنوعة، ونشأت أفكار عربية نهضوية للحاق بالتقدم الغربي يقابلها تيارات سلفية.. وجميعها تبحث عن خلاص للواقع العربي المأساوي. خلال ذلك برزت في الساحة العربية مقولات فكرية ثنائية متضادة: الأصالة والمعاصرة، الهوية والتجديد، المحافظة والتحرر، التقليدية والحداثة.. إلخ. وبدت هذه الثنائيات متخاصمة أو متحاربة، عاكسة حدية ظاهرية.. وإلى يومنا هذا لا تزال هذه الثنائيات تراوح جدلها، وكأننا ثقافياً نعيش ذات الصراع الفكري منذ قرن ونيف! حيث لم يتمكن هذا الصراع أو الحوار أن ينقلنا خطوات فعلية إلى الأمام.. السؤال لماذا لم ننتقل إلى مرحلة متقدمة في هذا الحوار؟ من الناحية التنظيرية، فإن هذه الثنائيات الحدية لا تعكس واقعاً فكرياً أميناً، حيث في الغالب لا نجد بين دعاة الأصالة والسلفية من يرفض التقدم والتطور كفكرة، وبالمقابل لا نجد بين دعاة التحديث والحداثة من يرفض الموروث والأصالة، بل ثمة قواسم مشتركة بين الفريقين، وكذلك بين الفرقاء في التيارات الفرعية الأخرى، التي تراوحت بين هذا وذاك، أو حتى خرجت عن يمين هذا ويسار ذاك.. هذا يعني نظرياً أن الصدام ليس ثقافياً بل ربما موقفاً سياسياً متعنتاً مسبقا. ورغم هذا الخلل أو اصطناع الخصومة الفكرية بين الفرقاء لا بد من التأكيد، أنه لا غضاضة في الجدل أو الاختلاف الفكري بحد ذاته، بل هو ظاهرة صحية طبيعية لتلاقح الأفكار وتفاعلها، إنما الإشكالية أن هذه الصراعات الفكرية تكاد تكون وهمية، بمعنى أنها ذهنية تنظيرية لا علاقة مباشرة لها بالواقع الممارس وبالحراك الاجتماعي وبالمعاش اليومي للشعوب العربية. إنه صراع مثقفين ونشطاء وحركيين سياسياً أو فكرياً، بينما غالبية شعوب المجتمعات العربية يمكن أن يطلق عليها (الغالبية الصامتة)، لا علاقة لها بهذا الجدال.. جدل يتجاوز واقعها وممارساتها.. جدل بعيد عن تحليل المسائل الواقعية والحياتية التي تمس أزمات المجتمع في الشارع والبيت من خدمات بلدية ومشاريع تنموية وخطط اقتصادية استثمارية للبلد. هذا الصراع الفكري بين التيارات الثقافية يتأسس على أرضية نزاع سجالي، والمطلوب ليس فهم الواقع، بل إثبات الصحة المطلقة لهذا الفريق مقابل خيانة الفريق الآخر أو تكفيره أو في أحسن الحالات تفاهته وخطئه الكامل. الطريف أن كل فريق يتهم الآخر بما يشابه التهم التي يوجهها الآخر إليه! رغم تفاوت شكلي في صيغة التهم.. فدعاة الأصالة يتهمون الحداثيين بالعمالة للغرب والتماهي معه ونكران الهوية وتجاهل واقعنا التاريخي، وبالمقابل يتهم الحداثيون السلفيين بنكران العصر وتجاهل واقعنا المعاصر والعمالة مع الغرب الإمبريالي للمحافظة على مصالحهم القديمة.. تسجيل نقاط وسجال لا نفع فيه، لأنه ينشأ من أفكار محضة ويفرخ براهين واستدلالات واستنتاجات منطقية لا علاقة وثيقة لها بالوقائع والأحداث على مسرح الحياة الفعلية. وتغدو وظيفة التنظير هي إعادة إنتاج نفسه عبر أفكار فرعية تتراكم ذهنياً دون أن تفضي إلى أي حلول