اطلعتُ على تعليقات أصحاب السعادة أعضاء مجلس الشورى على مشروع نظام تأديب الموظفين المنشور في جريدة الجزيرة عدد (11784) وتاريخ 21 - 11 - 1425ه. وقد تركزت هذه التعليقات على أثر وقف تنفيذ العقوبة الجنائية الأصلية على العقوبة النتيجة (الفصل من الخدمة بقوة النظام)، وتبين لنا من خلال تلك المداخلات اختلاف وجهات النظر بين السادة الأعضاء، فمنهم مَنْ يرى أن إيقاف العقوبة الأصلية يجب أن يسري أثره على العقوبة التبعية، ومنهم من عارض ذلك مؤكداً على وجوب فصل من تثبت إدانته بحكم قضائي دون النظر إلى وقف تنفيذ العقوبة من عدمها. وعلى حد علمنا أن هذا الموضوع قد استغرقت دراسته سنوات طوالاً بين الجهات ذات العلاقة، من بينها وزارة الخدمة المدنية وهيئة الرقابة والتحقيق وديوان المظالم؛ للوصول إلى حل لهذه المسألة. ولأهمية ذلك الموضوع وما يترتب عليه من نتائج تنعكس على الوظيفة العامة والقائمين عليها، فسوف نعلق على تلك المسألة ثم نبيّن الرأي الذي نعتقده الصواب. بادئ ذي بدء ينبغي التفريق بين العقوبة الأصلية والعقوبة التبعية المترتبة عليها. فالعقوبة الأصلية هي الجزاء الذي يقرره الشرع أو النظام ولا يوقع على الموظف المخالف إلا إذا نص عليه في القرار أو الحكم (الجنائي أو التأديبي). مثال ذلك عقوبات جرائم الحدود والقصاص، وكذلك العقوبات التعزيرية المنصوص عليها في الأنظمة التي تقرر جزاءات بحق المدانين بجرائم الرشوة أو الاختلاس، والعقوبات المنصوص عليها في المادتين (32، 33) من نظام تأديب الموظفين الصادر بالمرسوم الملكي رقم م-7 وتاريخ 1 - 2 - 1391ه، في حين أن العقوبة التبعية هي جزاء تابع للجزاء الأصلي يتبعه ويقوم معه، وهو يقع بقوة النظام دون حاجة إلى النص عليه في القرار أو الحكم الجنائي أو التأديبي، ومثال ذلك الفصل من الخدمة في حالة الإدانة الجنائية، ومنها أيضاً عدم تعيين شخص سبق فصله من الخدمة قبل مضي ثلاث سنوات من صدور القرار أو الحكم. وفيما يتعلق بأثر وقف العقوبة الأصلية في تنفيذ العقوبة التبعية، فإننا نعتقد أن إيقاف تنفيذ الجزاء الجنائي لا يحول دون فصل الموظف كعقوبة تبعية وذلك للأسباب التالية: 1 - المتفق عليه نظاماً وقضاء أن الإيقاف ينصب على العقوبة الأصلية المحكوم بها على الشخص الذي تثبت إدانته دون أن يؤثر ذلك في تنفيذ العقوبة التبعية المترتبة عليها، فالقاضي الذي ينظر في الدعوى الجزائية سواء كانت من اختصاص المحكمة الشرعية (في الغالب المحاكم الشرعية لا تحكم بوقف التنفيذ) أو ديوان المظالم قد يُقَدّر أن وقف تنفيذ العقوبة من شأنه يحقق أهدافا سامية ونبيلة خيرا من تنفيذها، وهذه مردها إلى اعتبارات خاصة يراعيها القاضي بالنظر إلى المتهم وأسرته وحالته الصحية والاجتماعية وأن ارتكابه للجريمة كان وليد ظروف عابرة.... إلخ. إلا أن هذا الإيقاف لا يسري - كما أشرنا - على العقوبة التبعية وهي مجازاة الموظف تأديبياً والتي تقضي بفصله من الوظيفة بمجرد الإدانة. وهذه نتيجة منطقية؛ لأن من أهم الشروط اللازمة للتعيين على الوظيفة العامة هي ضرورة تحلي المرشح للوظيفة بحسن السيرة والسلوك وخلوه من السوابق الجنائية وعدم فصله من الخدمة لأسباب تأديبية، ولعل الهدف من ذلك هو حماية الوظيفة العامة من الأشخاص الذين تلطخت سمعتهم وفقدوا ثقة الناس بسبب ارتكابهم الأفعال والتصرفات المخالفة للأنظمة والقوانين، مع التنويه في هذا الشأن بأن شرط حسن السيرة والسلوك يظل ملازماً للموظف طيلة حياته الوظيفية وليس فقط ابتداء في التعيين، فإذا خالف الموظف هذا الشرط أصبح غير صالح للوظيفة ويجب إبعاده عنها