قراءة: حنان بنت عبد العزيز آل سيف أدب الرحلات أدب هام من الآداب العربية وما زال يحكي أحوال الأمم، وثقافات الشعوب بل تعدى هذا الجانب إلى تسطير عاداتهم وتقاليدهم وتراثهم الفكري، وإرثهم العقلي، وموروثهم الاجتماعي، وهو أدب ضارب بسهم نافذ في جذور التاريخ، فقد أشبعه العلماء الأوائل، تأليفاً وتصنيفاً وجمعاً وكتابة، وما رحلات ابن بطوطة وابن جبير منا ببعيدة، وما هذه الرحلات التي جال من خلالها الرحالون أرجاء المعمورة إلا شاهد على عجائب العالم وغرائبه، ناهيك عن جانب المتعة واللذة والطرفة والعبرة والعظة التي يجدها القارئ في ثنايا هذه الرحلات، وهي وثائق رسمية خطيرة يجنح لها العلماء والجغرافيون والتاريخيون والسياسيون والأدباء والمتأدبون عند الحاجة، وفي الرحلة فوائد جمة، حصرها الشافعي عليه رحمة والله وغفرانه في قوله: تغرب عن الأوطان في طلب العلا وسافر ففي الأسفار خمس فوائد تفرج هم واكتساب معيشة وعلم وآداب وصحبة ماجد أما الشاعر الآخر فيقول في الحث على الأسفار والحل والترحال: سفر الفتى لممالك وديار وتجول في سائر الأمصار علم ومعرفة وفهم واسع وتجارب ورواية الأخبار وهذه الرحلات مدت التاريخ العربي بفوائد جمة، ودرر عدة، بل هي ثروة فكرية علمية تاريخية جغرافية خصبة ممتعة ودليل ذلك كتب الرحلات التي ازدانت بها رفوف المكتبة العربية، وبين ناظريّ الآن كتاب فريد، في فن الرحلات مفيد، وأسلفت لك عنوانه سالفاً، ومؤلفه أديب أريب فذ ألمعي كريم وهو سعادة الأستاذ عبد الله بن حمد الحقيل.. حفظه الله تعالى ورعاه، وسدد في سبيل الرحلة خطوه وخطاه، وجادت به دار أضواء المعرفة للنشر والتوزيع، وهو واقع في مئتي صفحة من القطع الكبير، وبين يدي الطبعة الأولى للعام (1414ه - 1993م)، وللمؤلف في بدء كتابه استهلالة ميمونة الطالع، يقول فيها: (إن الرحالة دائماً ينقل للقارئ صوراً وقصصاً وطرائف ومشاهدات لكل ما شاهد وسمع ورأى، وما أكثر ما حفل به التراث العربي الإسلامي من أخبار الرحلات والرحالة، كرحلة ابن فضلان إلى اسكندنافيا والتي أعدت أقدم تسجيل كتبه شاهد عيان عن حياة ومجتمع (الفايكنج) فهي وثيقة فريدة تصف بدقة أحداثاً وقعت منذ ما يزيد على ألف سنة، ولقد وصفت تلك الرحلة بأنها المصدر الوحيد لتاريخ روسيا وبلغاريا وتركيا في تلك الفترة من القرن العاشر الميلادي، كذلك رحلة الإمام الشافعي من مكة إلى المدينة، ورحلة أبي دلف، ورحلة ابن جبير، ورحلة العبدري ورحلة ابن بطوطة، ورحلة ابن خلدون، ورحلة العياشي وغيرهم كثير مما يضيق المجال عن استعراضه، فكم فيها من الصور والمشاهدات التي أصبحت تاريخاً ومعرفة وفائدة للباحثين والدارسين بل وثائق تمثل نشاط أسلافنا وطموحاتهم وارتيادهم للمجهول. يقول المقدسي في كتابه (أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم) (ما تمَّ لي جمع هذا الكتاب إلا بعد جولاتي في البلدان ودخولي أقاليم الإسلام ولقائي العلماء وخدمتي الملوك ومجالستي الثقاة ودرسي على الفقهاء واختلافي إلى الأدباء والقراء وكتبة الحديث، ومخالطة الزهاد وحضور مجالس القصاص والمذكرين، مع لزوم التجارة في كل بلد، والمعاشرة مع كل أحد، والتفطن في هذه الأسباب بفهم قوي، حتى عرفتها ومساحة الأقاليم بالفراسخ حتى أتقنها، ودوراني على التخوم