واقعية. وبطبيعة الحال تتفاوت تلك النظريات في قربها أو بعدها عن الواقع، وفي مستوى تناولها للمجتمع والدولة، وفي الوجهة التي تنطلق منها معطياتها وحيثياتها، ومن ثم تتفاوت في إثباتها ونفيها.. إلخ، لكنها تكاد تتفق في انطلاقها من الذهن وإليه.. ونتيجة لذلك نجد صعوبة في فهم نشوء تيارات فكرية جديدة، مثل تيار الصحوة الإسلامية، لأن التحليل كان يتم بعيداً عن الواقع الفعلي التفصيلي، خاصة أن أغلب التيارات الجديدة كانت تتفرخ من خلال التنافس السجالي الإيديولوجي وليس من خلال التنافس الواقعي المعاش. ولأن الواقع معقد متشابك يستعصي على التنظير الأحادي ويصعب فهمه من خلال التفكير الذهني المجرد نجد أن المنظر العربي يقف بحيرة مبهمة، ولا يكاد يفهم ما يحدث، فيهرب للتنظير المنطقي السهل.. يلوم السلطة أو يلوم المجتمع أو يلوم الاستعمار، أو يلومهم جميعاً.. لكنه قلما يتناول جزئيات هذا الواقع.. وتلك النظريات رغم اهتمامها بالإنسان والعدالة، لم تُعن منهجياً بقضايا الناس المباشرة وغير المباشرة ولم تدرسها، لم تهتم بصياغة مشاريع محددة في التنمية والاستثمار الاقتصادي والضمان الاجتماعي، ولم تضع التنمية في صلب نظرياتها، لم تطرح في بنائها الفكري مشاريع واقعية لمحاربة الفقر، ولم تطرح برامج واضحة ودقيقة للبطالة، لم تلتفت إلى قضايا صحة المجتمع والبيئة، لم تتناول قضايا الإسكان وظروف ذوي الدخل المحدود، لم تصغ استراتجيات وبرامج عمل واقعية تؤثر في المجتمع يمكن تطبيقها، لم تطرح مسائل الخدمات اليومية التي يعانيها الشعب (الكهربية والمائية والمجاري.. إلخ) قدر ما طرحت نظريات عامة ومبادئ وعقائد بشعارات جميلة هي للأدب والفن أقرب منها للسياسة والاقتصاد والاجتماع الواقعي. حين تُهمل التنمية بمعناها العام والتفصيلي من طروحات المثقفين والناشطين والحركيين والإيديولوجيين، يظل الحوار والتنظير يراوح مكانه، وتصبح مقولاتهم لا معنى لها في ساحة الواقع.. ولا يمكن لهؤلاء أن يتحدثوا باسم الشعب دون براهين تثبت مصداقيتهم الواقعية لهذا الحديث، إذ عليهم الدخول في الحركة الاجتماعية وقضايا الناس اليومية وهمومهم الحياتية من خلال الدراسة العلمية والتجربة العملية والرصد اليومي، ومن ثمة صياغة فكرة تطبيقية. نحن في حاجة إلى دراسات علمية منهجياً، تصف الواقع وفق معايير موضوعية محددة وصارمة وواضحة لا مجال للأهواء فيه، من أجل فهم واقعنا وتشخيص علله وطرح احتمالات العلاج.. وسواء وجد هذا التيار أو ذاك أن الوصف العلمي وتشخيص الداء وتوصيات الحل لا تتوافق مع منطلقاته النظرية أو العقائدية، فينبغي علينا جميعاً أن نحترم منهجية البحث العلمي، حيث لا بديل آخر لنا غير هذا المنهج الذي سلكته كافة الدول المتقدمة.. لأن الخيار الآخر هو تنازع الرغبات المريضة بأهوائها العقائدية، والضحية هو فهم الواقع.. وكلمة السر في كل ذلك هو التنمية بمفهومها الاقتصادي والاجتماعي.. وعندما تغيب التنمية يحضر الهدم!!