أطلق خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبدالعزيز إشارة البدء في اتخاذ الإجراءات العملية لمحاربة الفساد، واختار لهذه المهمة الرجل الفذ صاحب العزيمة والحكمة الأمير خالد الفيصل. لا جدال على أن ما حصل منها لم يكن سوى إنذار لطوفان أكبر ما لم تعالج أسباب الفساد وبواعثه، وتبعاته تمثلت في جزء بسيط منه في فاجعة جدة! وما حدث وتداعياته الحالية وربما المستقبلية، يطرح السؤال بقوة: كيف يمكننا أن نواجه الفساد؟ إن الإجابة على السؤال السابق، تقتضي معرفة معنى الفساد، وأسبابه ودوافعه حتى نتمكن من معالجته وصولا إلى الحد منه، أما القضاء عليه فذلك أمر مثالي جدا لا يمكن أن يكون في الحياة الدنيا أبدا. بوجه عام، الفساد هو خيانة الأمانة الملقاة على عاتق كل مؤتمن موظفا كان أم غير ذلك. والخيانة هنا إما (تجاوز) أو (تقصير)، فالموظف مؤتمن على ما تحت يده من معاملات فإن أهمل و قصر فهو خائن، وإن تعدى فهو خائن، والمقاول مؤتمن على مشروعه فإن أهمل و قصر فهو خائن، وإن تعدى فهو خائن. إذن تبدو النتيجة أن المرحلة الحالية تقتضي تضييق المساحة وحصر الحديث عن فساد الموظف العام! لا جدال هنا على أن جميع موظفي الدولة هم أبناؤنا وإخواننا وزملاؤنا خرجوا من بيئتنا وجامعاتنا، بل وبعضهم قد درس في كليات الشريعة وحصل منها على أعلى الدرجات العلمية وألف الرسائل الجامعية المفيدة، ثم خرجوا إلى ميادين العمل يحملون بين صدورهم المثل العليا من الأمانة والورع والزهد وحب الوطن والتفاني في خدمته وخدمة أبنائه ومساعدة الناس وتيسير مصالحهم، فما الذي حصل حتى انزلقوا إلى براثن الفساد وأصبحوا معاول هدم لأنفسهم ومجتمعهم؟ إن أول ما يواجه الموظف العام في عمله هي الثغرات الواضحة في الأنظمة التي تحت يده، بل وفي بعض الأحيان لا يوجد إلا مجرد تعاميم صدرت في أوقات متفرقة على وقائع لها لظروفها الخاصة، فيجتهد الموظف لقياس هذه على تلك وقد يكون قياسا مع الفارق. والمقصود هنا بالأنظمة عامة هو تسهيل مصالح الناس دون الإخلال بالحقوق العامة. فساد الموظف وتبعاً لذلك، فإن الموظف العام يصنف إلى ثلاثة أصناف: الصنف الأول: يعرف التيسير على الناس أبدا، ويتعامل مع معاملاته بكل سلبية وجمود ولا يريد أن يكلف نفسه دراسة أو حلا لموضوع بين يديه ويرد على مراجعيه بالرفض دائما وأبدا، وهو إما يدفع بالمعاملات إلى إدارة أخرى فتظل حائرة بين الأخذ والرد وانتصار كل جهة لرأيها، ويرفع كل ما يظنه غير مكتمل إلى وزارته ملفتا النظر أنه دقيق، وهو قاصر النظر في فهمه لا أكثر، مشكلا بذلك تعطيلا لمصالح الناس وضغطا على إدارته، وهو يعتقد أنه آثر سلامة موقعه ويقف سلبيا مع كل القضايا، ولا يكاد يمر من تحت يده إلا الأمور العادية التي لا تحتاج مثله من خريجي الجامعات المختصين، وهو في موقفه ذلك يشعر بسعادة غامرة حيث يوصف لدى الناس بالشديد. وفي النهاية تجد أن مكتبه مكتظ بالطاعنين في السن رجالا ونساء يرفعون أكف الضراعة إلى الله ويرجونه الفرج، ومثل هذا الموظف تذهب أموال الدولة في تعليمه وتدريبه دون جدوى، ولكن هذا الواقع. الصنف الثاني: يستشعر عظم الأمانة الملقاة على عاتقه والهدف الأساسي من وجوده ألا وهو خدمة الناس وتذليل العقبات الموجوده في معاملاتهم في ظل المقاصد العامة للأنظمة، وبما لا يشكل