كثير من الإخوة المحبين لاحظوا أنّ وزني ازداد، من باب المحبة والإشفاق، خشية أن يأتي اليوم الذي أفقد فيه كامل الرشاقة المعهودة، نصحوني أن أسارع إلى مراقبته، بل أغلظوا النصيحة إلى درجة أنّهم ذكَّروني بأيام العزوبية الجميلة، عندما كان البنطلون (عند السفر) يبحث، عبثاً، في خاصرتي عن شحمة يتمسك بها. فكّرت في الأمر، ولكن التفكير شيء والتنفيذ شيء آخر تماماً. كلمة اخفض وزنك، وقراءة كتب الحمية، ومتابعة أخبار أهل الرشاقة، وشراء الأجهزة الرياضية .. كلُّ هذه أمرها سهل، لكن إذا عدت بعد الظهر إلى البيت وشممت ريحة الكبسة على لحمة الحاشي، أو المكرونة بالباشاميل، هنا تبدأ عذابات الحقيقة. قلبت الأمر على جوانبه، رأيت في البداية تأجيل فكرة الحمية إلى رمضان، فرمضان، كما يقول أصحاب الخبرة، يمكن أن يكون أفضل الأوقات في السنة لبداية حياة جديدة، بما فيها حياتنا مع الطعام. ولكن بعد تأمُّل تذكَّرت صديقي سعد التنكة الذي اعتاد تأجيل أيِّ عمليات تصحيح لأوضاعه الصحيَّة إلى شهر رمضان وعندما يأتي شهر رمضان، والحقُّ يُقال، يقاوم الأيام الثلاثة الأولى، فجأة وفي اليوم الرابع وبدون سابق إنذار، تنهار قلاعه الدفاعية أمام الضغط المتواصل لصحن اللقيمات، فيضطر أن يؤجِّل عملية التصحيح إلى رمضان الذي يليه. وهو على هذه الحال منذ عشر سنوات. لا يوجد ما يجعلني أعتقد أنّي أقوى من صديقي سعد التنكة عند مواجهة عاصفة اللقيمات .. اللقيمات ليست شيئاً سهلاً كما يظن المرء، فهي المحرِّض الموضوعي على متابعة مسلسلات رمضان السخيفة، فلو كنت من منتجي برامج رمضان السخيفة لوزَّعت صحن لقيمات على كلِّ مواطن مجاناً. على كلِّ حال سمعت أنّ حبة اللقيمات الواحدة تتضمّن خمسمائة سعر حراري، وإذا أردت أن تتخلَّص من كيلو غرام واحد من جسدك عليك أن تركض خمسة وعشرين كيلو متراً، بناءً على هذه الحسابات يحتاج كلُّ سعودي بعد انتهاء شهر رمضان أن يركض من الرياض إلى أستراليا دون توقُّف للتخلُّص من صحن لقيمات واحد. أمّا إذا أراد أن يتخلَّص من كلِّ اللقيمات التي أكلها في حياته فعليه أن يدور الدنيا بدون توقُّف لمدة مائة سنة. إذاً الإرجاء إلى رمضان تصرُّف غير حكيم، فقررت أن أبدأ الحمية من الآن دون تأجيل أو تسويف. قالوا إنّ الحمية الحقيقية لا تقوم على انتقاء نوع الطعام، وإنّما على التقليل من كميته. فإذا كنت تزدرد عشرين لقمة على الغداء خفِّفها بالتدريج إلى أن تصل إلى النصف. وأن تتعوَّد على أكل السَّلطة بكثرة واكثر من شرب الماء حتى تمتلئ معدتك ... الخ الكلام النَّظري البرَّاق. بذلت كلَّ ما أملك من قوة الإرادة لتنفيذ هذه النصائح دون جدوى. قررت أخيراً أن اشترك في أحد مراكز الحمية حتى أشعر بالمسؤولية، فأسعارهم المُبالغ فيها تشعرك بالذنب كلَّما فكرت في التوقُّف، فصحن الرز مع شويّة لحمة بقر لا تزيد على عشرة غرامات بعشرين ريالاً، وطبق صغير من السَّلطة لا يكلفهم أكثر من نصف ريال يبيعونه بعشرة ريالات .. قد لا يجد المرء مبرراً لهذه المُبالغة في الأسعار، أمّا أنا فأظنُّ أنّها ضرورية حتى إذا بدأت معهم تضطر إلى الاستمرار فلا يمكن أن تتوقَّف بعد أن دفعت حلال قلبك. من عبث الزمان أن يأتي ذلك اليوم الذي يقبل فيه الإنسان أن يدفع أعلى الأسعار لتجويع نفسه .. هذه هي الحياة. بدأت برنامج التجويع، مر الأسبوع الأول بسلام والتزام، شعرت بالأمل، نفضت الغبار عن بناطلين الأيام الجميلة، أيام القَد الميّاس .. من مميزات هذا المركز هو التنويع، فيوم رز باللحم، واليوم الثاني رز بالسمك، ثم بطاطس بالدجاج .. وهكذا إلى أن جاء يوم الأحد الماضي وهو دور الرز البرياني. وأنا ما أسمع في أكل الهنود .. الشطة والبهارات والدهن، جرت العادة أن أحضر الوجبة بعد أن أوصل أطفالي البيت، ولكن هذه المرة أخذتهم معي خشية أن تنتهي الكمية. أخذت الوجبة .. هذه المرة لن أشعر بالغيرة من عائلتي فوجبتي وجبة هندية (إنما أيه .. تاكل صوابعك معها) كما يقول إخواننا المصريون. ولكني أكلت أصابع الندم بعد أن فتشت الغطاء الكرتوني عن الوجبة. لا أستطيع أن أصف لكم الرائحة المنبعثة من الوجبة .. لا يمكن أن أسمِّي الروائح المنبعثة من تلك الوجبة تعفُّناً .. شيء أشد وأمضى .. شيء لا يُطاق. لم أغضب، لملمت كلَّ شيء ووضعته في الكيس وأخذته إلى المركز مرة أخرى، فاكتشفت بأنِّي لست وحدي .. هناك عشرات يعيدون الأكل. الشيء الذي لفت نظري أنّ الزبائن بعثوا (سواويقهم) لإرجاع الوجبة. لم أشاهد سعودياً واحداً جاء بنفسه ليحتج. مررت في اليوم التالي من جانب المحل فوجدته عامراً بالزبائن .. شيء طبيعي لا أحد يحتج. فاكس 4702164 [email protected]