كثيرة هي آلام الإنسانية، تلتقي عندها كما يقول الرافعي (أنَّة المريض، وزفرة العاشق، ودمعة الجائع، وصرخة اللهفان المستغيث).وقد تجتمع هذه الألوان من العذاب في شخص، وقد يبتلى آخر ببعضها أو أحدها، لكن القليل من الناس من يتحمل هذه الآلام وتبعاتها، نزر يسير منهم من يحيل التعاسة سعادة، والوجع غبطة، والقلق أنساً، والغيظ رضى.وصديقي (محمد) أنموذج رائع لهذه القلة، ومثل جميل لمن يعيش فوق الآلام، وهو صورة مشرقة للصبر والتضحية والوفاء، وهو - مع هذا وذاك - مبدع في صبره وتضحيته ووفائه. *** أعترف بأنني عاجز عن التفنن في سوق المقدمات للحديث عنه، ففي اللحظات التي تفيض فيها النفس بالألم، وتنبض بالوجع، يتعذر على الإنسان أن يصف مشاعره، أو يترجم أحاسيسه، أو يمسك دموعه. ابتلاه الله بالمرض فصبر صبراً جميلاً، فاستحال ألمه لذة، وضعفه قوة، وعذابه راحة وطمأنينة، لم يقهره المرض، ولم يزعجه الإعراض، ولم يكدر عليه النسيان، ربما لأنه أراد أن يرينا كيف يكون الإيمان بقضاء الله وقدره نوراً يشع فيغمر قلب الإنسان وكيانه، ويتغلغل في أغوار نفسه فيملؤها بالسكينة والراحة، أو ربما أراد أن يلقن البؤس والألم درسا في كرم الصبر وحلاوة الاحتساب، حيث طمأنينة النفس ورضاها. *** خط سطور إبداعاته في دفتر غربته، يدفن بها الألم، ويدفع بها الشقاء، كانت الكتابة عبير روحه، وخفقة قلبه، وشعاع نفسه، كان جميلا يحب الجمال، ويتنفس الإبداع، ويعجبه التفاؤل، فحلي الوجود أمام ناظريه، وساغ المر في فمه.ما زالت كلماته الوجعى عن وخز الآلام، وهموم الحياة، وأكدار العيش، تتغلغل في أعماقي، وتحرق قلبي، لكنه كان يداويها ويداويني بطمأنينة النفس، وبرد الرضى: تجربته مع (الفشل الكلوي) وانه يزمع إخراجها في كتاب، وحدثني عن (القنفذة) وجمالها، وأهلها الطيبين، عن شاطئها البديع، عن سحر الطبيعة هناك عن سيف البحر، وعن (حلي) و(عَمِقْ) و(البِرْك) و(القَحْمة) و(الحريضَة). كنت أعرف الجمال البديع الذي حدثني عنه، والطبيعة الخلابة التي وصفها لي، و(الإنسان) الرائع الذي اثنى عليه، لكنه شوقني بحديثه ووصفه وثنائه حتى بدا وكأنني لا أعرف تلك الأرض وإنسانها وجمالها، فوعدته بالزيارة واللقاء في صيف هذا العام، لنبصر معاً ذلك الجمال، ونعيش معاً لحظاته، ونصنع معاً ذكرياته الجميلة..!لم أكن أعلم أو يعلم أن الله قدَّر أمراً آخر، أنه يمشي خطواته الأخيرة على هذه الأرض، انه يسير نحو الشاطئ الآخر، والضفة الأخرى، حيث المقر الأبدي.. لم نكن نعلم أن أمانينا ستستحيل أضغاث أحلام وتمضي مع الريح، فلن أراه بعد الآن.. ولن يراني..!لم أكن أدري أو يدري أن الله كتب عليه الموت، وأن مشيئته - سبحانه - قد سبقت بأن يلقى ربه بعد يومين - فقط - من حديثنا عبر الهاتف..! يا ويح نفسي!.. أين يا أبا عبد الرحمن؟! والوعد.. واللقاء.. والبحر.. والشاطئ البديع.. والطبيعة الساحرة؟! لم يعد سوى التسليم بقضاء الله وقدره، فأقداره لا تجري بالضرورة مع رغباتنا وأهوائنا. - سبحانه..! في صباح يوم الجمعة المبارك أحس بالألم يعاوده من جديد، لم يستطع مقاومته، ودع أهله وأحبابه، وتوجه مع أخويه إلى المستشفى، وبدأت الرحلة، أو قل بدأ قطار العمر يغذُّ السير نحو المحطة الأخيرة، كان منها على بعد ثلاث ساعات تقريباً هي المسافة ما بين (القنفذة) و(أبها).. وفي الطريق كان يرتل كتاب ربه، وفي جوفه من الآلام ما يحطم جوفه، لكن آيات ربه أنسته الآلام، فلم يظهر عليه شيء من أثرها - كما يخبر أخواه - واستمر يرتل.. ويرتل، وروحه تسير في عروقه، تزفها آي الذكر الحكيم إلى بارئها، تخرج مع همساته، تصعد مع لحنه الشجي إلى السماء، تعلو به أفقا واسعا، تخرجه من غربة الأرض، وتهرب به إلى الآخرة..! في تلك اللحظات، ودّع كتاب ربه، الذي أضاء قلبه، وتوهجت معانيه في دمه، ثم غرق في صمت رهيب، وهدوء صامت، ولاذ بمولاه، واطمأن اليه، راضيا مرضيا - إن شاء الله.ذلكم هو (محمد البدوي)، الصديق، والأديب، والكاتب المسرحي، الذي اشتغل بالكتابة والألم، ثم مات وهو ينتظر!.. تُرى.. ما المسرحية القادمة بعد الموت يا محمد؟! [email protected]