لقد تزايد الاهتمام باقتصاديات التعليم منذ بداية النصف الثاني من القرن الماضي؛ إذ بدأ الاقتصاديون يربطون بين الإنفاق على التعليم ومعدلات النمو الاقتصادي، ويعتبرون الإنفاق على التعليم نوعاً من الإنفاق الاستثماري؛ حيث يترتب على هذا الإنفاق ارتفاع في قدرات ومهارات الأفراد، ومن ثَمَّ زيادة الإنتاجية. وبدأ التربويون في بداية الأمر يقاومون هذا الاتجاه؛ ظناً منهم أن في هذا الاتجاه إضعافاً للوظيفة الثقافية والفكرية والجمالية للتربية، وقاوموا اعتبار المؤسسات التعليمية مؤسسات لإعداد القوى العاملة، بل منهم مَن رفض العلاقة بين التعليم والتوظيف أو بين التعليم والإنتاج، ولا يرون للتعليم دوراً في زيادة الإنتاج أو إصلاح الخلل في الهياكل الاقتصادية. وانتقل هذا التوجه إلى بعض السياسيين وصُنَّاع القرار، ولم يبذلوا عند رصد الموارد المالية للتعليم، واعتبروه قطاعاً هشاً لا يغطِّي كلفته، ومن ثَمَّ يُعطَى الفتات في مائدة الاستثمار، وذهبوا إلى أبعد من ذلك فمنعوا تمويل التعليم من قروض أو منح دولية. جاء ذلك في دراسة حول قضايا التعليم والتنمية. واستطردت الدراسة أن هذه المزاعم سُرعان ما تبدَّدت وبدأت الوظيفة الاقتصادية للتعليم تُثبت وجودها، وحسم البنك الدولي هذا الجدل من خلال مجموعة كبيرة من الدراسات والبحوث الاقتصادية التي أثبتت أن التعليم استثمار حقيقي له عائد اقتصادي شأنه شأن القطاعات الاقتصادية الأخرى، فالموارد البشرية - كما أكَّد الكتاب - تمثِّل الأساس لثروة الأمم، وأن رأس المال والموارد الطبيعية هما عناصر إنتاج سلبية، وأن العنصر البشري هو عامل الإنتاج النشط والفعال. وظهر الحديث عن الأثر المباشر للتعليم في النمو الاقتصادي، وذلك من خلال تحسين القدرات والمهارات الإنتاجية للقوى العاملة. وفي عام 1962م قرَّر البنك الدولي تقديم أول قرض منذ إنشائه لقطاع التعليم؛ اعترافاً منه بالدور المهم الذي يمكن أن يلعبه التعليم في النمو الاقتصادي والتنمية الشاملة. ولا يوجد خلاف بين الاقتصاديين على وجود دور مباشر للتعليم في النمو الاقتصادي، وقد استخدمت متغيرات متعددة لقياس علاقة التعليم بزيادة النمو الاقتصادي، من أهمها - كما تصفها الدراسة - زيادة نسبة العمالة، وخصوصاً في القطاعات الإنتاجية، وزيادة الأجور على افتراض أن زيادة الأجر مرتبطة بزيادة الإنتاج، وانخفاض مستوى الأمية، وارتفاع معدلات الحياة وانخفاض معدلات الوفاة، وانخفاض معدلات المواليد. وتذكر الدراسة أن هناك طريقتين شائعتين لقياس العلاقة بين التعليم والنمو الاقتصادي: الأولى هي دالة الإنتاج الاقتصادي، وفيها يُفترض وجود علاقة بين الإنتاج الكلي من ناحية وكلٍّ من رأس المال المادي ورأس المال البشري من ناحية ثانية. والطريقة الثانية هي قياس العائد الاقتصادي لرأس المال المادي، فعند مقارنة التعليم بالصحة والتغذية، وعلاقة كل منهما بالنمو الاقتصادي، وُجد أن التأثير القوي كان للتعليم. وفي دراسة شملت 66 دولة نامية وُجد أن التعليم لا يؤثر في النمو الاقتصادي فحسب، بل إن الاستثمار العام يكون أثره في النمو الاقتصادي ضعيفاً إذا لم يرتبط باستثمارات في قطاع التعليم. ولم يهتم العلماء بقياس الأثر المباشر للتعليم في النمو الاقتصادي فحسب، بل اهتموا أيضاً بتحديد الأثر غير المباشر في التنمية البشرية، مثل جوانب الصحة والخصوبة وسرعة انتشار التكنولوجيا وقابلية التعليم والاحتفاظ بالمهارات الأساسية وزمن التمدرس والتسرب من المدرسة الابتدائية وإتقان المهارات الأساسية للتعليم والاحتفاظ بها ومعدلات التحصيل الدراسي وجودته النوعية بين الفقراء. كل هذه الدراسات أكدت جدوى الاستثمار في التعليم، وأن لهذا الاستثمار عائدات مباشرة تتصل بالنمو الاقتصادي وعائدات غير مباشرة تتصل بجوانب التنمية، فنتج من ذلك أن التعليم مسؤول عن تطوير القدرات الفنية والمهارات الإدارية للقوى العاملة. ويستهدف ذلك بحسب الدراسة زيادة إنتاجية العمل وخدمة متطلبات العملية الإنتاجية. ومن ناحية أخرى، فإن التعليم مسؤول عن خدمة الإنسان والإيفاء بحاجاته الأساسية التي ترتبط بمجالات حيوية، كالدخل والصحة ومحو الأمية والتغذية والبيئة؛ سعياً إلى تحقيق الرفاهية الاجتماعية وتخطِّي حواجز التناقضات، وخصوصاً التفاوت، سواء في مستوى المعيشة بين الأفراد والدول أو في تكافؤ الفرص بين الجنسين وبين الريف والحضر. ولا سبيل إلى تخطِّي هذه الحواجز إلا بتعليم جيِّد يمكِّن المتعلِّم من التعبير عن ذاته وتحقيق حاجاته والمشاركة الواعية في العمليات والنشاطات الاقتصادية والاجتماعية السياسية والثقافية، وعلى الله الاتكال.