حماية لسمعة وهيبة الوظيفة. فهل يُتصور أن يُدان الشخص في جريمة الرشوة ويوقف تنفيذ العقوبة ثم يُسمح له بعد اقترافه للجرم ان يزاول اعمال الوظيفة مرة أخرى؟. فالوظيفة عبارة عن مجموعة من الواجبات والمسؤوليات يلتزم بها الموظف طيلة حياته الوظيفية مقابل تمتعه ببعض الحقوق والمزايا المترتبة عليها، وأهم هذه الواجبات هو الترفع عما يخل بشرف الوظيفة والكرامة، وهو ما يعني الابتعاد عن جميع التصرفات والسلوكيات التي تشين أو تحط من كرامة الوظيفة وهيبتها أو التي تؤدي إلى زعزعة ثقة الناس في القائمين على خدمتهم. فنظام الخدمة المدنية أكد في المادة (11-أ) على أنه (يجب على الموظف ان يترفع عن كل ما يخل بشرف الوظيفة والكرامة سواء كان ذلك في محل العمل أم خارجه). وقد عرف البعض الجريمة المخلة بالشرف والأمانة (بأنها الجريمة التي تسقط اعتبار الشخص عند الناس وتشكك في نزاهته وأمانته)، ومن صورها جريمة الرشوة والاختلاس والتزوير.. ومن ثم فإنه بوقوع الموظف في تلك المحظورات يكون قد خرج على مقتضى الواجب الوظيفي وسلك مسلكاً لا يتفق مع حسن السيرة والسلوك، ولم يترفع عما يخل بشرف الوظيفة وكرامتها مما يجعله غير صالح للوظيفة ويجعله فاقداً لشرط من شروط التعيين وهو حسن السيرة والسلوك.. فالمساءلة التأديبية لا تترتب فحسب على صدور حكم جنائي بالإدانة في تلك الجرائم، بل لأن ما اقترفه الموظف من أفعال وتصرفات يُعد مخالفة لواجبات الوظيفة المنصوص عليها في نظام الخدمة المدنية ولوائحه التنفيذية تستوجب فصله من الخدمة كعقوبة تأديبية، فجميع الجرائم الجنائية التي يقترفها الموظف سواء داخل العمل أم خارجه تعد مخالفات تأديبية يسأل عنها الموظف ما عدا القتل الخطأ. 2 - أما ما يراه أعضاء المجلس الكرام بأنه في حالة وقف تنفيذ العقوبة فإنه لا يمكن فصل الموظف إلا بصدور حكم قضائي من الجهة المختصة، فالرد على هذا الرأي أن الإحالة إلى المحاكمة التأديبية لا تكون إلا في حالات معينة نصت عليها أحكام نظام التأديب منها حالة طلب الفصل نتيجة ارتكاب الموظف العديد من المخالفات التأديبية، لذا فإن الجهة الإدارية التي لا تملك - نظاماً - فصل الموظف تأديبياً إذا رغبت في فصله فإنها تحيله إلى هيئة الرقابة والتحقيق للتحقيق معه تمهيداً لإحالة المتهم إلى ديوان المظالم باعتباره الجهة المختصة بتوقيع عقوبة الفصل. أما في حالة إدانة المتهم جنائياً مع إيقاف التنفيذ فينبغي ألا يؤثر الإيقاف في مجازاة الموظف تأديبياً وهو فصله من الوظيفة دونما حاجة إلى الإحالة إلى القضاء المختص لتقرير عقوبة الفصل؛ لأن العبرة في تطبيق العقوبة التبعية وفقاً لأنظمة وتعليمات الخدمة المدنية هي بصدور حكم الإدانة من الجهة المختصة بغض النظر عن تنفيذ العقوبة الأصلية أو وقفها أو حتى صدور عفو فيها. فالحكم الجنائي يعد عنواناً للحقيقة ويحوز حجية الأمر المقضي به، الأمر الذي يقيد السلطة التأديبية في مساءلة الموظف على ضوء ذلك الحكم الذي يصدر سواء بالبراءة أو الإدانة، ففي حالة براءة الموظف مما نُسب إليه من وقائع فإنه لا يمكن مساءلته تأديبياً؛ لأنه لا محل للمساءلة إذا تمت براءته جنائياً من الواقعة المنسوبة إليه، أما في حالة الإدانة فليس هناك محل للاجتهاد إذا نص النظام على فصله بمجرد الإدانة حتى لو تم إيقاف تنفيذ العقوبة. ومما يؤكد على حجية الحكم الجنائي ما جرى عليه العمل في ديوان المظالم من أن (قاعدة الجنائي يوقف التأديبي) وفقاً للمادة (26) من لائحة المرافعات والاجراءات أمام ديوان المظالم. 