لا يمكن تصور ممارسة نقدية من دون وجود نظرية، مهما كانت النظرية معقدة أو مجردة. وهذا هو مكمن الانقلاب الذي تبناه جيل النظرية وخاض الصراعات من أجله! فالمفاهيم الجديدة تحتم ظهور منظومة من القيم والمقولات الجديدة وغير المألوفة. وهكذا جاءت تلك المنظومة من المفاهيم صادمة ومزلزلة لمفهوم واعتيادات"الحس العام"الذي تمفهمه كاترين بيلسي كطريقة"لفهم الأدب ليس بوصفه ممارسة واعية أو متعمدة أو كأسلوب يرتكز على موقف نظري عقلاني، وإنما على طريقة قراءة الأدب بطريقة واضحة". وهو إذ يبنى على أساس آيديولوجي واستطرادي"لا يظهر القدرة على فهم الأدب، وذلك بسبب التناقضات الموجودة والنقاط المتضاربة والغامضة فيه"لأنه يستجيب مباشرة للنص. وكل هذا المألوف المكرّس المقرّر مدرسياً ومنبرياً كان بصدد التقويض. ولأن المرحلة كانت تحمل عنوان التأسيس لخطاب نقدي جديد حفلت معظم الكتب بالدراسات التنظيرية. ولم تتجاوز ذلك المدار إلى التطبيق. بل إن بعض الكتب كانت دراسات تنظيرية صرفة، تنهل في شكل مباشر من اللغويات ما بعد السوسورية المنذورة في جوهرها لتقوض مبدأ الحس العام بطريقة جذرية، وطرح ما يشبه الإطار النظري الذي يفسح بدوره المجال أمام تطور ممارسة نقدية بدت حينها راديكالية، لدرجة أن عبدالله نور وصف الواقع النقدي حينها بأنه مجرد إعراب للشعر، ولا ينتمي، حسب تعبيره، إلى مسميات البلاهة البنيوية والتشريحية. لم يتقدم جيل النظرية النقدية بما يكفي في حقل النقد التطبيقي الحداثي، بقدر ما أشبع الساحة بالتنظير، وإثارة المشهد بالسجالات الحادة. إذ تم استدراج التيار بمجمله إلى معركة على هامش النص. ربما لأن معظم أولئك كانوا مسكونين بحسّ المجابهة أكثر من اهتمامهم بالهاجس المعرفي الجمالي. ولم يكونوا بتلك الدراية والقدرة على هضم النظرية وترجمتها على حواف وحقل النص. إذ لم يكن أداؤهم الوظيفي المتمثل في تحريك مدار"النص والتلقي"مقنعاً. لا على المستوى الكمي ولا من الناحية الكيفية. إذ سرعان ما انتهى ذلك الجيل إلى مراوحات الظاهرة الخطابية. احتدم الجدل في بؤرة المقدس والمدنّس من النصوص والخطابات النقدية المصاحبة، ولم تتم حتى اليوم مجادلة طبيعة هذا المنتج المستورد من وجهة نظر ثقافية، وكأن التيار الذي كان يعاني من الاستعراضية والتفكّك في جانب من جوانبه، اختار الانصراف عن صراع الأفكار إلى مناطحة من يوصفون بالقوى التقليدية. حتى عندما قدم سعد البازعي، الذي من المفترض أن يكون رافداً من روافد النقد الجديد طروحاته المضادة لم تؤخذ بالاعتبار، إذ اعتبره عبدالله الغذامي في"حكاية الحداثة"ممثلاً لتيار من الأكاديميين المحافظين، وذلك إثر مقالة في جريدة الرياض يصف ما يجري بالخيانة الثقافية المنتهية بالخيانة الوطنية. لكن نقده المنهجي للتفكيك لم يُجادل كما ينبغي، إذ اعتبره من منطلق تنظيري أيضاً"حالاً من التطور الحتمي للصراع الفلسفي في تاريخ الحضارة الغربية بين الميتافيزيقا والعدمية، وهي حال من التطور الثقافي الغربي من الشفاهية إلى الكتابية، حتى أصبحت العدمية هي الشكل الوحيد الذي سيطمئن إليه الجسد الثقافي الغربي المعاصر". لم يكن سعد البازعي على تلك الدرجة من المخاصمة الفارغة من المحتوى، أو المستندة إلى قناعات لا عقلانية، بل قدم طروحاته المضادة من واقع النظرية التي حمل الآخرون لواءها. ففي بحثه"ما وراء المنهج"المقدم