طالعتنا قصيدة (عندما يزهر الحب) بحديقة مزهرة مستوحاة من القصيدة زينت الصفحة التي نشرت فيها من الجزيرة، نكاد نستروح عطر الأزهار بين الأبيات. القصيدة من البحر الخفيف (فاعلاتن مستفعلن فاعلاتن) قالوا: يا خفيفاً خفت به الحركاتُ فاعلاتن مستفعلن فاعلاتن وقليلاً مع العنوان: عندما يزهر الحب: وبعد أن يزهر لا بد من أن يعقد ثمرا (ويدخل سيدنا على ستنا) ويعيشان في تبات ونبات ويخلفان صبياناً وبنات، فهل سيحصل هذا في القصيدة؟ ثم حكمة بوجه عام: فالقصيدة ذكرتني برأي ناقدنا القديم ابن قتيبة في كتابه (الشعر والشعراء) عندما فرق بين اللفظ والمعنى والشكل والمضمون، وقال: إن من الشعر ما حسن لفظه فإذا فتشت عن المعنى لم تجد شيئاً وضرب لذلك مثلاً بالأبيات الآتية: ولما قضينا من منى كل حاجة ومسّح بالأركان من هو ماسحُ وشُدّتْ على حدب المطايا رحالنا ولم ينظر الغادي الذي هو رائحُ أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا وسالت بأعناق المطيِّ الأباطح وإلى القصيدة: 1- لا تراعي حبيبتي إن قلبي يزهر الحب في نسيم الليالي والبدء بالنهي حسن لأنه إنشاء وخير الشعر ما كان إنشاء بعيدا عن الوصف والتقرير. يطلب الشاعر من حبيبته (honey) على رأي الأميركان و(sweet heart) على رأي الإنجليز، ألا تراع (بالبناء المجهول) وسياق اللفظ يتطلب أن يخبرنا مم تخاف فيقول لها -مثلاً-: لا تراعي فأنا لست غولاً سيأكل أو على الأقل فأنا لن أؤذيك. قال قطري بن الفجاءة مخاطبا نفسه: أقول لها وقد طارت شعاعا من الأبطال ويحك لا تراعي فإنك لو سألتِ بقاء يومٍ على الأجل الذي لك لن تطاعي فمادام العمر محدودا فلم الخوف من الموت. وقال قيس بن ذريح (صاحب لبنى) وقد خافت منه ظبية فهربت: ألا يا شبه لبنى لا تراعي ولا تتيممي قُلل القلاعِ فهو لن يؤذيها لأنها تشبه لبنى. أما شاعرنا الأستاذ العيسى فقال لها إن قلبه يزهر الحب في نسيم الليالي ولم يخبرنا مم خافت. ثم لا تراعي إن قلبي: المفروض أن يقول فإن قلبي فهذا موضع الوصل لا الفصل. يزهر الحب في نسيم الليالي وأنا أعرف أن أشعة الشمس ضرورية لتغذية النبات (التمثيل الضوئي - الكلوروفيلي) في نسيم الليالي (النسيم breeze) ريح خفيفة وهناك ظاهرتان طبيعيتان (نسيم البر ونسيم البحر). القلب يزهر: استعارة مكنية. 2- يعشق الحسن والجمال ويهفو للتداني في لحظة من وصالِ وكل القلوب هكذا إلا من شذّ فما الجديد؟ والحسن والجمال بمعنى واحد إلا أن يكون الجمال أقوى يقولون (جمالها طاغ، وحسنها أخاذ). والتداني عكس التنائي.. قال ابن زيدون: أضحى الثنائي بديلاً من تدانينا وناب عن طيب لقيانا تجافينا والتداني والوصال بمعنى القرب إلا أن يكون الوصال أقرب وعلى كل نحن في عصر الاتصالات. لحظة (moment) وماذا تفيد اللحظة ألا من مبيت على رأي امرئ القيس: أماوى هل لي عندكم من معرسِ أم الصرم تختارين بالوصل ينأسِ والمعرس المبيت. 