الكتاب: رحلات ابن بطوطة المؤلف: شمس الدين أبو عبدالله الشهير بابن بطوطة المحقق: حسام الدين نور الناشر: دار إبداعات للدراسات والنشر، القاهرة يعتبر ابن بطولة من أشهر الرحالة المسلمين الذين أسهموا في وضع الصيغة الأولى لأدب الرحلات العربي، فقد طاف خلال أسفاره في معظم الانحاء المعروفة للعالم القديم، عدا غرب أوروبا، ما حقق له التفوق على جميع رحالة العصور الوسطى. وقُدر ما قطعه ابن بطولة خلال رحلاته التي استغرقت زهاء 29 عاماً بحوالي 130 ألف كيلومتر، أي ما يقارب ثلاثة أمثال محيط الكرة الارضية. وكانت رحلاته، وما تزال، من أهم مصادر المعرفة عن المجتمعات الاسلامية قبل ستمئة عام، إلى جانب ما تحفل به من معلومات موضوعية عن أجزاء واسعة من العالم القديم، مع تميزها بشمولية عظيمة تكاد تفتقد في أي مصنف من مصنفات الرحالة القدماء. ومكنت تلك الشمولية ابن بطوطة من أن يدلي بأحكام عن مختلف الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية للبلدان التي ارتحل إليها عن خبرة ومعرفة، ما أسبغ على رحلاته أهمية عظيمة لدارسي الجغرافيا التاريخية خصوصاً وللمثقف العربي عموماً. ويلاحظ أن كل الطبعات السابقة من رحلات ابن بطولة المسماة ب"تحفة النُظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار"، لم تأخذ حظها من الدراسة والتحقيق والتصحيح، فجاءت مليئة بالأخطاء والتحريف وسوء الإخراج وعدم العناية بتحقيق النص، مع تجاهل وضع شروح وتعليقات وفهارس خاصة بالأعلام الجغرافية التي زخرت بها. وهذه الطبقة المحققة للرحلات التي تنشر في أجزاء ضمن سلسلة تحمل عنوان "إبداعات التراث العربي"، تتميز بمراعاة القواعد العلمية المتبعة في مناهج تحقيق التراث ونشره. وهي تضم العديد من الايضاحات والتعليقات من خلال شرح ما ورد في النص من غريب الألفاظ والمواضع والكنى والأسماء والشخصيات، وكذلك التعليق على الكلمات الغامضة والعبارات الصعبة، بما يستكمل مقاصد النص ويوضح مراميه وييسر الانتفاع به، مع تحقيق خط سير ابن بطولة في ارتحالاته في مختلف الأنحاء والأقاليم التي زارها ووصفها، ورسم خرائط تفصيلية توضح الأعلام الجغرافية التي وردت في سياق الرحلات. الرحلات العربية ويصدّر المحقق حسام الدين نور "رحلات ابن بطولة" بمقدمة تحليلية مطوّلة تدور حول الرحلات العربية والرحّالة المسلمين مع ترجمة لابن بطوطة وشرح لرحلاته. فالترحال كان عنصراً قوياً في حياة المجتمع الاسلامي في مختلف عصوره. وكان أداء فريضة الحج الى بيت الله الحرام من أهم العوامل التي دفعت المسلمين الى الترحال والسفر، هذا الى جانب طلب العلم والدراسة على أيدي علماء الفقه في بلدان المشرق الاسلامي، والتجارة والسعي وراء الربح. ولذلك كثرت الرحلات الدينية والعلمية والتجارية بين أقطار العالم الاسلامي وشجع على ذلك خضوع بلدانه لدولة واحدة بادئ الأمر وهي دولة الخلافة الاسلامية، وعندما فقدت هذه الدولة وحدتها السياسية بقيت وحدة الدين واللغة والروابط الثقافية. واشتهر العديد من الرحالة المسلمين في المشرق الاسلامي، وكذلك في المغرب العربي والأندلس وتفوق رحالة المشرق في وصف انحاء قارة آسيا كالصين والهند والسند وروسيا في حين تفوق رحالة المغرب في وصف قارتي أفريقيا وأوروبا. ومن هؤلاء الرحالة المسعودي وابن حوقل والمقدسي والبيروني وياقوت الحموي والبكري الأندلسي والشريف والادريسي وابن جبير وابن الحاج العبدري، وابن بطوطة. تدوين الرحلات ولم يبدأ الاهتمام الفعلي بتدوين الرحلات - كما يشير المحقق - إلا في القرن الرابع الهجري العاشر الميلادي ولعل ذلك يرتبط بالنهضة العلمية التي شملت العالم الاسلامي في هذه الفترة والتي صحبها تدوين الفقه الاسلامي ووضع المؤلفات الاسلامية في العلوم المختلفة. ودوّن كثير من الرحالة المسلمين أخبار أسفارهم وارتحالاتهم، فذكروا الأقاليم والمسافات التي اجتازوها والصعوبات التي واجهتهم وتغلبوا عليها، كما سجّلوا مشاهداتهم عن وصف البلاد التي نزلوا بها وطبيعة سطحها من جبال وأودية ومصادر المياه بها ونوعية زرعها وصناعاتها وتجارتها، ووصفوا المدن والقرى التي هبطوا إليها، وما بها من المعالم والمشاهد. كما تعرضوا لحياة شعوبها فعرضوا للطيب من طباعهم وأخلاقهم وعاداتهم بالمديح وعابوا ما فيه من ضعف. كذلك تعرضوا للحالة العلمية لهذه البلاد