رؤى المدينة في عيون الناس هي تجربة مشاهدة تكاد تكون يومية، غير اختيارية، إما باعثة على السعادة أو الكآبة.. تلاحق مشاهد المدينة ومرئياتها الناس فيها كلما راحوا وغادوا، وفي كل الأوقات بين ساعات النهار الأولى وحتى الليالي الطوال. تختلف تلك التجربة لتكون إمَّا حميمية مريحة أو آسية محبطة وفق حالات متباينة ذات ارتباط مرة بالمشهد المرئي ومرات بالمشاهد الرائي، أما تركيب هيكل المدينة بما يحمل من تكوينات متكررة للمبنى والمفتوح من كتل وفضاءات بينها وحولها فهولا يشغل بال المستعملين للمكان. فلا مشاهد بناياتها ولا تعرجاتها ولا شوارعها ولا حتى دروبها هو ما يلفت الأنظار، ولكن ما يجعلهم يلتفتون ويسعدون أو يحبطون هو ما يشعرون به عاطفياً لما يرونه عيانياً ووجدانياً من أحداث مختلطة لمناظر مكتملة للمدينة، والتي تأتي من تتابع الحركة فيها مهلاً سيراً على الأقدام، أو ركوباً ارتحالاً سريعاً، أو عبر طلة من شرفة بيت، أو خال حال مرتاح على مقعد في مقهى قرب شارع له فيه ذكريات، أو مكان كان فيه السكن لأحباء، لتكون كلها أحداث تصنع قصة حياة كل منا في مدينته، وكلها تختلف باختلاف الأمكنة والناس. فأحداث المكان تلف المرء بحقيقة أزلية مبعثها طرائق وأساليب حياة الناس في تلك المكانات عبر الزمانات القدام وحتى الآن والمتغير حتماً لحظة بعد لحظة. فكل مكان يحمل في ذاته لكل الناس لحظات حياة فرحة أو تعسة تمتد بدوام طول الاقامة في المكان أو من خلال أزمنة التردد عليه بين الحين والحين. لم يأت الارتباط بالمكان والناس بغتة، لم يفرض فرضاً، لم تصنعه أناشيد أو أغنيات أو حتى قصص وروايات.. فهل ارتباط الناس بالناس وبالأمكنة هو وليد الصدفة ومكتوب أقدار.. أهو نابع من طول البقاء والاتصال أم عن عطفة وألفة حنين؟ في الماضي القريب، في بعض مدننا العربية العريقة كان المشاهد للأمكنة المفتوحة فيها يعاني من كثرة التشوهات والمبالغات في عدم الاهتمام بمكامن الجمال، وكان المشاهدون المحبون وغيرهم من العابرين طوعاً لا يستطيعون مع ما يرونه من عدم انسجام إلا تعليقاً عابراً استحياء أو اشاحة من الوجوه - بحكم التربية والعادة - مع عدم الرغبة في الالتفات، وعن دراية لما يدور في الجوار أصبحوا رافضين لكل ما يرونه دون سابق معرفة أو تحري عن أسباب تداعي حالات مشاهد مناظر تلك المدن هنا أو هناك وتركها على هذا الحال، ولكن كان أكثر من ذلك من غير الممكن أو من المستحيلات في ماضي الزمانات، لطبيعة ثقافة الموقف وخبرات الناس، بل وقل بدعوة نقص الإمكانات وافتقاد القدرات. فكانت لا تتعدى مهمة المشاهد العادي في المدينة العربية إلا أن يقبل أو يرفض في ذاته بعضا من كل مرئياته، أو يحكي للآخرين عن كم هي صورة مدينته في بعض محلاتها الممتدة تعيسة، كئيبة، محبطة، ويبتهل في ذاته أرجو ألا أظل أراها كذلك، وله أيضاً أن يعجب ويسأل هل أحد منكم رأى وشاهد تلك التكوينات البديعة في تلك المدن البعيدة؟ كم من مشاهد ورؤى هناك تسعدك أينما التفت!! وفي كل الأحوال هو مع الآخرين يمضي ليذهب ليسير منتشياً حتى دون تنهيدة لبلاغته بل لفصاحته في النقد بداع أو عن غير دعوة. وكأن الحال متشابه بين ناس الأعم من المدن العربية، فكلما راح البعض منهم وتحرك في المكان دار في المكان دار في ذهنه سؤال باندهاش لما الاختلاف بين هنا وهناك؟ فهي كلها كما يرى عبارة عن تكوينات من بناءات وفراغات، في كل الأمكنة هي ذات الأبنية والرحبات، سواء كانت أشكالاً أو من حيث طرائق البناء، حتى المكملات من لافتات وتشجيرات ومواضع جلسات وكبائن الهواتف وأكشاك بيع الجرائد والمرطبات، يعني حتى التشابه في الفرش والتأسيسات في الأمكنة المفتوحة مجلوبة من هناك، وهي ذات الالوان والملمسات والتشطيبات ومواد النهو والاكساءات، وحتى تقليد الزخارف والمجسمات والتفصيلات المنقوشة والمقتبسة في تلقيط وراءها مبدعين في فن تقليد السطحيات، بل وتمثل حضارة الأفذاذ والأغراب عن مجتمع المدنية تلمسه موجود وعلىكل المستويات. وهنا يطرح الرائي من أعماقه مع تنهيدة استعجاب ترى ما هي المشكلات التي تجعل من مشاهد تلك المدينة ليست فقط غير مألوفة أو مفهومة ولكنها أيضاً ليست لها منظومة؟ وفي طفرة فريدة، ترى أن التطوير حادث في كل مجالات الحياة، وعلى رأس القائمة يأتي التطوير الراغب في تجميل المدينة العربية، وترصد ذلك بوضوح في كل المناطق المبنية والمفتوحة، فهناك ما يلفت النظر بالفعل نحو التغيير الايجابي في مناظر عمران المدينة العربية، وما أعنيه تلك الصورة التي يراها المشاهد في كل مكان. فدعونا نتأمل ما يحدث الآن من كم تنميات بديعة منبعها فهم واع لموضوعات جماليات صورة عمران المدن، ومنها وبادي للعيان كل ما نراه في تعديل لمناظر المكانات المفتوحة في الساحات والميادين وفي فضاءات الاراضي المتصلة بالبناء وطرقات الحركة السريعة والكباري المعلقة والأنفاق المدفونة في قلب المدن، وعند الشواطئ ومخارج ومداخل الأحياء، ومناطقها ذات القيمة، وكل ماتراه اليوم من جهود لتحميل المدينة مع حل مشكلاتها الوظيفية وتلبية المتطلبات يكاد يكون ملبياً لكل الاحتياج بل فاق الكثير من التوقعات. ولا شك أن لمحة ما وراء التعديل كانت دوماً بالإضافة إلى الراحة والتسهيل مكمنها البحث عن وتحقيق الجمال من خلال مجموعة من الاضافات والتي تتمثل فيما هو معروف بعمارة مناظر الشوارع streetscape، والمتمثلة في مفردات عناصر الفرش والتأثيث الثابت والمتحرك ومنها: البوابات والمعابر، والأسوار، الأعمدة الثابتة والمتحركة، المجسمات والأعمال الفنية والجداريات الممتدة والمستخدمة لأغراض مختلفة للعرض والتزيين، أماكن الجلوس، اللافتات (الإرشادية والاعلانية)، الأبراج، المظلات والخيام، التشجير وأحواض وصناديق النباتات وزهور الزينة، صرف المياه، أعمدة الإنارة، كبائن أو أكشاك الهواتف، مضخات الحريق، صناديق الخطابات، ماكينات الصراف الآلي، صناديق إزالة المخلفات، المنحنيات والسلالم، النافورات ومساقط المياه، معدات لعب الأطفال، مواقف السيارات، محطات انتظار وسائل النقل السريع والبطيء. لا يخفى أن الجمال الظاهر المبني على جودة الأشكال والتشكيلات، عن النسب والتكوينات، حول التلوينات والانسجامات كله بالقطع مدروس ويحقق بالتعود الجمال الواضح للعيان لكنه أبداً حتماً لا يحقق كل الإحساس بمتطلبات الجمال، وأعني النابع عن العاطفة وحب المكان، إذ تظل تلك الحالة التي تجد عليها الإنسان المتعلق بالمكان والنابعة من حميميته إليه تكاد تكون مفقودة أو تأتي مستعصية بعد جهد منه تجاه ما يراه، ويظل بعد المغيب غير مدرك لما لم تكتمل له أسباب الارتياح مع كل تلك الجماليات البديعات. أما تلك فحقيقة نسبية أيضاً وهي أن الجمال الذي يمس الداخل صعب الوصول إليه، فقط هو لا يزال يحتاج لفهم أعمق لطبيعة البشريين، فرؤية الإنسان للمكان لا تعتمد فقط على ما يرصده نني العين، فهو ينقل فقط الصورة من المكان عبر الشبكية لترتد إلى عصب الرؤية فتتحول الصورة إلى مجسم مرئي، حقيقته في ذاته، ونسبية انعكاساته خاضعة لطبيعة اختلافات مشاهدينه. إذ إن تلك العملية الميكانيكية للرؤية تحدث لكل المبصرين (الطبيعيين) دون استثناء، ولكن تختلف تلك الصورة المنقولة في ثوان (بسرعة الضوء) دون أن نشعر بين مشاهد ومشاهد