استكمالاً لما نشرناه الأسبوع الماضي عن صالح بن سليمان السلومي -رحمه الله-، وكونه أحد الرجال الذين أسهموا في التنمية الذاتية لوطننا الغالي، نتابع في هذا العدد سيرته وإسهاماته في تاريخ وطننا الغالي. أبرز صفاته: من أبرز صفاته -رحمه الله- كرمه مع القريب والبعيد، وإحسانه بالصغير والكبير خاصةً العمالة، حيث كان شريكاً لأخيه عبدالله فترةً من الزمن في قهوة قريته الجُديِّدة بضيوفها، بل كان خير مُعين لأخيه في نفقة المنزل المُشترك بينهما وخدمة شؤون البيت بشراكةٍ أُسرية، ثم وضع لنفسه قهوةً خاصةً به كانت عامرةً بالضيوف وبأصدقائه وأحبابه في كل صباح طيلة السنة، ولعل في هذه الضيافات مع الاحتساب خيراً وأجراً عند الله، وصلةً وبراً عند خلقه، وإسعاداً وسروراً مباحاً، كما ورد في الحديث النبوي: (أَحَبُّ الأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ سُرُورٌ تُدْخِلُهُ عَلَى مُسْلِمٍ، أَوْ تَكْشِفُ عَنْهُ كُرْبَةً، أَوْ تَطْرُدُ عَنْهُ جُوعاً، أَوْ تَقْضِي عَنْهُ دَيْناً). ومما عُرف عنه بالرغم من كونه ميسور الحال عفوه وتسامحه في كل شيء، ومن ذلك أنه لا يشترط أجرةً معينة مقابل عمله مع من يحتاج إلى عمله، ومن تسامحه تنازله عن بعض حقوقه المادية من ديون على بعض الناس المدينين من المشترين لبعض البضائع أو المستدينين للدراجات الهوائية أو النارية ومكائن المياه وغير ذلك، فلم يُعرف أن له أيُّ خصومة أهلية أو رسمية بالمحاكم مع أحد من هؤلاء أو غيرهم، وكان قد مَزَّقَ دفتر ديونه على المعسرين والمتأخرين في السداد حينما كان في الستين من عمره أو قبلها تقريباً لينام قرير العين مرتاح البال، وليُريح ورثته من بعده. وكان مما اتصف به صالح ملازمة المسجد، وأداء الآذان في أحيانٍ كثيرة تطوعاً بصوتٍ جميل معروف عند جيرانه، كما لازم قراءة القرآن فترةً طويلة من الزمن خاصةً بعد ما تَخَفَّفَ من أعماله الحُرة المتنوعة، وبعد ما قَلَّلَ من التزاماته المهنية المجتمعية، لدرجة أنه كان يختم القرآن كل ثلاثة أيام تقريباً -حشره الله مع أهل القرآن-، وذلك قبل مرضه الأخير الذي أقعده، وبصعوبة بالغة تم معرفة هذه المعلومة زمن حياته، والحق أن هذا السلوك للمسلم مما يحفظ الله به عباده ويُسعدهم في الدنيا قبل الآخرة، وقد انعكست هذه الحياة مع القرآن على حياة أبي سليمان صالح بالخير وبركات الرزق كما هو أيُّ مسلم يُعطي من نفسه وقتاً للقرآن، فملازمة القرآن خاصةً بعد كبر السن خير ما يُشغل به الإنسان نفسه طلباً لسعة صدره، ورغد عيشه، وابتغاء ما عند الله من خيريةٍ وأجرٍ ومثوبة، كيف والإنسان قد تقاعد من أعماله الوظيفية؟! وربما كثيراً من التزاماته الأسرية؟! وتتأكد الخيرية والأجر مع استحضار هذه الأحاديث وما شابهها عن قيمة العيش الكبرى مع القرآن تلاوةً وتدبراً: (يقال لصاحب القرآن: إقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها) (فلئن يغدو أحدكم كل يوم إلى المسجد فيتعلم آيتين من كتاب الله عز وجل