إخلالا بالمال العام وإنما تفاوت في الأفهام فقط. فتجده محملا بما تعلمه من الرفق بأمور الناس ويسعى جاهدا لإيصال الحقوق لهم ما يجعله محبوبا ومعروفا بين الناس بمساعدته لهم وتسهيل أمورهم دون مقابل ولا شكر، ولا تخلو جميع الإدارات من هؤلاء الشرفاء الذين أفنوا حياتهم في خدمة الناس. جزء كبير من هؤلاء الناس عاش طيلة حياته في بيت بالإيجار ومات مدينا بعد أن قضى عمره في منصب قيادي. وشخصيا أذكر موظفا ينطبق عليه هذا المثل وهو موظف في إحدى كتابات العدل الأولى في مدينة كبيرة «رحمه الله تعالى رحمة واسعة وخلفنا فيه بخير». الصنف الثالث: يميل إلى الجمود والسلبية وتارة يسعى للمرونة والتيسير لقناعته بمشروعية المراجعين في طلباتهم، إلا أن غموض بعض التعاميم وتفاوت تفسيرها يجعله مترددا، فيبدأ بالتيسير على المراجعين لإيصال حقوقهم المشروعة لهم ويخالجه شعور بالذنب دائما بأنه ما كان ينبغي له أن يساعد الناس ليكون في صراع، إلا أنه يقدم على ذلك رغبة في التيسير على الناس فقط دون مقابل، فتنكسر في نفسه هيبة النظام ويبقى على ذلك الحال زمنا. ولأن المجتمع لا يرحمه ولا يرحم حاله، خصوصا حينما يقع في خطأ غير مقصود فيعاقبه مرجعه عقابا شديدا ينسى معه كل حسناته، فيلوم نفسه على مساعدته الناس، وأنه لو بقي جامدا سلبيا لكان أفضل ثم تنقلب نظرته على المجتمع نظرة حقد وغضب فقد كان يسهل على الآخرين أمورهم وعند الخطأ غير المقصود لم ينفعه أحد، ثم ينظر في حاله فيجد أن راتبه ضعيف ويسكن في شقة مستأجرة وسيارته قديمة ووالده مريض أو زوجته مريضة ثم لايجد علاجا مناسبا لوالده إلا بالتوسط لدى فلان، وقد لايجد سريرا لائقا لزوجته في المستشفى إلا بالتوسط هنا وهناك وبذل ماء الوجه في كل جانب، ثم ينظر في ما تحت يده من ولايات من أراض وعقارات بعضها يحتاج الى تعديل أو تصحيح أو إضافة أو إلحاق، وقد لا يكون هناك نظام واضح بل تعاميم متفرقة يجري القياس عليها أو عرف جرى العمل به وهذه محل تفاوت الأنظار بين كتاب إدارته، ويربط ذلك بأحواله المعيشية فتضعف نفسه، وتبدأ النفس الأمارة بالسوء في استغلال الحال ويتغير حال هذا الموظف ويبدأ في الضغط على مصالح الناس بتأخير المعاملات أو إرسالها إلى جهات عدة من باب التطويل، وقد يقبل دعاوى كيدية ممن لا صفة له إطلاقا وذلك لتشديد الضغط على صاحب المعاملة بوجود نزاعات، وهو قد عقد العزم على التكسب من وراء منصبه فينتقل إلى مرحلة لاحقة وهي استغلال ثغرات النظام في الحصول على ما لا يحل، وذلك في ما يتعلق أساسا بإنهاء حقوق المواطنين المشروعة دون غيرها، كما سولت له نفسه وأباحت له ذلك الفعل بدعوى سد حاجته وحاجة من يعولهم وأن ما يفعله ليس واجبا عليه بل من باب المساعدة التي لا تلزمه. وهذا الصنف الثالث، هو نتاج ثغرات الأنظمة والتعاميم المتفرقة، وهنا تتغير قناعته فإن مبادرته لمساعدة الناس وتفهم معاملاتهم والتيسير عليها ليست نابعة من اعتقاده بوجوبها عليه بقدر ما يحققه ذلك له من مكاسب خبيثة، ثم ينتقل إلى المرحلة الخطيرة وهي احتراف الفساد والإضرار بأموال الناس الخاصة والعامة، فلا تكاد تمر عليه معاملة إلا وأجبر صاحبها على الباطل حتى لو كانت معاملته مكتملة، ويهون عنده التزوير والكذب والاستيلاء على المال العام، بعد أن تتلقفه شبكات الفساد الإجرامية التي