ضمن كتاب"إشكالية التحيُّز - بداية معرفية ودعوة للاجتهاد"الصادر عام 1997 يميل البازعي إلى أن"مناهج النقد الأدبي في الغرب متحيزة في جوهرها للأنساق الحضارية التي نشأت فيها. وأن الناقد العربي أمامه طريقان، الأول: تطبيق تلك المناهج مع مضامينها وتوجهاتها الفكرية المعرفية، والثاني: إحداث تغيير جوهري في هذا المنهج أو ذاك. والنتيجة اختلاف المنهج المُعدّل عن المنهج الأصل". هذا النقد المُهجَّن، الذي يعكس التخبط والاستلاب في اللحظة النقدية العربية والمحلية على حد سواء، كان أحد خيارات سعيد السريحي الذي دعا إلى ما سماه"أقلمة النقد". وهو الأمر الذي اعتبره الغذامي حالة نكوصية، مؤكداً على أن البنيوية فلسفة، وهو بهذا الإقرار يلتقي مع سعد البازعي، الذي يرى أن"الأسس المنهجية للمعرفة تتشكل من خلال رؤية فلسفية كلية، مما يعني أن اختلاف الرؤى الفلسفية مقترن بضرورة اختلاف الأسس المنهجية، أو بتعبير آخر: إذا تغيرت الفلسفة لزم تغيير الأسس المنهجية في البحث والاستقراء المعرفي التي تقوم تلك الفلسفة عليها، أو التي نبعت من تلك الفلسفة". وهو ما يعني أن النقد ممارسة فلسفية، أو امتداد تطبيقي للفلسفة بمعنى أدق. هذا هو ما يفسر خلو كتب سعد البازعي من أية نزعة تنظيرية أو حماسية للنظرية النقدية الغربية بمعناها وأداتها الصادمة. كما بدا ذلك جلياً في إصداراته التي أثارت الجدل من منظور مغاير ككتاب"ثقافة الصحراء - دراسات في أدب الجزيرة المعاصر"الصادر عام 1991. وكذلك كتاب"إحالات القصيدة ? قراءات في الشعر المعاصر". حتى عندما قدم كتاب"دليل الناقد الأدبي"بالاشتراك مع ميجان الرويلي 5991، لم يبالغ في تبني قاموس النظرية الغربية، بقدر ما حاول تقديم جهد علمي منهجي يُقصد منه تمكين المهتمين من المعلومة، وضبط الانفلاتات والاستعمالات الجزافية في الخطاب النقدي، لضبط حركة النظرية الصاعدة في المشهد. في ظل سجالات جيل النظرية الذي كان يأخذ مكانه في الهامش أصيب النص الأدبي باليتم، وكأن مهمة ذلك الجيل تقتصر على ترحيل الدرس النقدي من بيئته إلى المشهد المحلي. كما بدا ذلك على درجة من الوضوح في منجز عبدالله الغذامي تحديداً بتنقلاته ما بين التقويضية والنسوية والنقد الثقافي، ليكتسب باشتغاله الأخير صفة الامتداد والشمول والتماس مع المدارات الإشكالية. إذ يلخص الدكتور معجب الزهراني تلك المحصلة فيما يسميه"لعبة معرفية نحن جميعاً في أمس الحاجة إليها"في مقابلة مع مجلة الحوادث العدد 3112 بتاريخ 5-2-1997 بقوله:"الدكتور الغذامي ماذا عمل؟ إنه شكل من أشكال التجميع التوفيقي بين مجموعة من المقولات التي استعارها من فلان وعلان. إذاً أنا لست بحاجة إلى الغذامي لأنني تواصلت معها في باريس وما زالت مراجعي لدي وأتواصل معها باستمرار". وربما كان ذلك هو خيارهم، إذ استمر معظمهم في التعيُّش على ترجمات الآخر العربي، وفي إنتاج الكتب التي سارت على الوتيرة ذاتها. فأصدر عابد خزندار"رواية ما بعد الحداثة"و"أنثوية شهرزاد"و"معنى المعنى وحقيقة الحقيقة"و"مستقبل الشعر موت الشعر". كما أصدر سعيد السريحي"حجاب العادة ? أركيولوجيا الكرم ? من التجربة إلى الخطاب"و"غواية الاسم ? سيرة القهوة وخطاب التحريم". أما عبدالله الغذامي فأصدر سلسة من الكتب أهمها"المرأة واللغة"و"النقد الثقافي - مقدمة نظرية وقراءة في الأنساق العربية". * ناقد سعودي.