خير له من ناقتين، وثلاثاً خير له من ثلاث، وأربعاً خير له من أربع، ومن أعدادهن من الإبل) (من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول ألم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف) (الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن وهو يشتد عليه له أجران) (إن لله أهلين من الناس، قالوا يا رسول الله: من هم، قال: هم أهل القرآن، أهل الله وخاصته). وكان يتصف بعاطفةٍ جياشة ورحمةٍ شديدة ودمعةٍ حاضرة وإجهاشِ بالبكاء سريع، كما كان صاحب دعابة ونكتة ومزاح مع جلسائه وأصحابه، ربما لدرجةٍ يُمكن أن تُوصف عند بعض الناس مزاحاً مفرطاً. وقد اتصف -إلى حدٍ كبير- بقوة الذاكرة ودقة معلوماته الاجتماعية التاريخية خاصةً عن تاريخ الشنانة القديم، فكان النقل عنه لكثيرٍ من الأقوال والروايات، ومنها ما ورد في بعض المؤلفات المعنية بالتراجم والتاريخ، خاصةً ما كان يتوافق مع روايات الآخرين وأقوالهم من مشاهدات وذكريات عن الشنانة ورجالها وأحداثها التاريخية، ومن هذه الكتب ترجمة عميد أسرة السلومي في كتاب (سليمان بن ناصر السلومي - الشخصية والرسالة)، وعن شيخ الأسرة في كتاب (عبدالله بن سليمان السلومي - تجارب تطوعية مبكرة)، ومنها الكتاب المعني بتاريخ الرس (الرس وأدوار تاريخية في الوحدة). من خدماته المجتمعية ومهاراته: كان متفوقاً على والده بصنوفٍ كثيرة من المهارات الإبداعية والهندسية حسب إمكانيات عصره، ومن ذلك أنه كان مهتماً بشؤون المسجد المجاور لبيته في قرية الجُديدة تطوعاً خاصةً ما يتعلق بكهرباء المسجد قبل وصول خدمات شركة الكهرباء للشنانة، ثم بعد وصول الخدمة، وكان ماهراً في ترتيب مكبرات الصوت للمسجد وأجهزة التكييف له، والعناية بالمسجد والصيانة له في هذه الخدمات كمساند ومعين لأخيه إمام المسجد عبدالله السلومي. وقد عمل بمهن هندسية كثيرة ومتنوعة برزت فيها مهاراته، ومن ذلك أنه كان مستورداً (للمكاين) ماكينات رفع المياه من الآبار وبائعاً ومهندساً لها وعاملاً على الصيانة والتشغيل لها في مزارع الشنانة وما حولها من المزارع والحيطان، وقد لبث فترةً طويلة يُعدُّ المهندس الوحيد لل(مكاين) في الشنانة آنذاك، كما كان يبيع ويصلح قطع غيارها، وقد ركَّب وشغّل ماكينة كهرباء محدودة الخدمة لبيوت عائلته وللمسجد في أوقات محددة قبل خدمة الكهرباء العامة، وكان مهندساً بارعاً في بعض الأعمال آنذاك، كما كان مهندساً في (إصلاح أنواع الساعات)، ومن أشهر هذه الساعات قديماً الساعة ذائعة الصيت «ويست إند السويسرية» المسماة (أم صليب) المعروفة بجودتها ودقة توقيتها آنذاك، وكان كثيرٌ من كبار السن يشترونها ولم يقاطعوها، ولكن يطلبون منه مسح علامة الصليب من داخلها تورعاً منهم واجتهاداً، كما أنه استورد بعض أنواع (مكائن الخياطة وإصلاحها)، وقد كانت ملازمةً لكثيرٍ من البيوت، بل كانت جزءاً رئيساً لبعضها. وكان من خدماته الاجتماعية أنه وضع (طاحوناً للحبوب) لخدمة القرية والقرى المجاورة