نشتكي كثيراً من سيطرة الآخرين على الإعلام، وهذا صحيح، بَيْدَ أنه ليس كلَّ الحقيقة؛ لأن هذه السيطرة هي أحد أخطائنا الإستراتيجية العَصِيَّةِ على العلاج. أما الشِّقُ الآخرُ من الحقيقة فهو أن الميدان الذي نملكه واسع أيضاً، ولكننا أخفقنا في استثماره لأسباب كثيرة. فنحن - أحياناً - نشعر بأنه لا منافسَ لنا، فنتحرك ببطء شديد، وأحياناً نشعر بأن الدائرة تضيق علينا؛ فنهرب إلى معادلة شديدة الاستحالة، وهي: إن ما نملكه لا قيمة له، والشيء القيم لا نستطيعه. وبين هذا وذاك يخلد المرء إلى التبعيّة والتقليد والمحاكاة، ويضم إلى ورد الصباح: ليس في الإمكان أبدع مما كان. لقد تحسن الأمر كثيراً، فلقد كان الخطباء يرددون خطب ابن نباتة المصري حتى وقت قريب! والحق أن سندنا الأقوى هنا هو الدين. نعم الدين الذي ساق هذه الملايين إلى ساحة الخطبة طوعاً واختياراً. والدين الذي استنصتهم، وكاشفهم أن من مس الحصى فقد لغا، ومن لغا فلا جمعة له. والدين الذي هو اللغة المشتركة بيننا وبينهم، فباسمه نتحدث وباسمه يستمعون. فإذا أحسنا التعامل مع قضاياه وحقائقه أمسكنا بالزمام، وإلا فسيكون الضعف من حيث كانت القوة. 2- المضمون: وهذا يقود إلى جوهر الموضوع. فحجر الزاوية هو حسن اختيار موضوع الحديث، وطول التفكير فيه، ليكون قادراً على المواءمة بين مطالب الشرع، وحاجات الواقع، وتطلعات المستقبل. إن التوفيق في اختيار الموضوع بحد ذاته، نجاح حتى لو حدث نقص في تغطيته. والاتكاء على مُحْكمات الشرع ومُجْملاته أليق وأوفق، فالحديث عن الله وكمالاته، ونعمه وأعطياته، والقرآن وفتوحاته، والرسول وكراماته، ثم الإيمان وأركانه، والإسلام وأعلامه، والإحسان وبيانه.. وتأييد ذلك ببديع القول، ولطيف الإشارة، ومساق المثل، وأعجوبة القصة، وبليغ الشعر، ومكتشف العلم الحديث، وعبرة التاريخ. مراعى في ذلك المقصود الأسمى في تحريك القلوب، وتصفية العقول، وضبط السيرة.. دون إيغال في جدليات لا تناسب المقام، أو تذهب ببهجة الكلام. أما تفصيلات الأحكام فلها حيزها المحدود، فلا تستأثر بالأمر، ولا يخرج الحديث إلى تشقيق مفرط، أو تشهير محبط، أو محاكمة بين الأقران، أو تهديد بلاهب النيران. اللهم إلا إذا جاء الحديث عن قطعيات ومحكمات، من واجبات أو محرمات؛ فهناك يكون الاقتداء بمنهج القرآن في الوعد والوعيد. وأيُّ تَثْريبٍ على خطيب يأمر بالصلاة والزكاة، أو ببر الوالدين وصلة الأرحام، أو بالإحسان إلى الجيران، أن يشفع حديثه بوعد صدق للعاملين، وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين؟! أم أيُّ تثريبٍ على خطيبٍ ينهى عن الشرك وأسبابه، أو العقوق، أو بخس الحقوق، أو فواحش الأخلاق، أو محكمات المنهيات في الشريعة أن يَزَعَ النفوس بوعيد ترجف له القلوب، وتصطك له الأسماع؟ ولعل هذا وذاك خير من عزل الوعد والوعيد عن أسبابهما، وإفرادهما إفراداً يرسل النفوس مع رجاء، أو يقطعها من خوف. أما مواطن الاختلاف، وتعارك الأسلاف، فحقيق بمن مرّ عليها أن يمر مرور الكرام، عارضاً لكل أحد حجته، ملتمساً عذره، غير مهدّدٍ ولا متوعد. على أن الأمر كله في ذلك موصول بكل جديد، ومستفيدٌ من عبر الزمان وأحواله وتقلباته، ومن شهادة الواقع ومعاناته، ومن فتوح العلم ومنجزاته. ثم إن حاجات الواقع أوسع من ذلك وأفسح. فقضايا الاجتماع، والعلاقات الاجتماعية بمداراتها المختلفة وتشعباتها ومشكلاتها حقيقة بالنظر الإصلاحي العميق. ومثلها قضايا الاقتصاد وتطوراته وشؤونه وميادينه..