آخر، فهي تختلف دوماً باختلاف المعنى والدلالة عند كل منا نتيجة لاختلافات عديدة، عدا وبالإضافة إلى الاختلافات الفسيولوجية الناتجة عن طبيعة الإنسان وتكوينه بدنياً صحياً وذهنياً عقلياً في زمن خاص بكل مشاهد (وفق قانون النسبية)، فهناك تلك الاختلافات الأخرى المؤثرة على الصورة المنقولة منبتها التربية والسلوك والطبيعة الإنسانية عند الرائي نفسه: أهو محب راض أم شرير كاره، لطيف المعشر أم قاسي الفؤاد، ودود ألوف أم عدواني، متواضع أم متكبر، براوي أم متعاطف منحاز، واعي فاهم بالتعلم أو التجربة والممارسة أم جاهل غير مدرك. في الواقع الفعلي، كل ما يراه الإنسان هو ناتج تصوراته وما يجول في البال والخاطر، وليس نتيجة انعكاس جامد للصورة المنقولة طوعاً. وشرح ذلك العلامة العربي (ابن خلون) أن الصورة تنقل عن طريق العين إلى المخ فتتحول من مجرد صورة مرئية إلى تصورات ثم ادراكات فيراها المشاهد في ذاته، تلك الادراكات هي المخزون من نصيب كل بني أدم من تجربته الحياتية أكانت قصيرة أم طويلة، وبدون شك كل تجربة انسان هي مسألة شديدة الالتصاق به، ولا يمكن نقلها عبر الحكايات أو التداولات اليومية. جملة القول إن إدراك الإنسان للأشياء عبر تجربته الإنسانية الفريدة تتعدى مجرد رؤية الأشياء بالعين المجردة، كما تتعدى تجربته عبر احساساته الأربعة الأخرى التي تكتمل بها معنى الصور وهي مع الرؤية، السمع واللمس والتذوق والشم وهي أساسيات الحواس الموجودة عند الكائنات الحية الأخرى، ولكن تظل هناك حاسة أخرى تعمل في الخفاء لتفرق بين الإنسان وباقي الكائنات الحية هي حاسة الإدراك والفهم عبر التجربة الحياتية لكل إنسان، بل هي حاسة أعمال الأفئدة والألباب. حيث يتميز الإنسان عن سائر المخلوقات بجانب العقل ونعمة التفكير بالوجدان وهمسات القلوب والعواطف، وهذا القول بالقطع لا يحمل جديد ولا حتى هو اكتشاف، فكل ذلك معروف منذ بداية خلق أبناء آدم، وكرست كل العقائد السماوية دعواها على فهم ذلك، كما اعتمد بعض العامة والمختصين على تصنيف تصرفات البشر وفق المعاملات المبنية على التفكير وبمقدار عاطفة كل منا. لذا ما يعنينا هنا هو تصرفات الإنسان وفق دفعات تدفقات تيارات القلوب المعروفة مرة وغير المبررة مرات، والمعنى هنا لا ينحاز لى جانب المحبين، ولا من قبيل التبسيط المخل عن استبيان أن الإنسان أهو كائن محب بالعقل أم بالقلب؟! فلا أريد أن أخوض في شطحات قد لا تفيد، إلا إنه لا إدعاء عن أن الحاسة الغائبة في المعاملات والتعاملات والتصنيفات هي حاسة (أعمال القلب والوجدان) ، وأن القلوب ترى، ومنها تنطلق حالة الإحساس بالمكان وإدراكه وفق معطياته وخبرات مشاهديه معاً. فالجمال النابع من داخل الإنسان هو في الغالب الذي يعطيه ملمحه في عيون مختلف الناس، فحينما يكون داخل النفس جميلاً يراك الناس جميلاً، إلا أنه يفرض سطوته عليه احياناً كثيرة فيجعله هو ذاته يرى القبيح جميلاً، حيث يقول الشاعر( كن جميلاً ترى الوجود جميلاً). حكى المنظرون الدوليون والمحليون الكثير عن صورة المدينة، وأفردوا صفحات تملأ الآفاق عن الإدراكات والإحساسات، وتكلموا عن مراحل ومستلزمات تكوين صورة بصرية سهلة الفهم بعد الرؤية أثناء الوقوف والحركة والانتقال، راعوا المسافات ودرجات الرؤية والقدرة على الإبصار. تكلموا هناك عن جماليات العمران وصورة المدينة، وتكلمنا هنا طويلاً عن التلوث البصري، ووضعت المعايير والأسس، وتراكمت المؤلفات والمراجع والكتابات والمكاتبات والمرثيات والدعوات، بل أهم من ذلك كله كانت هناك المؤتمرات والندوات وحلقات البحث والنقاشات والحوارات والمجادلات والمهاترات