كنت قد ألقيت محاضرة عن الوطن والمواطنة في منتدى عبدالحميد شومان بعمَّان مساء الاثنين الحادي عشر من شوال الماضي. وقد تَحدَّثت عن الجانب الأول في المحاضرة"وهو الوطن"تعريفاً له وأبعاداً، وأشرت إلى شيء مما قيل في مَحبَّته والحنين إليه. أما الجانب الثاني في المحاضرة"وهو المواطنة، فبعد أن تكلَّمت عنها"لغوياً، أشرت إلى أنها أصبحت تعني معايشة المرء مع القوم في وطن واحد"متضمِّناً الانتماء إليه والولاء له وفق أداء الواجبات المُقرَّرة من الجميع والتمتُّع بالحقوق المُتَّفق عليها، كما أشرت إلى أن الدين الإسلامي قد أوضح لمن تَدبَّر قِيمه ومُثلَه تلك الواجبات والحقوق. ومنها الوفاء بالعهد"سواء كان بين الحاكم والمحكوم أو بين أفراد المحكومين أنفسهم، والتوَّاد بينهم، وكون المسلم أخا المسلم لا يظلمه ولا يحقره ولا يخذله. ومنها النصيحة لله ورسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم... إلى غير ذلك من القِيم والمُثُل الفاضلة الكريمة. وكثير من الدول تَوصَّلت إلى وضع قوانين تبين حقوق المواطن وواجباته. وهذا أمر عظيم ومهم. لكن الأعظم والأهم هو النجاح في مراعاة تلك النصوص وتطبيقها. وكثير مما يقال عن الحب للوطن والتَّمسك بالمُوَاطنة جميل أن يُسمَع ويُقرأ، وجميل، أيضاً، أن يستمر مردَّداً للإبقاء على جذوة مشاعر المواطنة حَيَّة في نفوس المواطنين وإذكاء حيوية هذه المشاعر. على أن ما يقال تحتاج صدقيته إلى إثباته على أرض الواقع عملاً إضافة إلى التعبير عنه لفظاً. كيف نُوجِد مواطناً يُعبِّر عن مُوَاطنته عملاً وفعلاً، لا قولاً مطرباً فحسب؟ للنجاح في تحقيق ذلك عوامل من أَهمِّها القدوة. فبالقدوة الحسنة أو السيئة يكون التأثُّر. فإذا راعى المدير المسؤول تطبيق النظام اقتدى به من هو دون مرتبة في إدارته. وإذا رأى المرؤوس عدم مراعاة رئيسه للنظام اقتدى به، أيضاً، إلا من رحم الله. وإذا كان الكبير في الإدارة ? مثلاً ? يقبل مالاً لإنجاز عمل من الأعمال فهل يُتوقَّع أن يَتورَّع المرؤوس عن أخذ مثل ذلك المال؟ وقد يكون من دفع ذلك المال لم يحصل إلا على حقه، ويكون موقفه ? لهذا ? مُتماشِّياً مع القول السائر:"امرخ السير يسير". لكن هذا العمل يَظلُّ عملاً غير مشروع وباباً من أبواب الفساد الإداري يجب أن يوصد. قبل دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب لم تكن هناك حكومة مركزية في نجد يمكن أن ينفق على القضاة فيها من بيت المال العام ليقوموا بأعباء القضاء. لذلك وُجِد بين أولئك القضاة من يأخذون أجوراً من المتخاصمين مقابل الفصل بينهم"مُسمِّين ذلك جُعْلاً، ومُبِّررين أخذه بعدم وجود مُرتَّبات لهم، أو دخل يَسدُّ حاجتهم. لكن الشيخ محمداً عَدَّ ما كان يأخذه أولئك القضاة رشوة"قائلاً: إن الرشوة ما أُخِذ لإحقاق باطل أو إبطال حق، لكنها، أيضاً، تشمل عدم إحقاق الحق إلا بأن يدفع صاحبه ما يدفع للحصول عليه. ويوجد بين الموظفين الحكوميين"وبخاصة من يَتولَّون شؤون إبرام عقود المشروعات، من يقبلون مالاً، أو يشترطون سراً أن يُدفَع إليهم، مقابل ترسية تلك العقود. ولا تسل عن ثرواتهم الطائلة نتيجة ذلك. لكن كثيراً ما تَردَّد في بعض المجالس القول: إن الموظف الفلاني يأخذ مبلغ كذا وكذا لإنجاز التوقيع على العقود ونحو ذلك، فَيعلِّق من يُعلِّق قائلاً: على أَيِّ حال الذي يأخذ ويعمل أحسن من الذي لا يعمل. وهذا المفهوم المقبول عند البعض ? مع الأسف الشديد ? يدل على وجود خلل ممقوت في المجتمع. ذلك أن الواجب يقتضي أن يكون الموظف