تخصصت في تخريب وإفساد بعض موظفي الدولة في شتى الإدارات فلها فروع في كل دائرة تقريبا، ويستخدمون جميع أساليب الترغيب والترهيب لضم الموظفين من الوزن الثقيل، وقد يستخدمون أسماء مرموقة في إصدار صكوك أو الحصول على مشاريع دون علم أصحابها ويتحدثون كذبا بأسماء لامعة وهم مما يفعلونه براء، ويبدأ شيئا فشيئا في بيع ذمته لهذه الشبكات التي لا تتركه حتى تهوي به في القاع وتهوي معها كل القيم والمثل والمبادئ التي تعلمها. شبكات الإجرام الشبكات الإجرامية هي المتهم الرئيس في فساد بعض موظفي الدولة وهي التي هوت بمقدرات الوطن، وكشفها واجب ديني. وهذه الشبكات هي التي أجبرت المواطن الضعيف على دفع الباطل استنقاذا لحقه، وهي التي أغرت التاجر بالدفع للإتجار في الأراضي العامة وقد ضمنوا له صكا أو تصريحا أو مشروعا. ويقيني أن يد «أبي متعب» أيده الله تعالى لهم بالمرصاد ولكل مفسد فقد خاب ظنهم وطاش أملهم. ومن المنطقي الإشارة هنا إلى أن هذه الشبكات على مستوى عال من المكر والخبث، فهي أذكى من أن تترك شاهدا على أعمالها ما لم يكن شريكا أو وسيطا أو مواطنا اضطر إلى دفع الرشوة ويخشى من الشكوى خوفا من الملاحقه والمساءلة. وهذا في حد ذاته يشكل مصدر سعادة لها، فهي لن تخسر شيئا وقد ضمنت ألا أحد سوف يفضحها وأن من يحاول سوف يعاقب. وعلاوة على ذلك، فإن هذه الشبكات لن تتوقف أبدا فهي تتطور وتستعد في كل مرحلة لاصطياد موظفين جدد تضعف نفوسهم كما ضعفت نفوس السابقين، بل تزين لهم الباطل بطمأنتهم بأن من سبقهم لم يلحقهم شيء، وإن لحقهم فهو شيء بسيط لقاء ما جمعوا. مبادرة مهمة وفي ظل تعقيدات هذه الشبكات، فإن المخرج الوحيد لكشفها وإسقاطها يحتاج إلى مبادرة مهمة جدا، وصاحب القرار فيها هم ولاة الأمر. وتقتضي المبادرة إعفاء المتضررين من صدور أوراق غير نظامية، صكوكا كانت أو تراخيص أو ترسية لمشروع أوغيرها، من المساءلة والملاحقة الجنائية، إذا بادرت بالكشف عن الأساليب التي دفعوا بها الرشاوى إلى أفراد الشبكة وأتباعهم من المفسدين، على أن يكون لهم حق مقاضاة واسترجاع ما دفعوه بغير وجه حق. ولدينا مثال على هذه المبادرة والنتائج الإيجابية التي حققتها، وتتمثل في حساب إبراء الذمة الذي أمر به خادم الحرمين الشريفين، والذي أتاح فيه لمن أخذ مالا بغير وجه حق أن يعيده، ما يعني ضمنيا إعفاءه من المساءلة والعقاب إذا أعاد المال فقط. إن الإعفاء من العقاب لمن يبادر بالكشف عن هذه الشبكات مكسب كبير للوطن وقطع لدابر الجريمة، ولنا أن نتفكر كيف كان المواطن الصالح ينهي معاملاته في دائرة حكومية ثبت تهاون رئيسها وثمانية من كتابها!. إن الأمل يحدوني في العثور على أموال الناس الخاصة وتلك الأموال العامة التي أخذت من البسطاء وزج بها في مساهمات سوا والبورصة وغيرها من المساهمات الوهمية، ولعل أصحابها قد غامروا بها فوقعت في تلك الشبكات الإفسادية، ويمنعهم من الشكوى خوفهم من العقاب. ثغرات وإصلاح يمكن القول إن بداية طريقة الفساد تتمثل في ثغرات بعض الأنظمة وعدم وضوح تفريعاتها وعدم تلبية بعض الأنظمة والتعاميم لحاجة الناس وتيسير حصولهم على حقوقهم المشروعة، ما يؤدي إلى تعطيل المصالح ثم المقايضة عليها. والخطوة الأولى للإصلاح هي باختصار: مراجعة بعض الأنظمة والتعاميم حتى تتوافق مع حاجة الناس المشروعة دون