لتوفير عناء ومشقة الذهاب إلى بلدة الرس آنذاك، كما استورد صناديق الدراجات الهوائية (السياكل)، ثم استورد بعد ذلك صناديق (الدراجات النارية) وتركيبها وبيعها وإصلاحها، وكان عنده دكان بالقرية لبيع قطع غيارها وما شابهها من أغراض. وقد كان يملك حرَّاثة للأراضي الزراعية تُسمى (دركتر) وأحياناً تُستخدم لدوس الحبوب كذلك، ثم آلة أخرى لحصاد الزرع تُسمى (ذرَّاية) يدور فيها على مزارع الشنانة وما حولها في المواسم بطلبٍ من المزارعين آنذاك، كما أنه عمل على ابتكار تركيب رافعةٍ تُسمى (الونش) على ظهر سيارة مرسيدس كبير، وذلك لرفع مكائن المياه من داخل الآبار والقلبان وصيانتها، ورفع الكميات الكبيرة من التراب عند حفر الآبار، وعملت هذه الحرَّاثة والحصَّادة والرافعة على الاستغناء الذاتي للشنانة وما حولها من القرى في هذه الخدمات تقريباً. ومن خدماته الاجتماعية أنه افتتح بجوار المحل السابق للأدوات الزراعية والدراجات مكاناً آخر (دُكان) كبقالة لاحتياجات القرية من المواد والأواني الرئيسية والاحتياجات المدرسية لبيعها. ومن إسهاماته المجتمعية شراء (سيارة خاصة) به معنيةً بتنقلاته الشخصية وبالخدمة لنقل بعض الناس من القرية إلى مدينة الرس بعض الأيام لقضاء حاجياتهم مقابل أجرة متواضعة يدفعها كل واحد من الركاب، كما أنه كان من ضمن بعض أقرانه في السن من الذين كانوا يدخلون مناقصات النقل الحكومية التعليمية التي كانت تتم بإدارة التعليم في مدينة بريدة، حيث نقل طلاب القُرى إلى مدارس الرس، وقد أسهم مع غيره من أصحاب السيارات المحدودة -آنذاك- في نقل وتصدير رمان الشنانة الشهير وتمورها إلى الرسوبريدة، وأحياناً إلى الرياض، لا سيما رمان مزرعة بطَّاح الخزي -رحمه الله-. ومن إسهاماته الاجتماعية التي تعكس خدماته وأمانته أنه عمل (مندوباً لمكتب الأوقاف) بعنيزة لخدمة معظم أئمة ومؤذني مساجد الرس والشنانة قبل افتتاح فرع الوزارة بالرس، والترشيح في إدخال مساجد جديدة على إدارة الأوقاف آنذاك، والتوصية أحياناً بتوظيف بعض الأئمة والمؤذنين الجُدد، وهذا العمل مما كان يُوفر عناء السفر للأئمة والمؤذنين من الرس إلى عنيزة، وذلك بإيصال مكافآتهم النقدية إليهم مقابل مبلغ مالي رمزي كان لا يتجاوز خمسة ريالات من كل واحد تقريباً. ومما يُعد من خدماته الثقافية والدعوية لبلدته إسهامه الكبير مع أخيه الشيخ عبدالله في خدمة (الجولات الدعوية) بسيارته التي كانت تخدم تنقلات الدعاة المتجولين، وأبرزها جولات الشيخ عبدالعزيز بن صالح العقل في الرس والشنانة والقرى المجاورة لها التي استمرت فترةً زمنيةً ليست قصيرة، وأسهمت في تنشيط جوانب الدعوة والوعي الديني آنذاك. ومن خدماته المجتمعية إسهامه بتجهيز (قافلة الحج) الخيرية لأخيه الشيخ عبدالله السلومي بسيارةٍ كبيرة حينما كانت الحاجة إلى هذه الحملة مُلحَّة وشديدة، حيث توفير فرصة الحج لأهالي الشنانة وما حولها بتعاونٍ فريدٍ بين الحجاج ومُلاك سيارات الحملة آنذاك، كما هو مُفصل في الكتاب