انتقل إلى رحمة الله الشيخ علي بن محمد بن عبدالله الفهيد آخر شيوخ المهنة بمدينة بريدة، وصلينا عليه بُعيد صلاة الظهر من يوم الثلاثاء10-3-1426ه بمسجد الشيخ محمد بن عبدالوهاب، وشيعه المئات إلى حيث مثواه لم تكن وفاة (ابو عبدالله) رحمه الله إلا انقضاء حقبة من التاريخ المهني الحرفي لمجتمع بريدة القديم الذي كان يعتمد في احتياجه المهني والحرفي بل والصحي على افراد ربما كان آخرهم (ابوعبدالله) الذي توفي عن عمر ناهز الخمسة والثمانين عاماً، ولم تكن أسرته الفهيد إلا تاريخاً متجذراً في تاريخ بريدة، ورث المهنة على تنوعها وحملها جيلاً بعد جيل، وسلمها في النهاية لجيل لم يقدر على توريثها لقد تحملت أسرة الفهيد ببريدة مهام مهن شتى نذكر منها: الزراعة، والبيطرة، وغسل الأموات وتجهيزهم، وما يتعلق بشؤون الزواج واعداد العروس، واعداد الحلويات الشعبية، لقد غطت هذه الأسرة مثل غيرها من الأسر حاجة مجتمع بريدة لهذه الخدمات في وقت كانت بأمس الحاجة إليها لانقطاعها عن العالم كان (ابوعبدالله) مهنيا متعدد المواهب، يجمع حرفاً كثيرة، نذكر منها قلع الأضراس، ولقاح النخيل، وتجهيز الأموات! انه نموذج للرجل المهني الذي يعشق المهنة وخدمة مجتمعه، ويأكل من عرق جبينه، فقبل بدء الحضارة المدنية الحديثة لبريدة، لا عجب أن تراه يقلع ضرس مريض قد سوس وحرمه النوم! أو صعد نخلة لتأبيرها، أو حضر عرساً او وليمة كبيرة فأعدها واخرج بمهارة عالية، أو حضر جنازة فغسلها وكفنها وحملها إلى المسجد! وقد تراه في كهولته حينما استغنى المجتمع عن خدماته قد فتح محل بنشر لعجلات المعدات الثقيلة، وقد تراه ذاهبا إلى المسجد ليؤذن في الأوقات الخمسة بالتزام عجيب، إنسان مثالي في تقديره للعمل بكل اخلاص ونزاهة وصدق، يؤدي بإخلاص وتقوى واحتساب لربه! فأين هو من شاب متعطل متبطل اخرق اينما توجه لا يأتي بخير! إن المهنة شرف وفخار، فالرجل يطحن ويطعن ومتى تأصل حب المهنة فإنه يحق للمجتمع أن يأكل لقمته من فأسه ويسترد عافيته واستقلاله وشخصيته. لقد كان بيت (الفهيد) قبل خمسين عاماً فاتحاً بابه لكل صاحب حاجة، ونجدة لكل ملهوف، فمن طالب (قابلة) لحالة ولادة عاجلة، او مريض بحاجة إلى حليب فيحلبون له من بقرهم، أو طفل يتيم أو مريض بحاجة إلى تطبيب وإرضاع، أو صبي يطلب أهله ختانه، أو مناسبة كبيرة تحتاج إلى تجهيز الحطب والذبائح والطبخ وخدمة الضيوف أو مناسبة زواج يتولون مهامها من بدايتها إلى نهايتها ولم تكن خدماتهم هذه مقابل اشتراط مادي، وانما خدمة اجتماعية لبيئتهم يتلقون مكافأتها وثمنها عن طريق مبدأ {هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَان}(60)سورة الرحمن فمثلاً إذا كان متلقي الخدمة فلاحاً فإنه يزودهم بمحاصيل ثماره عند الحصاد، ويخصهم كما يخص بيته! وكان محمد العبدالله الفهيد والد (ابوعبدالله) من شيوخ المهنيين بمدينة بريدة قبل خمسين عاماً، وكان رجلاً محبوباً بشوشاً عمل مؤذنا لمسجد ماضي لمدة خمسين عاماً كما عمل ابنه (ابوعبدالله) الذي تلقى المهنة عن والده، مؤذنا لمسجد الحميضي ببريدة. ومن اخوانه الأحياء عبدالله من اساتذة حرفة فن التجصيص ببريدة وعبدالرحمن من الذين احترفوا مهنة قيادة السيارات ابان مطلع ظهورها في المملكة، وصالح من التجار الأوائل للقماش ببريدة، ومؤذن مسجد الربيش، ومن اخوانه ايضا سليمان واخوته الذين تعلموا والتحقوا بمهن عصرية. وكان علي رحمه الله واخوانه عبدالله وصالح وعبدالرحمن يسكنون مع والدهم محمد رحمه الله في منزلهم الكبير مشرق مسجد ماضي ببريدة، وكان برهم لوالدهم ومجتمعهم لبعضهم حديث الناس، فكان جل مكسبهم لوالدهم ولم يكن يتميز احدهم بمال خاص به، وعند وفاة والدهم ورث المال معهم اخوانهم الصغار الذين ولد احدهم في اليوم الذي مات فيه والدهم رحمه الله ولعلي رحمة الله أبناء كرام يتحلون بصفات واخلاق ابيهم وحدهم هم عبدالله ابو فهد مدير الصيانة بالشؤون الصحية بالقصيم، وسليمان في المساحة بالشؤون البلدية بالقصيم وسالم وخالد وفهيد بمستشفى الملك فهد التخصصي ببريدة. إن تاريخ اسرة الفهيد هو من تاريخ المهنة الشعبية ببريدة، وندعو الذين يؤرخون للمهن والحرف الشعبية والتراثية القديمة لمدينة بريدة، أن يأخذوا التاريخ المهني والحرفي القديم من افواه كبار أسرة الفهيد من رجالهم ونسائهم الباقين على قيد الحياة! تدويناً للتاريخ المهني الشعبي الذي انقرض مع هبوب الرياح العصرية التي بدلت حياتنا من تاريخ البلدة المسودة بجدار ذي بوابات تغلق في الليل وتفتح في النهار إلى بلدة عصرية سقفها الفضاء وأسوارها آفاق الدنيا.