حتى حررتها، وتنقلي على الأجناد حتى عرفتها، وتفتيشي عن المذاهب حتى علمتها، وتفطني في الألسن والألوان حتى رتبتها، وتدبري في الكور (أي المحافظات والولايات) حتى فصلتها، وبحثي عن الأخرجة حتى أحصيتها، مع ذوق الهوان، ووزن الماء، وشدة العناء). ويشير المؤلف الفاضل - سلمه الله - إلى الوزن الفكري، والثقل الثقافي، والثروة التاريخية الجغرافية العلمية لرحلة ابن جبير وصنوه ابن بطوطة، فقد زادهما الدهر خلوداً ورونقاً وإعجاباً فقد تُرجمت الرحلتان إلى كثير من لغات العالم، وذلك لتوق الإنسان وولعه الشديد بالمعرفة والاكتشاف والتطلع، وعلى حد قول القائل: (إن من يسافر كثيراً يتعلم ويعرف الكثير الكثير) ولله در الشاعر حين قال: وطول مقام المرء في الحي مخلق لديباجتيه فاغترب تتجدد فإني رأيت الشمس زيدت محبة إلى الناس أن ليست عليهم بسرمد ونطرح سؤالاً على مؤلف الكتاب.. وهو ما هو دور أدب الرحلات في تاريخ الأدب العربي؟ وجاءت إجابة المؤلف الفاضل على هذا السؤال الجوهري الهام كالتالي: (إن أدب الرحلات استأثر بالاهتمام وعني به أعلام بارزون عبر مراحل التاريخ ماضياً وحاضراً وقديماً وحديثاً، حيث تحدثوا فيه عن مشاهداتهم والأماكن التي مروا بها وزيارة المعالم والآثار والمكتبات وما تحويه من مخطوطات ووصفها، وكذا زيارة المواضع التاريخية، وما زال هناك عشرات المخطوطات من المؤلفات عن الرحلات لطائفة كبيرة من العلماء لم تنشر بعد). ويوجه المؤلف من خلال منبره الكتابي دعوة عامة، ورسالة هادفة، بعدم إهمال أدب الرحلات فهو على حد قوله: (فن متميز ومعلم بارز وأثر حيوي من معالم الثقافة والمعرفة يتطلب ذوقاً وحساً فهو بحق كحديقة غنّاء تشتمل على ثمار يانعة ولا تخلو من الأشواك). ويُشترط في الرحالة أن يكون أميناً في وصفه، مستأمناً في حديثه، مخلصاً لفكره وأدبه وفنه، فالصدق ديدنه، والمصداقية شعاره، فلا يقول إلا حقاً. وقد أوصى حكيم عربي صديقاً له أراد سفراً فقال له: (إنك تدخل بلداً لا تعرفه ولا يعرفك أهله فتمسك بوصيتي تكتب لك السلامة، عليك بحسن الشمائل فإنها تدل على الحرية ونقاء الأطراف فإنه يشهد بكرم المنبت والمحتد، ونظافة البزة فإنها تنبئ عن النشأة في النعمة وطيب الرائحة فإنها تظهر المروءة، والأدب الجميل فإنه يكسب المحبة، وليكن عقلك دون دينك وقولك دون فعلك ولباسك دون قدرك والزم الحياء والألفة فإنك إن استحييت من الفضاضة اجتنبت الخساسة وإن أنفت من الغلبة لم يتقدمك نظير في مرتبة). وللشاعر الأول قول حول هذا المعنى جاء فيه: يزين الغريب إذا ما اغترب ثلاث فمنهن حسن الأدب وثانية حسن أخلاقه وثالثة في اجتناب الريب والرحلات لها أنواع فمنها الرحلات العلمية والأدبية والصحفية والتاريخية والسياسية، يقول عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين حول كتب الرحلات: (تجد فيها المتعة والراحة والسلوى وإرضاء حاجتك إلى الاستطلاع مع أنك لا تبرح مكانك، فأنت مع الكاتب تشهد ما يشهد وتسمع ما يسمع وتجد ما تجد من ألم أو لذة ومن سخط أو رضا تسافر معه وتقيم معه حين يقيم). ويلمح المؤلف الرحالة - حفظه الله - إلى أساتذة الرحلة في هذا العصر الحديث أمثال أنيس منصور ويحيى حقي وحسين فوزي وحمد الجاسر ومحمد العبودي وعبد القدوس الأنصاري وعبد