المعني بترجمة أخيه عبدالله السابق ذكره عن حملة الحج الخيرية، ثم كانت مرحلة تجهيز سيارته الخاصة المُسماة (تايوتا إستاوت) للحجاج لهذه الحملة بعد تعدد الحملات الخيرية والتجارية وتوفر سيارات النقل. وهذه الأعمال وإن كان بعضها من مصادر عيشه وحياته الأسرية، إلا أنها كانت أعمالاً فيها استجابةٌ لمتطلبات قريته والقرى المجاورة لها واحتياجاتها، وكان لهذه المعدات ولمالكها دورٌ واضح ومعروف في قضاء حوائج الناس وتفريج كُروبهم. شراكته بحفل استقبال الملك سعود: كان من سمات عصره قوة العمل التعاوني الاجتماعي بين أهالي القرى والبلدات، والتي كانت من الخصال الحميدة والأساسية لمجتمعات أيِّ قريةٍ وبلدةٍ في الجزيرة العربية خاصة، وذلك في التعاون لإنجاز أي مشروعٍ خاصٍ أو عام للقرية والبلدة، وهذا حينما كانت القُرى والبلدات تخلو تماماً من الإخوة الوافدين والعمال ومن الخدمات الحكومية آنذاك، حيث يتم بناء البيوت الطينية للقُرى والبلدات بتعاونٍ فريد بين معظم السكان، كما أن الزراعة والحصاد وجني التمور يتم بنفس الطريقة، وكذلك حفر الآبار والقلبان وبناء المساجد بشراكةٍ بين الأهالي، بل والاحتطاب وجمع الحشائش والأعشاب الموسمية، وكذلك التعاون والاتفاق بين الأهالي في ترتيب رعاة الأغنام من البوادي المجاورة. وكان هذا التعاون السابق ذكره بارزاً ومتميزاً بين أهالي قرية الشنانة تتشارك فيه معظم عائلاتها بروحٍ أخوية معروفة، وتَحَقَّقَ هذا التعاون بصورةٍ واضحة في (حفل استقبال الملك سعود) في الشهر الرابع من عام 1379ه، وفيه كان تعاونٌ بامتياز بين أهالي الشنانة بدءاً بجمع مبالغ الحفل الذي كان على كل واحدٍ من أهالي الشنانة خاصةً الموظفين منهم (100) مائة ريال، وكان صالح السلومي واحداً من هؤلاء كأخيه عبدالله وغيرهما، ومروراً بتجهيز مكان الحفل بما يلزم من كهرباء ومداخل للموكب الملكي القادم للشنانة، وانتهاءً بنجاح الحفل، وقد كان صالح هذا هو المُصمِّم والمُنفذ لأقواس بوابات حفل استقبال الملك سعود الخشبية بالشنانة، والتي وُضعت إحدى هذه البوابات بمدخل المزرعة المقام فيها الحفل وهي مزرعة (الرداحي) من عائلة الخليفة، كما وُضعت الأخرى كمدخل خشبي للشنانة، وتسمى آنذاك (دراويز)، وقد ظلت هذه البوابات الخشبية فترةً طويلة على سور المزرعة بجوار المسجد سِنين عددا، كما كان تعاون صالح السلومي بارزاً مع محمد الرداحي (مُحيميد) في تشغيل ماكينة الكهرباء التي تم إحضارها للشنانة لهذا الغرض لعمل الإضاءات اللازمة للحفل، وغير هذا من صور التعاون والمشاركة المعروفة عن هذا الحفل وغيره من الوارد ذكرها في بعض الكُتب والمقالات، والتي لا تزال في ذاكرة أصحاب الذكريات من الآباء والأجداد من كثيرٍ من العائلات المعاصرة لتلك الأحداث. فرحم الله والد الجميع وحبيب كل من تعامل معه، وتقبل الله منه أعماله التي يعلمها دون خلقه، وأسكنه فسيح جناته مع الصِّديقين والشهداء والصالحين، ورزق الله الجميع بره بعد مماته.. اللهم آمين. ** **