3 - المادة (32) من قواعد المرافعات والإجراءات أمام ديوان المظالم الصادرة بقرار مجلس الوزراء رقم (190) وتاريخ 16 - 11 - 1409ه التي تنص على أنه (إذا رأت من أخلاق المحكوم عليه أو من ماضيه أو سنه أو ظروفه الشخصية.. مما يبعث على القناعة بوقف التنفيذ أن تنص في حكمها على وقف تنفيذ العقوبة ولا أثر لذلك الإيقاف على الجزاءات التأديبية التي يخضع لها المحكوم عليه) وهو ما يستفاد منه أن الإيقاف مقصور على الجزاءات الأصلية للجرائم التي يحكم فيها القاضي دون أن يؤثر ذلك في الجزاءات التأديبية بما فيها الفصل بقوة النظام في حالة تحقق إحدى حالاته المنصوص عليها في المادة (30-14) قبل تعديلها، كما يمكن أيضاً للسلطة التأديبية (إذا لم يكن ما اقترفه الموظف موجباً للفصل) مجازاته تأديبياً وفقاً للعقوبات الواردة في المادة (32) من نظام التأديب بما فيها الفصل من الخدمة عن طريق ديوان المظالم. 4 - قبل إعمال لائحة انتهاء الخدمة التي تمت الموافقة عليها بقرار مجلس الخدمة المدنية رقم (1-813) وتاريخ 20 - 8 - 1423ه كان الموظف الذي يحكم عليه بالإدانة مع وقف التنفيذ (لا يُفصل من الخدمة) أي أن إيقاف تنفيذ العقوبة الأصلية يسري على العقوبة التبعية ما عدا جريمة الرشوة التي ورد النص عليها في المادة (13) من نظام مكافحة الرشوة الصادر بالمرسوم الملكي رقم (م-36) وتاريخ 29 - 12 - 1412ه التي تنص على أنه (يترتب على الحكم بإدانة موظف عام أو من في حكمه بارتكاب إحدى الجرائم المنصوص عليها في النظام العزل من الوظيفة العامة وحرمانه من تولي الوظائف العامة أو القيام...). أما ما عداها من الجرائم الجنائية الأخرى كالتزوير والاختلاس التي يحكم فيها القاضي بالإدانة مع وقف التنفيذ فقد درج عليه العمل في ذلك الوقت ان هيئة الرقابة والتحقيق تقيم الدعوى التأديبية على ذلك الموظف المخالف أمام ديوان المظالم وفقاً لنص المادة (11، 12) من نظام الخدمة المدنية وتطلب مجازاته عنها غالباً بعقوبة الفصل وفقاً لنص المادة (32-5) م نظام تأديب الموظفين. أما بعد صدور اللائحة المشار إليها سلفاً والتي بموجبها حلت محل جميع المواد الواردة باللائحة التنفيذية لنظام الخدمة المدنية من المادة (30-1) حتى المادة (30- 17) بالإضافة إلى إلغاء المادة (30-18) والعمل بها اعتباراً من تاريخ تبليغها في 17 - 11 - 1423ه، فإن الأمر لا يحتاج إلى مزيد من الاجتهادات في تكييف أثر وقف العقوبة الأصلية في فصل الموظف لأن المادة (12-أ) قد تكفلت بحسم هذا الخلاف عندما نصت على: أ - يفصل الموظف بقوة النظام ويعتبر الفصل لأسباب تأديبية في الحالات الآتية: 1 - إذا صدر بحقه حكم شرعي من جهة قضائية مختصة مكتسب للصفة القطعية مصرح فيه بثبوت ارتكابه موجب حد من الحدود الشرعية ومعاقبته بالجزاء حدا. 2 - إذا صدر بحقه حكم شرعي مكتسب للصفة القطعية بارتكاب موجب القصاص في النفس. 3- إذا صدر عليه حكم من جهة قضائية مختصة مكتسب للصفة القطعية مصرح فيه بالإدانة والحكم بالعقوبة في الجرائم التالية (الرشوة، التزوير، الاختلاس، التهريب أو الترويج أو المتاجرة بالمخدرات أو المسكرات). 4 - إذا حكم عليه بعقوبة السجن لمدة تزيد على سنة. ولا يؤثر وقف تنفيذ العقوبة الأصلية المحكوم بها في تطبيق هذا الحكم. وهذا يفيد بأن وقف تنفيذ العقوبة المحكوم بها على الموظف لا أثر له في فصله من الخدمة إذا ارتكب إحدى الحالات المنصوص عليها في الفقرة السابقة. فالتلازم بين الجزاءات الجنائية والتأديبية يكون مرتبطاً بحالة الإدانة وليس بتنفيذ العقوبة من عدمه. وهذا هو الرأي الذي يتفق مع النهج السليم الذي يحمي الوظيفة العامة والمجتمع. أحمد بن عبدالرحمن الزكري