الإخلال بالحقوق العامة، وهي جزء لا يتجزأ من خطوات أخرى: أولا: أن عدم اعتبار ما في أيدي الناس من ملكيات بموجب صكوك قديمة وإهمالها نهائيا يولد شعورا بالظلم والقهر يستحيل معه الإنتاج. وحل هذه المشاكل ليس بالأمر العسير بل يوفر على الدولة جهدا ومالا وعلى المواطنين وقتا وللوطن ثروة مستقرة. ثانيا: النظر في موظفي الدولة أصحاب الولايات مثل كتاب العدل على وجه الخصوص والعمل على زيادة مرتباتهم الوظيفية ومراعاة أحوالهم، بما يكفل الحياة الكريمة. ثالثا: عدم الاكتفاء بإحالة من ثبتت خيانته للأمانة بتخفيض مرتبته أو بإحالته على التقاعد، فإنها مكافأة له للتمتع العاجل بما جمع من مال حرام ويولد شعورا بالإحباط لدى كافة الموظفين الشرفاء، مما لا يساعد في الحد من الفساد، بل يجب مصادرة كل أمواله وإعادتها إلى خزينة الدولة والإفادة منها في تكريم الموظفين الشرفاء من نفس الإدارة التي حصلت فيها المخالفات تشجيعا لهم. رابعا: تكريم كل الموظفين الشرفاء وعلى وجه الخصوص العاملين في السلك القضائي وكتاب العدل الذين قاوموا طوفان الفساد وأفنوا أعمارهم في خدمة الناس، التكريم اللائق بهم، فهم إذا نظروا إلى من سبقهم ممن توفوا ولم يسدد أحد دينهم ولم ينظر في أولادهم أصابهم شيء من الإحباط. خامسا: السعي لإيجاد قنوات يستطيع معها الموظف تحسين دخله بالطرق المشروعة، يرتبط ذلك بحسن أدائه في العمل، ومن ذلك على سبيل المثال إنشاء شركة استثمارية رسمية تودع فيها مكافآت الموظفين المميزين، ويكون رأسمالها حساب إبراء الذمة. كتابات العدل أشيد أولا بالخطوات المباركة التي خطاها وزير العدل الدكتور محمد العيسى في تطوير كتابات العدل وتغيير بعض موظفيها، لكن أود التنويه بما يلي: أولا: التركيز على عدم تعطيل معاملات الناس، فإن بؤرة الفساد الأولى هي عدم تمكين الناس من حقوقهم المشروعة بسهولة ويسر. ثانيا: إن في عزوف بعض كتاب العدل حاليا عن إفراغ عقار أو إجراء ما خوفا من المساءلة نظرا لتفاوت الفهم في مسألة ما أو غياب المعلومة والوقوف يعتبر موقفا سلبيا من كثير من القضايا، لاعتقاده أن ذلك يؤثر على سلامة نفسه وبدعوى الحفاظ على منصبه يؤدي إلى تعطيل مصالح الناس. ثالثا: إن موظفا ما كان يعمل في قرية نائية في مدينة شمالية أو جنوبية، لا يمكن أن يتصدى لمعاملات المواطنين في مدينة كبيرة مثل مكةالمكرمة بصكوكها القديمة وحكوراتها ورهونها وقراريطها وكثرة المناسخات فيها، ولا المدينةالمنورة بمخازنها وأوقافها، فلا يتوقع منه إلا الخوف من أي إجراء، ولا يلام على ذلك في ظل هذه الظروف، وتعطيل معاملات المواطنين بؤرة الفساد الأولى خصوصا أنه يجد زملاءه وقد تملكهم الخوف من أي إجراء بل يرمقون من يساعد المواطنين بشيء من الريبة، فيظل حائرا في أمره وبعضهم يستجدي زملاءه المعلومة فلا يجدها لأنهم ليسوا بأحسن حالا منه، ثم يبدأ في البحث عن المعلومة هاتفيا عبر من يظن أنه محل ثقة من زملائه من خارج الإدارة، فهذا إما يكون فاقدا للمعلومة أو يوجه توجيها خاطئا، أو تكون له مصلحة فيها فيوجه لما يتفق ومصلحته، طالما لا تلحقه مساءلة فيستغل هذا المسكين في مآربه، ومن يدري فلعل بعضا ممن لم تنلهم يد التغيير على شاكلة من تمت معاقبتهم، وإما يكون العقاب الأخير لصاحب المعاملة وهو رفع ذلك لوزارة العدل حيث تبقى مدة ليست باليسيرة ثم تعود إليه بتوجيه ما وقد يكون في مصلحة المواطن، إلا أنه يظل خائفا مرتابا أيضا فيبدأ في دفعها إلى هذه الجهة أو تلك ولسان حاله يقول: وددت أن تقوم الوزارة بالإجراء نيابة عنا!