3- فاعذري لهيب قلبي المعنّى انثريني على يديك لآلي والبيت فيه خلل فني، لعله (فاعذريني) وعندها يكون لهيب منادى أي ينادي حبيبته: يا لهيب قلبي المعنى مم تعتذر وأين الذنب: قال أبو عمر بن العلاء لجرير (وكان أبو عمرو بن العلاء يلقب زبّان): هجوت زبان ثم جئت معتذراً من هجر زبانَ لِمْ تهجو؟ ولم تدعُ انثريني: وانثريني أحسن لأن الموضع وصل لا فصل (كما بينا). ولماذا تنثرك: حبّا أم انتقاماً، لآلي: تخفيف لآلئ واللآلي كناية عن الدموع (أحياناً) هل أردت هذا؟ فأمطرت لؤلؤاً (الدموع) من نرجس (العيون) وسقت ورداً (الخدود) وعضت على العناب (الشفاه) بالبرد (الأسنان). 4- وهبيني - فدتك نفسي - سلاماً وأماناً يطفي أجيج اشتعالي وهبيني: هبْ: فعل أمر وهب وهي غير هَبْ بمعنى: افرض (فدتك نفسي) جملة معترضة لا محل لها من الإعراب ويقال فدّاه: يعني جعله الله فداه أو فداءه وإلى الآن ما عرفت سبب النيران المتأججة والقصيدة حديقة مزهرة: قال أبو العتاهية: تعالى الله يا سَلمَ بن عمرو أذل الحرص أعناق الرجالِ هب الدنيا تساق إليك عفواً أليس مصير ذلك للزوال؟! 5- وخذيني إلى عوالم عشق ليس منه بذي الدنا من مثال يا سيدي وضعت نفسك تحت أمرها: اعذريني، انثريني، هبيني، خذيني (ولسّه) ما هذا الاستسلام، لعلك تريد (تذلل له تحظى بحسن جماله). ما أحسن الطاعة. ليس منه: ليس منها: من العوالم (وهي غير عوالم الأفلام المصرية فعوالم الشاعر جمع عالم وعوالم المصريين جمع عالمة (عَلْمَه). 6- واغمريني ببلسم من عطاء يردي شعري وأحرفي بالنوالِ والبيت فيه خلل فني أيضاً إلا أن يكون يروِ بدل يردي. واغمريني: وأيضاً سلسلة أفعال الأمر، ولكن أنت تحت أمرها لا العكس. اغمريني ذكرتني بقاعدة أرخميدس في الأجسام المغمورة: كل جسم يغمر في سائل يفقد من وزنه بمقدار وزن حجمه من السائل ويسمى قانون الطفو، وقالوا: إن البحر يحمل الجبل (السفينة) ولا يحمل الإبرة (تطبيقاً على قاعدة ارخميدس) باختصار شديد الجسم الذي كثافته أكبر والإنسان يطفو في الماء لأن كثافته 0.78غم-سم3 العطاء والنوال بمعنى واحد: إذا قلت هاتي نوّليني تمايلت عليّ هضيم الكشح ريّا المخلخل هضيم الكشح: ضامرة البطن (زيي) ريّا المخلخل: سميته موضع الخلخال من الرِّجل. 7- اسمحي لي حبيبتي بوح عشقي فأنا أنتِ صنو حال بحالِ يا سيدي أحزنتنا بهذا التذلل وهذه الطاعة العمياء: يا سيدي الطاعة واعية. واسمحي لي: لعلها اسمعي لي، أو اسمحي لي أن اسمعك. فأنا أنت (في مشكلة). يقال صنوان ويقال صنو، قال تعالى {صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ} وفي الحديث الشريف (عم الرجل صنو أبيه). والصنو المثل. 8- وتعاليْ نذوب قلباً لقلبٍ مثل إلفين أغنيا في انثيالِ تعالي: تعال اسم فعل أمر بمعنى أقبل ونقول تعالَيْ وتعالِي قال أبو فراس: أيا جارتا ما أنصف الدهر بيننا تعالَيْ أشاطرْك الهموم تعالِي تعالي نذوب ويجوز نذُبْ جزم بجواب الأمر قال تعالى: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} إلفين أغفيا بدل أن يصحوا ويبوحا لماذا؟ والإغفاءة النومة اليسيرة وهي غالباً تسبب الصداع. انثيال: انسياب.. انثياب ماذا وانسياب ماذا؟ 9- يا هنائي حبيبتي أنت عمري أنت نبضي وسلوتي والسؤال يا هنائي: يا هنايا يا فرحتي وهذه من صيغ التعجب: ما أفعله وأفِعل به ويالفعله أو يا فعله أنت عمري: إنت عمري اللي ابتدا بنورك صباحو أنت نبضي: puls ولا تربط قلبك بها فقلوب الناس تتقلب ولا داعي لأن نحتفل أكثر والسؤال: مشكلة كبيرة ما الذي جرّ السؤال.. لعله وسؤالي 10- أنتِ ما أنتِ غير سر دفينٍ بين جنبيّ خافق في ابتهالِ وهذا ما قلته عن الشكل والمضمون أولا. وبعد كل هذا البوح والخطاب والعشق وأفعال الأمر: مازالت سرا بعد أن قرأ القصيدة ما لا يقل عن مائة ألف أو يزيدون: كل سر جاوز الاثنين شاعْ كل علمٍ ليس في القرطاس ضاعْ والخافق هو القلب.. قال بشارة الخوري (الأخطل الصغير) من قصيدة الهوى والشباب التي غناها الراحل موسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب: أيها الخافق المعذب يا قلبي نزحت الدموع من مقلتيا 11- أنت سرٌّ أودعته كل حسّي فارحمي الواله المشوق الأمالي والسر عرضنا له قبلا وارحمي (ربنا يرحمنا جميعا) يا سيدي كفى خضوعا، وما أعرفه هل هناك ارتباط بين هذه القصيدة وأغنية الراحل فريد الأطرش: مرّهْ يهنيني ومره يبكيني ما انا كلمة تجيبني وكلمه توديني أما سمعت أم كلثوم: (أصون كرامتي من قبل حبي) الواله المشوق: لا مشكلة الأمالي: ما المقصود؟ ذكرتني بكتاب (الأمالي) لأبي علي القالي والأمالي ما يمليه العميان حيث لا يكتبون. 12- كيف جاءت بي السنين وحيداً بين كفيك رفقاً لحلِّي وحالي والبيت فيه خلل فني ولا ينضبط الوزن إلا إذا قلت (بين كفّي) ولا معنى حينئذ: جاءت السنين: السنون أحسن فهي ملحقة بجمع المذكر السالم قال تعالى {فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ} مجرورة. وقال الشاعر: ثم انقضت تلك السنون وأهلها فكأنها وكأنهم أحلامُ رفقاً لحالي (يا حرام) لحِلّي: ما أعرف ما يريد الشاعر: فالحلّ ضد الترحال والحِل عكس الحرم. بين كفيك: بين يديك: أمامك: بين كفيك: مثل قطعة الرقاق (العجين) قال ابن الرومي: إن أنس لا أنس خبازاً مررت به يدحو الرقاقة وشك اللمح للبصرِ ما بين رؤيتها في كفه كرةً وبين رؤيتها كوراء كالقمرِ إلا بمقدار ما تنداح دائرةٌ في صفحة الماء يلقى فيه بالحجرِ 13- لن تراعي حبيبتي إن حبي كنز عشق لك السنين الغوالي ولو كنت حبيبتك لنفرت منك لهذا الضعف: أين الرجولة والقوة. لن تراعي كما بدأنا عوّدنا السنين الغوالي ولاّ الخوالي ذكريات عبرت أفق خيالي بارقا يلمح في جنح الليالي نبهت قلبي من غفوته وَجَلتْ لي ستر أيامي الخوالي أما بعد فأنا أحب الشعر والشعراء (ليس كتاب ابن قتيبة) وتعاملي مع الكلمة ولا أقصد إساءة قط ولولا أن القصيدة قيّمة ما كتبت عنها كل ما كتبت وسامحونا.