في الحلقات الثلاث السابقة أوردت نماذج من كتابات نثرية وشعرية معبرِّة عن حب الوطن؛ حنيناً إليه وتغنياً به ومكانته في نفوس المعبِّرين عن حبه، وما أجمل أن يُسمع ويقرأ ما يعبر عن ذلك الحب الذي هو فطرة فطر الله عليها الإنسان! وما أجمل أيضاً أن يستمر ترديد ما كتب وقيل في هذا الشأن مساهمة في الإبقاء على جذوة مشاعر حب الوطن حيَّة في نفوس أهله، وتنمية حيويَّة هذه المشاعر! على أن الأكثر جمالاً أن يترجم ما يقال ويكتب عن حب الوطن إلى فعل يؤكد مصداقية الأقوال والكتابات، وبقدر ما يتحقق هذا الفعل تكون المواطنة، فما هي المواطنة؟ وكيف تتحقَّق؟ كان معنى كلمة (مواطنة) - وفق المدلول اللغوي القديم - إضمار فعل أمرٍ ما مع إنسان آخر وموافقته عليه، لكنها تطوَّرت واكتسبت معنى جديداً؛ تماماً كما حدث بالنسبة لكلمة (وطن)، ومن الواضح أن اكتسابها المعنى الجديد قد استُوحي من المصطلح الذي تكون في الفكر الغربي بعد زوال هيمنة الكنيسة على الحياة الاجتماعية في أوربا، وما نتج عن ذلك من تطوُّرات سياسية في تلك القارة، وكلمة (مواطنة) تعني باللغة الانجليزية Citiyemship، وهذا اللفظ يوحي بالبيئة التي ترعرع فيها المصطلح، وهي المدينة City الدالة على تطوُّر اجتماعي متشابك المصالح معقد البنية، وهكذا أصبحت كلمة (مواطنة) تعني معايشة المرء مع القوم في وطن واحد؛ متضمنة الانتماء إليه والولاء له، وفق أداء الواجبات المقررة والتمتُّع بالحقوق المتفق عليها. ولقد أوضح الدين الإسلامي القيِّم لمن تدبَّر أصوله وفروعه، وفهم قيمه ومُثُلَه، تلك الواجبات والحقوق، ومنها الوفاء بالعهد؛ سواء كان بين الحاكم والمحكوم أو بين أفراد المحكومين أنفسهم، والتواد بينهم وكون المسلم أخا المسلم لا يظلمه ولا يحقره ولا يخذله، بل يستره ليستره الله يوم القيامة. ومنها النصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم.. إلى غير ذلك من القيم والمثل النبيلة الفاضلة. ولتحقيق الهدف المنشود من المواطنة لابد أن يشعر كل فرد من أفراد المجتمع؛ رجلاً أو امرأة، بالمسؤولية الملقاة على عاتقه مهما كان موقعه الإداري والاجتماعي، فيؤدي تلك المسؤولية الأداء الذي يستطيعه. للمواطن - بصفته فرداً يعيش في ظلِّ الدولة - حقوق كفلتها الشريعة الإسلامية الغراء. وقيادة هذا الوطن.. المملكة العربية السعودية - زادها الله توفيقاً وسداداً - متعهِّدة أمام الله ثم أمام شعبها أن تطبق هذه الشريعة، هذا واجبها الذي التزمت بالقيام به، ومسؤوليتها التي يجب عليها أن تتحملها، وعهدها الذي بويعت على الوفاء به. وعلى المواطن واجبات يلزمه أن يؤدِّيها؛ سواء كانت تلك الواجبات من حقوق قيادة الدولة أو من حقوق المواطنين المتعايشين معه في الوطن. وفي الشريعة الاسلامية الغراء - كما ذكر سابقاً - ما يوضح تلك الواجبات والحقوق، وفي مراعاة هذه الشريعة، وتنفيذ أحكامها، الخير كل الخير. على أن الحياة المعاصرة - بكل ظروفها - وملابساتها ومستجداتها - حتمت إيجاد أنظمة تحكم نشاط الحكومة والمجتمع على أساس أن تكون هذه الأنظمة منضبطة بأحكام الشريعة العامة، ولقد أصدرت القيادة أنظمة كثيرة في مجالات متعددة من مجالات الحياة، وما ليس موجوداً منها حتى الآن من الأنظمة فهو في طريقه إلى الإصدار، وهذا أمر مهم لكن الأهم هو النجاح في مراعاة تلك الأنظمة وتطبيقها. وللنجاح في تحقيق مواطنة صادقة في المجتمع عوامل من أهمها: القدوة بالقدوة الحسنة يكون التأثر الإيجابي، فإذا راعى المدير الكبير تطبيق النظام اقتدى به من هو دونه مرتبة في إدارته، وإذا رأى المرءوس عدم مراعاة رئيسه للنظام اقتدى به، أيضاً، إلا من رحم الله، ويجب ألا يغيب عن الأذهان قول الله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ} وما قاله أحد الشعراء مستلهماً - فيما يبدو - ما توحي به الآية الكريمة: لا تنه عن خلق وتأتي مثله عارٌ عليك - إذا فعلت - عظيم وإذا كان الكبير في الإدارة - مثلاً - يقبل مالاً لإنجاز عمل من الأعمال فهل يتوقع أن يتورع المرءوس عن أخذ مثل ذلك المال؟ وقد يكون من دفع المال لم يحصل بدفعه إلا على حقه، لكن هذا العمل يظل عملاً غير مشروع، وباباً من أبواب الفساد الإداري يجب أن يُوصد. قبل دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب - رحمه الله - لم تكن هناك حكومة مركزية في نجد بحيث يمكن أن ينفق على القضاة من بيت المال العام ليقوموا بأعباء القضاء، لذلك وجد بين أولئك القضاة من يأخذون أجوراً من المتخاصمين مقابل الفصل بينهم، مسمين ذلك جُعلا، ومبررين أخذه بعدم وجود مرتبات لهم، أو دخل يسدُّ حاجاتهم. ولما ظهر الشيخ محمد بدعوته عدَّ ما كان يأخذه القضاة المذكورون رشوة؛ قائلا: إن الرشوة تشمل عدم إحقاق الحق إلا بأن يدفع صاحبه ما يدفع للحصول عليه وشبيه بهذه النظرة الإصلاحية نظرته، - رحمه الله-، إلى ما كان يمارس ضد المرأة في ميدان الوقف، فقد كان يوجد من يجعلون نصيبها من الوقف مرهوناً ببقائها حيّة بحيث يحرم أولادها من أن يرثوا عنها ذلك النصيب، وفي هذا ظلم لها، وقد عدَّ الشيخ ذلك الوقف وقف جُنُف، فدعا إلى تجنبه. على أنه كثر المفتون في أيامنا هذه وإن كان الواحد منهم لا يعرف إلا شيئاً محدداً من أمور الشريعة، بل كثر أيضاً، مفتون لا يعرفون شيئاً من أمور هذه الشريعة، ومنهم من راحوا يهاجمون ذلك الشيخ المصلح بطرق متنوّعة؛ بعضها خفيُّ السبب، وبعضها فاضح الهدف. ويوجد بين الموظفين الحكوميين؛ وبخاصة من يتولون شؤون إبرام عقود المشروعات من يقبلون مالاً، أو يشترطون سرا أن يدفع إليهم مال، مقابل ترسية تلك العقود، ولا تسل عن ثرواتهم الطائلة نتيجة لذلك، لكن كثيراً ما يتردَّد في بعض المجالس القول: إن الموظف الفلاني يأخذ مبلغ كذا وكذا لإنجاز التوقيع على