ظهر التخطيط التربوي في بداية أمره في إطار من اقتناع المسئولين عن التربية ومؤسساتها بما يحمله هذا التخطيط من قيمة وأهمية للتنمية الاقتصادية. ومنذ ظهوره في هذا الإطار وجد مسئولو التربية أنفسهم أمام نوعين من التحديات: صعوبات مبدئية فكرية، وصعوبات عملية فنية. 1) فبالنسبة للتحديات المبدئية الفكرية، فإنه يجمعها تساؤل طبيعي عن جواز خضوع التربية للاقتصاد وأغراضه، وعن مدى صحة القول بأن التخطيط التربوي يستمد معناه وقيمته مما يحققه للمجتمع من عوائد ذات قيمة اقتصادية كبيرة. ونظراً لأن الفراغ لا يتسع للخوض هنا في مناقشة مفصلة لهذه القضية الهامة، فإننا نكتفي بالقول بأن للمؤسسات التربوية خصوصيتها الفريدة التي تتميز بها عن غيرها من المؤسسات الاقتصادية، التي تنبع دون شك من اهتمامها المطلق بتحقيق أهداف إنسانية خالصة تمس أعمق ما يملكه الإنسان من حيث العناية بثقافته وتكوينه الفكري. ومن هنا فإنه لا يمكن للتربية أن تعمل في خدمة الاقتصاد وحده، أو أن ينظر إليها على أنها واحدة من القطاعات الصناعية التي توزن قيمتها وأهميتها للمجتمع بمقدار ما يعود عليه منها من مردود اقتصادي ومالي. ولئن سلَّمنا بأن هناك تآخياً (تداخلاً) قائماً بين ما تسعى التربية إلى تحقيقه من أهداف تربوية خاصة وما تحققه من أغراض اقتصادية، أو بين ما هو تربوي وما هو اقتصادي كما سنرى، ولئن كنا لا نقبل الفصل المبدئي بين ما هو ثقافي وما هو اقتصادي، فإنه قد يبدو صحيحاً إذن أن للتربية أهدافها الخاصة التي هي أقرب ما تكون إلى الأهداف الثقافية، وإلى تكوين الإنسان وتفتح قابلياته منها إلى الأهداف الاقتصادية التي تزخر بها أسواق العمل وحاجاتها وصناعاتها ومهنها. ومهما يكن من أمر التواصل بين الإنسان المفكر والإنسان العامل، أو بين العقل واليد، فإنه سيظل من الصحيح أن للتربية قطبي نشاط لا يمكن لأحدهما أن ينفك عن الآخر: أولهما قطب تكوين الإنسان من أجل معرفة ذاته وبناء قيمه الإنسانية عموماً، وثانيهما قطب تكوينه من أجل مهنته وعمله والإسهام في اقتصاد بلده. ونتيجة لهذا التآخي بين الأهداف التربوية الخاصة والأهداف الاقتصادية للتربية، فإنه يظل من الصحيح كذلك أن التربية لا يمكن أن تجني ثمار غرسها الاقتصادي والثقافي على السواء إذا كانت مجرد خادم للاقتصاد، وإذا لم يكن الاقتصاد نفسه في خدمتها، وبخاصة في ظل اقتصاد المعرفة الذي يقوم على نواتج العقل البشري ويعتمد عليها لإحداث تغيرات بالغة الأثر في البيئتين المادية وغير المادية. ومعنى هذا أنه إذا صح أن التنمية التربوية ينبغي أن تخدم أهداف التنمية الاقتصادية، فالصحيح أيضاً أن التنمية الاقتصادية لا بد أن تخدم أهداف التنمية التربوية. وليس من قبيل وضع الأمور في موازينها السليمة أن نقول إن التخطيط التربوي يتخذ قيمته ويثبت ضرورته من خلال ما يقدمه للاقتصاد الجديد من موارد أساسية، ذلك أن الاقتصاد نفسه لن يبلغ مداه إلا من خلال ما يفسحه للتربية من مجالات التفتح الحر البعيد عن موازين الاقتصاد التشغيلية الخالصة. هذا فيما يتصل بالتحديات المبدئية الفكرية التي يثيرها