والمجاملات والمحاولات الجادة والاجتهاد, وملئت أوراق بحث وعمل، ولكن والحق يقال جاء من استطاع - وتحسب له محاولات البدايات - أن يخرج بعض التعديلات ليضيف بها إلى جال المدينة العربية الكثير والذي لا يمكن إنكاره، ويرى المشاهد المدقق أن العناصر المادية لمفردات عمارة وعمران المكان هي التي أضافت لمسات الجمال. واتفق في الرأي معهم، ولكني أرغب في أن أضيف أني متحيز إلى اضافات الإحساس بالوجدان، إذ إن الجمال النابع من أصحاب المكان هو مكمن الفضل في إبراز ملمح الجمال، فالمدينة العربية تتمتع بذلك الجمال الداخلي الخلاب الذي يأخذ بالقلوب، والمستمد من العلاقة بين المكان والناس، فجمال المدينة العربية والكل يعرف نابع من أهلها وناسها وأحداثها وكم نشاطتها ومتغيرات علاقات الناس فيها، وتستشعر ذلك يوم عطلة، عندما تنتقل بين دروب المدينة الخالية، وترى الجمال المادي ساكناً، وبمرور الوقت يبدأ تواجد الناس في المكان فتشعر بالحيوية وفورة الجمال الحقيقي تدب في عروق حياة المشاهد. في المدينة العربية روعة المكان مستمدة من أحداث ونشاطات الناس وبعدها تأتي اضافات مفردات الجمال المادي التي لا غنى للجمال عنها إلا بها. ومن الضروري لتكتسي المدن العربية في الباطن كما في الظاهر بروح الجمال في ذاتها العمل على الدمج بين معطيات مفردات مادياتها ومكنونات وجدانيات وقلوب البشر فيها. وهي مسألة تحتاج إلى مرحلتين متتابعين: الأولى - التأكيد على الانتهاء من رسم خريطة جماليات العمران من خلال الاستعانة بالمفردات والمكملات والاضافات المادية بالاستعانة (كما هو الحال الآن) بخبراء تجميل صورة المدن من فناني ومبدعي عمارة مناظر المكان. والثانية - تطوير تلك الرؤى عبر خيالات الحالمين بالرؤى المتكاملة للمكان باعتباره مثيراً للوجدان، والعمل على أخذ آراء الفاهمين من علماء النفس والسلوك والتربية وأصحاب الخيالات، ثم محاولة إشراك العامة والبسطاء في رسم صورة رحلة حياة المكان، على أن تمتد خيالات الرحلة بواقعيتها من مكان إلى مكان آخر، وهكذا دواليك حتى تسمح الخطة برؤية المشاهد المتحرك للمدينة في اطار حكاية لها تفردها باختلاف المكان وأحداث مستعمليه، ويصبح في كل منها موطن لاثارة مكامن المحبة والعلاقة الحميمية، ولتكون مبعثاً للذكريات. منتهى الكلام: المدن العربية كائنات حية، يتعدى اعترافها بالجمال الراكز على التزيين المادي الظاهر، ولكن عطاءها الجمالي وجداني كامن في العلاقة الفريدة بين المكانات والناس. ولعل التطوير النابع من رؤية المكان عبر تجربة مشاهدة متكاملة جامعة لعلاقة فراغات المكان بأحداث مستعمليه يمكن من إبراز الجمال الحقيقي، وهو مدخل للتطوير قديم يعتمد على رؤية المكانات الفراغية المادية باعتبارها كيانات روحية ذات رحلة متصلة، وسيناريو متلاحق الأحداث في حيوات متتابعة وفق أحداث ونشاطات، والناس فيها تلعب دور البطولة قبل مفردات المادة وتنويعاتها. ومن هنا تصبح تجربة المشاهدة في كل مرة ذات علاقة ارتباط بقصة حياتية ما يلبث الناس فيها إلا بتكوين علاقة مليئة بالذكريات والآهات، ويصبح الحب للمكان نبع عطفة وارتباط حميم، وأعتقد أن ذلك قد يشرح الفكرة حول أسباب حب القادمين لبلادنا العربية العريقة من خارج الحدود وتعلقهم الدائم بها. فإلى كل المعنيين بجماليات عمران المدينة العربية لتزداد بهاء وروعة.. ابحثوا عن جماليات عمران المدن في ارتباط مادياتها بروح ناسها ووجدانهم، مع التركيز على جعل الأمكنة نبت ذكريات مشاهديها، فكل مكان يجب أن يحمل حكاية وذكرى يراها المشاهد من خلال ممارسة الناس الحياة فيه مع المكملات والاضافات.