العقود، فيعلق من يعلِّق قائلا: على أيِّ حال الذي يأخذ ويعمل أحسن من الذي لا يعمل، وهذا المفهوم يدلُّ على وجود خلل ممقوت في نظرة المجتمع ذلك أن الواجب يقضي أن يكون الموظف أميناً، ويؤدي واجب الوظيفة بنزاهة، ومن المعلوم أن الذي يأخذ الرشوة لن يطالب من دفعها إليه بتنفيذ الشروط التي ينص عليها العقد، وأن الذي يدفعها واثق أنه لن يطالب بتنفيذ تلك الشروط كاملة غير منقوصة، وهذه القضية - إضافة إلى أنها محرمة شرعاً - من أفدح معاول الهدم في المجتمعات. ومما يخلق المواطنة و ينميها توفُّر العدل، وقد قيل: العدل أساس الملك. ومراعاة العدل طاعة لله سبحانه، ومحقق للأمن، وفي قصة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- خير دليل على ذلك؛ إذ ورد فيها قول من رآه نائماً تحت شجرة - وهو الخليفة - (عدلت فأمنت فنمت)، وتحقيق العدل يجعل الناس أكثر رضا بما هم عليه، فلا تختلج في نفوسهم مشاعر التذمر أو التمرد؛ لا على الحكومة ولا على المجتمع. ومعرفة حجم درجة وجود المواطنة في مجتمع وطننا يمكن أن يستدل بأمثلة عليها، ومن هذه الأمثلة مسألة المرور، هناك نظام يحكمها، لكن هناك استهتاراً من بعض الناس تجاه المواطنين الآخرين ورجال المرور على حد سواء، والنتيجة خسائر بشرية ومادية فادحة، بل إن نسبة الوفيات في وطننا نتيجة ذلك الاستهتار أعلى نسبة في العالم، وقد سبق أن تناولت هذه القضية في مقالة عنوانها: (والإرهاب أنواع)، ومن تلك الأمثلة قضية المياه، ومن المعروف ضخامة المبالغ المبذولة لتوفير مياه الشرب في وطن مصادر هذه المياه فيه شحيحة جدا، لكن مع ذلك يوجد إسراف يكاد يكون منقطع النظير في استعمال تلك المياه من قبل فئات المجتمع كلها تقريباً، وقد يجد المرء أستاذاً في جامعة جديراً بأن يكون في طليعة العالمين بأبعاد مشكلة المياه، لكنه لا يأبه بترشيد استعمالها، ومن تلك الأمثلة التعامل مع المنتزهات فكثيراً ما يرى الإنسان بعض الذين يمضون فيها وقتاً معيناً قد تركوها في وضع يشمئز من قصدها بعدهم من الجلوس فيها. على أن من أهم القضايا في مجتمعنا قضيتا الإقليمية والقبلية أهما تزدادان رسوخاً أم تقلاَّن تأثيراً في هذا المجتمع؟ تصعب الإجابة عن هذا السؤال بدون دراسة علمية، لقد تحقق الشيء الكثير في بناء الوطن عمرانياً وحضارياً. وهذا أمر مقدر يحمد الله على تحقُّقه، لكن النجاح في بناء المواطنة المرجوَّة يحتاج إلى بذل المزيد من الجهود الحثيثة. وإذا كان حب الوطن دافعاً إلى تحقيق المواطنة فإن ممارسة المواطنة هي التعبير الصادق عن ذلك الحب، ولعلَّ مسك ختام هذه الكتابة ثلاثة أبيات للشيخ عبدالله الصالح الفالح: بدمي.. بروحي أفتدي هذا الثرى أنا - دون مغناي المفدَّى - من أنا؟ أبداً أنا الباكي إذا وطني اشتكى وأنا الغنيُّ - ولو عدمت - إذا اغتنى في مهجتي ألمٌ وفي قلبي أسى حتى أرى وطني أعزَّ وأمكنا