، وتبقى معاملات المواطنين حائرة دائرة معطلة. رابعا: المواطنون إذا لم يجدوا من ييسر لهم أمورهم المباحة المشروعة لن يتركوا حقوقهم، ومع كثرتها يصبحون كالطوفان وقد يسعون إلى الحصول على حقوقهم المشروعة بطرق غير مشروعة، والسبب في ذلك تعطيل مصالح الناس الذي مرده هنا الخوف وغياب المعلومة الصحيحة. خامسا: ليس الحل في رفع كل قضية للوزارة فهو في حد ذاته تعطيل للمصالح، خصوصا إذا كان الأمر لا يستدعي ذلك. وليس الحل أيضا في تكوين لجنة من أساتذة الفقه أو القانون لتوجيه كاتب العدل، فإنه ليس بحاجة إلى بحوث في أبواب الفقه بل يحتاج إلى توجيه صريح لما بين يديه من صكوك، وهذه لا يعلمها أبدا أساتذة الفقة ولا الشيخ البهوتي رحمه الله، بل إن الخبراء الوحيدون لها هم من اشتغل فيها كاتب عدل أو رئيسا وظل أكثر من ربع قرن تقريبا يعلم أنظمتها ومقاصدها والهدف من تعاميمها واستقرت معاملات الناس عليها فترة من الزمن، والعادة محكمة واستقرار الحال مطلب ديني ووطني. سادسا: لقد كان من الخطاْ عدم تدوين خبرة هؤلاء لتكون قواعد لمن بعدهم، والحل في نظري هو تشكيل لجنة استشارية محلية في كتابة العدل تتكون من أحد كتاب العدل القدامى الموثوقين في نفس المدينة، أو الذين نقلوا للعمل في جهة قضائية أخرى، ويتم التعاقد معه لأنه أدرى بأمور كتابة العدل ومقاصد الأنظمة والتعاميم فيها، وعضوية مسؤول من وزارة العدل، تجتمع يومين في الأسبوع لدى كتابة عدل تتولى معالجة ما يطلبه كتاب العدل من استشارات بشكل مكتوب ومسؤول ومنظم يتم في ضوئه ربط الجديد بالقديم، وتكون مهمتها ستة أشهر فقط يجري تدوين ما تم عمله كتابيا وتستخلص منه قواعد عامة لما يخص صكوك ومعاملات كل مدينة على حدة، حسبما جرى العمل بها واستقرت المعاملات فيها، ففي ذلك التخفيف على الناس وتفريغ موظفي الوزارة لما هو أهم، وعدم تكليفهم ما لا طاقة لهم به. سابعا: إن استقرار العمل في الصكوك الشرعية المحتوية على المتر أكثر من خمسين سنة بيعا وشراء ورهنا واستثمارا، وعدم وجود النزاع وموافقة الجهات الهندسية على الإجراءات وسلامتها، ثم يفاجأ المواطن مالكا كان أو مشتريا أن كاتب العدل وبعد سنين من التعطيل يشرع في تشكيك الجهات المختصة بأصل صك تملكه الذي قد مضى عليه أكثر من مائة سنة، لهو في الحقيقة تدمير لمصالح الناس وتدمير لمصالح الوطن وهو الفساد بعينه، وبهذا يكون قد خالف ولاة الأمر الذين وظفوه لخدمة مصالح الناس وتيسير أمورهم فقام بإيجاد وخلق المشاكل من دون أن تكون هناك مشكلة سوى سوء فهمه. ثامنا: مراجعة العديد من التعاميم التي لا تتفق ومصالح الناس ولا تخدم المصلحة العامة، وقد يكون من بينها تعاميم تأسست على اقتراحات من بعض إدارات كتاب العدل السابقين الذين تبين لكم أمرهم، فإنهم لم يكونوا يهدفون إلا إلى التضييق على الناس. ختاما أرجو من كل مسؤول أن يضع نفسه مكان المواطن؛ هل يرضى على نفسه أن يؤخر صكه أو ترخيص بنائه أو رخصة مشروعه، لماذا لا يساعد بعضنا بعضا، لماذا لا نقوم بواجبنا لوطننا بكل جد وإخلاص حتى يسعد الجميع؟ * محام ومستشار قانوني