والفقر والبطالة وآثارها... ومعيار طلب الدنيا وطلب والآخرة. وهكذا الشأن في مسائل الإعلام ووسائله، وخيره وشره، وحلوه ومره. ثم أمور السياسة: مداراتها، واتجاهاتها، وخطؤها وصوابها، ثم منجزات العلم في كل الميادين، من طب، وصناعة، وفلك، وتربية، وإدارة، وحاسب، واتصال. وهذه البنود شديدة اللصوق بحياة الناس الأسرية والفكرية، ولذا فهم شديدو التعلق بطرقها، متى كان الطارق حاذقاً، والمحلّ موافقاً، والحال مواتياً. يظن البعض أن خوض السياسة هو وحده الذي يكسب الخطيب تألقه، ويحشد حوله الناس. والصواب أن الموضوع الحي، والتناول السديد، ورشاقة الأسلوب، وجودة الإلقاء، وحسن الانتقال هي ضمانات الإبداع، ومحققات الالتماع، وجالبات الاستماع. وكم من واعظٍ بضاعته التبشير والتخويف، تحتشد حوله ألوف بعد ألوف! وكم من فقيهٍ متحدث في الحلال والحرام.. والناس حوله فئام إثر فئام! وكم من مفسّر.. ومفكّر.. ومنظّر.. وما شأن برامج الإذاعة والتلفزة عنا ببعيد! أيُّ معنى لخطيب يتحدث في الزنا والفاحشة، ولا يعرّج على الإيدز وإحصائياته المذهلة، ونظائره من الأمراض الجنسية! وأيُّ معنى لخطيب يتكلم في النكاح، والطلاق، ولا يعرّج على أثر الإعلام والمسلسلات الرومانسية، والروايات الغرامية، ولا يستشهد بالإحصاءات والأرقام، ويذكر كل ذلك بلسان العارف الخبير المطّلع، لا بلسان الناقل المتلقف المتخطّف! وأيُّ معنى لخطيب يتحدث عن الإعلام، ثم يجمل الحديث عن الإنترنت ووسائل الاتصال باعتبارها رجساً من عمل الشيطان، أو شرّاً محضاً ينبغي محاربته ونبذه! إن ثقافة الخطيب الشخصية ذات أثر بعيد في نجاحه، ويفترض أن ما يلقيه المتحدث في موضوعه لا يتجاوز 10% مما قرأه حول الموضوع. وحين تتناول هذا الموضوع، أو ذاك، فتذكرْ أن في مستمعيك من يفوقك -ولو في موضوع خاص- فجاهد نفسك في الدقة العلمية، وإصابة المرمى، وإن أعوزك الأمر فلُذْ بتعميم العبارة، وتوسيع الإشارة، وحاذر من حكاية الأوهام، بحجة أنك لست في باب الحلال والحرام، فإنك تخسر بذلك كل يومٍ فئةً تدري أن ما تحكيه ليس بصواب، فتنجفل إلى الباب! وَقَمِنٌ بالخطيب -والحديث يجر بعضُه بعضاً- ألا يصغي بأُذُنِهِ لخبر محتمل، أو رواية مترددة، أو ظن أو تخمين، حتى يعلم علم اليقين! وما أحراه أن ينأى بنفسه عن الحديث عن الأشخاص، والأعيان تصريحاً أو تلميحاً! وما أجدره أن يجانب لغة السب والتقريع والتوبيخ، ورديء القول، وشنيع المقال؛ فالعفة من الإيمان، والبذاءة في النار. وليكن في وارد البال أنه كلما كان الموضوع أكثر تحديداً - في هذا الباب- وأكثر دقة، وأبعد عن التعميم كان ذلك أدعى لسهولة الإعداد، وأيسر لتحقيق المراد، وأقرب إلى الفهم، وأوضح في الحكم. ومن تناول الموضوع بعموميته حام حوله، ولم يُصِبْ كَبِدَهُ. ولأن هذه المسائل مترابطة بسنة الحياة، فليس بِبِدْعٍ من القول أن تتناول الخطبة الواحدة عدداً منها من جوانب شتى. إذ لا يمكن فصل موضوع الزواج عن باب الاقتصاد، ولا عن باب الإعلام، ولا عن مبتكرات العلم الحديث، فضلاً عن الوعد والوعيد، والقرآن والحديث. أما عن تطلعات المستقبل فالقاعدة فيها النظر إلى مستقبل الإنسانية: علماً، وفكراً، وسياسة، واقتصاداً، إذ المسلمون جزء من هذا العالم لا يملكون عَزْلَ أنفسهم عنه بحال، فهم به متأثرون كثيراً، ومؤثرون قليلاً، بل نادراً، والله المستعان. ولكن إستراتيجيات الدعوة، وخططها وطموحات أهلها مربوطة بهذا الأفق الواسع الكبير، ولا ينجح في الفِلاحة من لا يعرف طبيعة الأرض. ثم هناك، بعد هذا وذاك، مستقبل الإسلام والمسلمين، والدعوة والدعاة، وقدرتهم على إدارة الحياة، وتوجيهها وفق شريعة الحق والعدل. وهذه المناحي الثلاثة تحتاج من الخطيب الحاذق لَمَسَاتٍ واعيةً، ونَفَثَاتٍ هاديةً، وتأصيلاً بديعاً، وترسيماً رفيعاً، يصل الأمس باليوم، واليوم بالغد، ويستشرف أفق المستقبل الواعد، ما أعيت الحيلة فيه في الحالِ الحالّ، من غير هروبٍ، ولا مجازفة، ولا تخدير. مع محاذرة التوقعات المحدّدة، والتخوفات المردّدة، والآمال الكِذاب، والأحلام العِذاب. ولقد أصبح المستقبل، ودراساته علماً قائماً بذاته، له مدارسه ومراكزه ومؤسساته، وله متخصصوه، وكتّابه ومؤلفاته، وهو كالنتيجة للمقدمة، والثمرة للسبب، والأثر للمؤثر، وإن كان الظن يصدق ويكذب. وأَعْلَمُ ما في اليومِ والأَمْسِ قبلَهُ ولكنَّني عن علمِ ما في غدٍ عَمِي هذه وَقَفَاتٌ سريعةٌ غيرُ مفقَّطةٍ ولا مُنَقَّطَةٍ حول مضمون الخطبة وموضوعها وفحواها ومعناها. ويستتم الحديث بحوله تعالى حول إطارها ومبناها، ومبدئها ومنتهاها، وأسلوبها وشكلها وطريقتها، وهو ما عسى أن يكون ميداناً آخر لبعض الحديث. [email protected]