القول بأهمية التخطيط، استناداً إلى ما له من شأن اقتصادي. من جانب آخر فإن هناك صعوبات (تحديات) أخرى فنية تفوقها خطراً، ذلك أننا إذا تجاوزنا مواجهة التحديات المبدئية، وحاولنا بعد ذلك أن نرى كيف يمكننا أن نترجم عملياً قولنا بالترابط - على أقل تقدير - بين التربية والاقتصاد، وأن نقلب هذا القول إلى ترابط محسوس تم تشخيصه، فسوف تواجهنا صعوبات فنية هذه المرة، إذ لا يكفي أن نحدد فقط الصلة بين الاقتصاد والتربية، ولا يكفي كذلك أن نقف عند حدود هذه العلاقة العامة بين العطاء التربوي والعطاء الاقتصادي، بل لا بد أن نحول هذه العلاقة إلى واقع عملي. وبعبارة أخرى، لا بد أن نوجد اللحمة (الصلة) العملية الواقعية التي تمكننا من الربط بين الأهداف الخاصة التي يسعى الاقتصاد والتربية (كل على حدة) إلى تحقيقها، وأن نرى كيف يمكننا أن نخطط للتربية على نحو يتلاءم مع حاجات الاقتصاد. وهذه اللحمة بين الاقتصاد والتربية يجدها معظم الباحثين في التخطيط التربوي، محققةً إذا قمنا بالتخطيط للتربية على نحو يتلاءم مع احتياجات الطاقة العاملة، أي بأن نجعل التربية بمثابة معمل نعد من خلاله ما يحتاج إليه البلد من عاملين في جميع أوجه النشاطين الاقتصادي والمهني. 2) وأما بالنسبة للتحديات العملية الفنية، فإنها تتعلق بمدى توافر الوسائل القادرة على تحديد حاجات التربية استناداً إلى حاجات الطاقة العاملة. ومثل هذا التحديد يشترط توافر أمور ثلاثة تواجه كلاً منها بعضُ الصعوبات: الأمر الأول: حصر الطاقة الفعلية العاملة في البلد وبيان توزعها على مختلف المهن والأعمال، وفي هذا ما فيه من صعوبات فنية كبرى. والأمر الثاني: التنبؤ بما ستكون عليه الطاقة العاملة بعد عدة سنوات، ومعرفة توزعها على مختلف أوجه النشاط الاقتصادي والمهن والأعمال، وفي هذا أيضاً ما فيه من صعوبات فنية جسيمة. أما الأمر الثالث- ولعله ثالثة الأثافي وأخطرها - فهو: قلب تنبؤاتنا التي قمنا بها والمتصلة ببنية الطاقة العاملة وتوزعها على المهن والأعمال خلال السنوات المقبلة إلى ما يعادلها من إعداد تربوي، أي تحديد المؤهلات التربوية التي تحتاج إليها أعداد مختلفة من أفراد الطاقة العاملة، الذين تنبأنا بوجودهم خلال سنوات الخطة، الذين عرفنا توزعهم على المهن والأعمال المختلفة (على افتراض أننا عرفنا ذلك حقاً)، وهذه المسألة الثالثة من أصعب الأمور التي تواجه القائمين على عملية التخطيط التربوي. ذلك أنه من العسير أن نحدد المؤهلات التربوية (الشهادات أو نوع الدراسة) اللازمة لأداء كل مهنة وفي كل عمل أو فرع من فروع النشاط. على أن ترجمة الأعمال المختلفة إلى ما يعادلها من سنوات دراسية ومؤهلات تربوية ليس بالأمر اليسير، نظراً لأن الإعداد المهني لاقتصاد المعرفة أصبح يختلف إلى حد كبير عما سبقه من اقتصاديات كانت تعتمد على الأعمال المحدودة والمكررة في نطاقات محددة كذلك، فمعايير الصلاحية لأداء مهنة ما من المهن قد اختلفت في الواقع عن المعايير السائدة حالياً في تقييم الأداء الدراسي في نظم التعليم ومؤسساته المعنية بإعداد الكوادر البشرية اللازمة.