أميناً ويؤدِّي واجب العمل بنزاهة. ومن المعلوم أن الذي يأخذ رشوة لن يطالب من رشاه بتنفيذ الشروط التي ينص عليها العقد، وأن الذي يدفع رشوة واثق بأنه لن يُطالَب بتنفيذ تلك الشروط كاملة غير منقوصة. والرشوة ? إضافة إلى أنها مُحرَّمة لعن النبي، صلَّى الله عليه وسلَّم، من تعاطاها"أخذاً أو عطاء ? من أفدح معاول الهدم في المجتمعات. وكنت قد أشرت قبل نصف قرن إلى تَفشِّي الرشوة، كما النفاق، مُعبِّراً عن حَيرتي فيما كان يحدث قائلاً: كلما فُكَّرت أن أَسلك في أُفْقي سبيلا ومَضَت ترسم لي كفايَ منهاجاً جميلا أَوشكت مهجتيَ الحَيْرى إليه أن تميلا غير أني أَلمح اليأس على دربي نزيلا ثم لا ألبث أن أستصحب الشك خليلا وإذا بي لا أرى عن نهجه المُضني بديلا * * * قلت أَندسُّ كغيري بين أحضان الوظائفْ وهنا جَمَّعت أوراقي وما لي من معارف وتَوجَّهت إلى الباب سعيداً غير خائف قال لي من في يديه الأمر والترشيح:" آسف. هاتِ حق الدرب". قلت: الماء من بئريَ نازف قال: لا تصلح منذ الآن.. مجنون مخالف * * * وتَركتُ الباب خلفي كارهاً ظِلَّ الوظيفه عَمَلاً من يدفع الرشوة يبصره حليفه ثم يَمَّمت إلى السِوق فألفيت صحيفه قلت في نفسي: لَعلِّي أدرك الروح النظيفه سطَّرتها بمداد النور أَقلامٌ شريفه وإذا الكلُّ مُرَاءٍ خطَّ للزُّلْفَى حروفه الأبيات لا أرى الرشوة إلا زادت رسوخاً، ولا المرتشين إلا تضاعفت أعدادهم، كما لا أجد النفاق إلا بلغ درجة غاية في السوء. ومما يُحقِّق المواطنة، أو يُنمِّيها، توافر العدل. وقد قيل: العدل أساس الملك. وهذا القول صحيح وجدير بأن تسير أمور المجتمع بمقتضاه. ومراعاته تُحقِّق طاعة الله سبحانه، كما تُحقِّق الأمن لمن التزم به وطَبَّقه. وفي قضية عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، خير دليل. فقد ورد فيها قول من رآه نائماً تحت ظِلِّ شجرة ? وهو الخليفة -:" عدلت فأمنت فنمت". وتحقيق العدل يجعل الناس أكثر رضاً بما هم عليه، فلا تختلج في نفوسهم مشاعر التذمُّر أو التمرُّد"لا على الحكومة ولا على المجتمع. وكنت قد أشرت، أيضاً، قبل نصف قرن إلى عدم توافر العدل، مُعبِّراً عن حيرتي تجاه ذلك قائلاً: يا ويلتا أغدو وملء جوانحي أَلمٌ يبث الشوك عبر فجاجىِ وأَظلُّ تنتهب الخواطر مهجتي وأعود محتدم الأسى أَدراجىِ حتى إذا جَنَّ الظلام وجَلَّلت أَثوابه السود المحيط الساجىِ وغفا الأنام فكل شيء هادىء أوقدت في بيتي القديم سراجىِ تَعِباً أُدونِّ في الطروس خواطري وأَدق للأسرار كلَّ رِتَاح مُتأمِّلاً سِرَّ التناقض في الوَرَى والفرق بين المرتَجَى والراجي والناس بين مُمرَّغ فوق الثرى ومُرفَّهٍ في ناعمِ الديباج ومُعذَّب في الكوخ يَقتلُه الطَّوى ومُنعَّم يزهو ببرجٍ عاجي يََمشي مع الأسواقِ في نَظَراته سِيما التكبُّر وارم الأوداج شزراً يُحدِّق في الأنام كأنهم ليسوا لديه سوى قطيع نعاج * * * ربَّاه أعياني التأمُّل واختفى عَنِّي العلاج وأنت خير علاج فاسكب على روحي شآبيب الهدى وأَنر فؤادي بالسنا الوَهَّاج وانشر عدالتك السنية في الورى حتى تزول شقاوة المحتاج وبعد خمسين عاماً من كتابة تلك الأبيات هل ازداد العدل توافراً أم ازداد عدم توافره رسوخاً؟ ومما ينمِّي مشاعر المواطنة في نفوس المحكومين أن يروا براهين واضحة على تمتع الحكام بنزاهة اليد تجاه المال العام للدولة، والعدالة في معاملة المحكومين بعيداً من المحسوبية، التي أصبحت السمة الجلية في أكثر الدول العربية مع الأسف الشديد. * الأمين العام لجائزة الملك فيصل العالمية.