وعنوا بذكر الأولياء والعلماء والأدباء وحرصوا على الالتقاء بهم والأخذ عنهم. وعلى رغم تعدد دوافع الرحلات في التاريخ الاسلامي، فإن ما وصلنا من كتب في هذا المجال يسير اذا ما قيس بالمصنفات الخاصة به. ولعل السبب في ذلك يرجع الى اندثار معظمها وإلى ايثار كثير من الرحالة ان يدمجوا مشاهداتهم في ما ألفوه من كتب تاريخية أو جغرافية، كابن حوقل والبكري والمسعودي والمقدسي والادريسي. أما مصنفات أدب الرحلات العربي فتبدأ برحلة ابن جبير الأندلسي، ومن بعدها كتاب "الاشارات الى معرفة الزيارات" للهروي، ثم كتاب "الرحلة" للعبدري، ثم "تحفة النظار من عجائب الأسفار" لابن بطوطة. وانتاب الضعف حركة تدوين الرحلات وبخاصة في المغرب العربي في القرنين الثامن والتاسع الهجريين، نتيجة لقلة الرحلات العلمية التي كانت تتيح الاتصال بأعلام المعرفة والتي تدعم حركة التصنيف العلمي المفيد. رحلات ابن بطوطة ويقف المحقق عند رحلات ابن بطولة ليؤكد أن دافعه للترحال كان الرغبة في حج بيت الله الحرام، إلا أنه لم ينتظر الخروج مع ركب الحج المغربي لكي يسير في جملته، بل خرج في رفقة جماعة من التجار وانضم في الطريق الى ركب الحج التونسي وبدّل رفقته أكثر من مرة، وكان لديه شوق إلى المعرفة ورؤية الأمم والشعوب. ولذلك استمرت رحلاته ما يقرب من ثلاثين عاماً، أطولها الرحلة الأولى التي استغرقت 25 عاماً من 725- إلى 750 ه، وزار فيها أغلب مدن ساحل البحر المتوسط في المغرب والجزائر وتونس وليبيا والاسكندرية، وأبحر في نهر النيل إلى القاهرة وخصها بحديث طويل وصف فيه النيل والأهرام والمساجد والمدارس. ومن القاهرة سار برفقة ركب الحجيج الأفريقي إلى ميناء عيذاب على البحر الأحمر ماراً بمدن صعيد مصر الكبرى. ولكن الحرب القائمة - وقتذاك - بين السلطان الناصر محمد بن قلاوون وقبائل البجاة حالت بين ابن بطوطة وبين عبور البحر الأحمر، فعاد الى القاهرة ثم ارتحل منها الى بلاد الشام فزار غزة والخليل والقدس وصور وصيدا وطبرية وبيروت وعكا وطرابلس وحلب وبعلبك، ثم دمشق التي يسهب في وصفها وتعديد فضائل أهلها وعاداتهم. ومن دمشق خرج ابن بطوطة مع الركب الشامي قاصداً الحجاز سالكاً طريق الحجيج المعروف ووصل الى المدينةالمنورة، وأقام فيها أربعة أيام، ثم خرج الى مكةالمكرمة لتأدية شعائر الحج. وبعد ذلك توجه إلى العراق حيث زار النجف و البصرة، ثم توجه الى أطراف فارس، فزار أصفهان وكازرون وشيراز، وعبّر عن اعجابه الشديد بمظاهر الطبيعة الخلابة في هذه المدن قبل أن يعود الى العراق حيث نزل بالكوفة ثم بغداد التي فقدت الكثير من مجدها وعظمتها إثر تخريب المغول لها في ذلك الوقت. ويمكث ابن بطوطة في العراق شهرين ليزور بقية مدنها، ويرحل مع ركب الحجيج الى مكة ليؤدي فريضة الحج للمرة الثانية، ويظل في مكة ثلاثة أعوام كاملة، من 727 الى 730 ه، حجّ خلالها ثلاث مرات. ويخرج من مكة قاصداً بلاد اليمن ويرحل الى مصر مرة أخرى وبلاد الشام وبلاد الترك ويعبر البحر الأسود الى شبه جزيرة القرم وبلاد القوقاز وبلاد البلغار وخوارزم ويزور بخارى وسمرقند وترمذ وغزنة، ويصل الى كابول ومنها يرحل الى الهند ويقيم فيها تسعة أعوام ويتولى القضاء في مدينة دلهي لمدة خمس سنوات. ومن الهند انتقل ابن بطوطة إلى جزر المالديف وماليزيا وسرنديب "سيلان" وجزر الفلبين وبلاد جاوه والصين ثم عاد بعد هذه الرحلة الطويلة الى المغرب. بلاد الأندلس وأما الرحلة الثانية لابن بطولة فقد كانت الى الأندلس من عام 751-752 ه ولم يمكث فيها إلا بضعة شهور تنقل خلالها بين معظم مدنها. ويلاحظ أن حديثه عن رحلته الى الأندلس مقتضب بخلاف حديثه عن رحلته الأولى، ولعل ذلك يرجع إلى أن أهل المغرب كانوا على معرفة بالشيء الكثير عن الأندلس فلم يكن لديه جديد ليذكره. وجاءت رحلته الثالثة الى انحاء السودان الغربي بقصد اتمام مهمة رسمية كلف بها من قبل سلطان المغرب أبي عنان المريني. استغرقت هذه الرحلة عامين 753-754 ه ويعتبر ابن بطوطة أول من جاب الصحراء الأفريقية الكبرى ووصف مشاهداته فيها. وبعد عودته من رحلته الافريقية استقر به المقام في مدينة فاس وظل ما يقرب من عشرين عاماً يحدّث الناس بما رآه وما سمعه من طرائف وغرائب رحلاته حتى توفي عام 779 ه بعد أن أملى رحلاته على الأديب محمد بن جزي الكلبي في كتاب "تحفة النظار"