العزيز الرفاعي ومحمد حسين هيكل والمازني، ومن يطالع كتاباتهم يجدها زاخرة بصنوف المعارف، ويشير أيضاً إلى أن محمد حسين هيكل في كتابه (مهبط الوحي) وصف الحرمين ومشى في مناطق الحج، كذلك المازني عندما زار هذه البلاد كتب مشاهداته كأديب يصوّر انطباعاته فقد عبّر عن أشياء كثيرة ذاتية كذلك عبد الوهاب عزام وغيرهم كثير وكثير من الأدباء والصحفيين من عرب وأجانب، ولقد سجل الرحالة ناصر خسرو المتوفى عام 481ه في سفرنامه أشياء كثيرة من المظاهر الصناعية والتجارية والعمرانية في قلب نجد ونفى الادعاء بتخلف المنطقة في ذلك الوقت حيث تحدث عن قنوات المياه ونظام الري وألوان الصناعات وقوافل التجارة. والحريري صاحب المقامات الخمسين لم يخف عليه فضل الرحلة والضرب في الأسفار، والسياحة في الأرض، لا سيما أن العلماء والمحدثين والأدباء هم أولى الناس بالرحلة لجلب العلوم، وتحصيل الفنون، وجمع المعارف، فترنم لسانه قائلاً: نقل ركابك عن ربع ظمئت به إلى الخباب الذي يهوى به المطر والشاعر الآخر عزف على قيثارة الشعر قائلاً: سح في البلاد إذا أردت تعلما إن السياحة في البلاد تفيد والمكتبة العربية في أشد الحاجة لأمثلة هذه المصنفات والمؤلفات من كتب الرحلات وهي ضرورية جداً لحفز الهمم، وإيقاظ العزائم، وصقل المواهب، والله تعالى شأنه يقول في محكم التنزيل المبين: (فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ)، ولا يفوتني هنا الإشارة إلى ما قاله الأستاذ الأديب أنور الجندي حول كتب الرحلة والترحال، يقول في لفت الأنظار إلى قيمتها وأهميتها: (وما زال أدب الرحلات في الأدب العربي المعاصر في حاجة إلى مزيد من الكشف عن صفحاته، وهذه المادة خصبة ضخمة مدفونة في بطون الصحف والدوريات، وباستثناء ما نشر من مؤلفات لهؤلاء الرحالة وهو قليل جداً، لا يكاد يصور حقيقة الرحلة والهجرة ويكشف دوافعها وبواعثها ونتائجها ومدى الخبرات التي أضافها إلى التراث الأدبي). وهذه دعوة صريحة من هذا الأديب الجهبذ الخبير الفحل في الاهتمام بهذا النوع الهام من الآداب والتراثيات، ثم هو يكفينا المؤنة فيذكر أن المادة مدفونة في مصدرين اثنين هما: الصحف والدوريات، فما على طالب العلم الباحث إلا التشمير والهرولة، وشحذ الهمة، وعقد العزيمة، وإشعال الإرادة، ثم التنقيب في بطون هذين المصدرين، لتشرق شمس المعرفة، وينجلي غبار المظلمة. وأخيراً: يضم الكتاب بين دفتيه، ويحوي بين برديه، ويجمع بين إهابيه رحلات إلى دول عربية وإسلامية وأوروبية من مختلف مناطق شرق العالم وغربه، كان المؤلف فيها طلعة ونحلة رحلة، حثيث الخطوة، سريع المشية، قاطعاً لسيف الوقت، ليتحف قارئه، ويسعد مطالع كتابه، وقد كان مؤلفنا الترحالة البطوطيّ الجبيريّ دقيقاً في وصفه، دقيقاً في مشاهداته، فكأني به آلة تصويرية مقننة حديثة ما عرجت على صغيرة ولا كبيرة ولا شاردة ولا واردة، وحتى لم تمر بأخضر أو بيابس إلا أتت عليه وصفاً ورسماً وتحليلاً وتعليقاً فلله دره، ويجمّل الكتاب أمور كثيرة جاء على رأسها أمران: أولهما: مقدمة الكتاب في أهمية الرحلات وكانت لي وقفة طويلة معها، وثانيهما: النَفَس الأدبي وشواهد الشعر المنتقاة بذوق التي أضفت على الكتاب طلاوة وحلاوة ورونقاً وبهاء. عنوان المراسلة: ص.ب 54753 -الرياض: 11524