يقول "ميلان كونديرا" - الروائي التشكيلي الفذ - عن فن الرواية: "تصاحب الإنسانَ الروايةُ على الدوام وبإخلاص منذ بداية العصور الحديثة، حيث سيطر هوى المعرفة عليه، فدفعه لدرس الحياة العيانية، وحماية نفسه من "نسيان الكائن". فأخذ يضع "عالم الحياة" تحت ضوء مستمر، كي يكتشف ما يمكن للرواية وحدها - دون سواها - أن تكتشفه. هذا هو الذي يبرر وجودها، إن الرواية التي لا تكتشف جزءاً من الوجود لا يزال مجهولاً هي رواية لا أخلاقية، فالمعرفة هي أخلاقية الرواية الوحيدة". وبمقدار ما تحتاج مجتمعاتنا العربية إلى معرفة كل الخيوط الداخلة في نسيجها الاجتماعي والثقافي، وتكويناتها النفسية والانثروبولوجية، تختمر فيها خبرات جمالية بالحياة، وتتفجر طاقات شعرية في اكتشافها، مهما كانت الظواهر المعروضة مفعمة بالقبح ومغرقة في البشاعة، لأن هذا هو السبيل الوحيد لاكتساب المعرفة الحقيقية بالذات القومية والإدراك الصحيح لإمكانات تجاوز شرطها التاريخي. من هنا فإن الأخلاقية السائدة تصبح ستاراً حاجباً ينبغي تنحيته برفق كي تتكشف جماليات جديدة نابعة من حقيقة الوجود المقاوم للنسيان. تستهل نجوى بركات روايتها المثيرة "يا سلام" بأمثولة رمزية طريفة، وتختتمها ببقيتها الدالة، حيث تتحاور مجموعة من السحب التي تحلق فوق المدينة - من دون ذكر اسمها - فتقول إحداها: - "أوليست هي المدينة التي ما عادت تشبه نفسها؟ ردت أخرى: بل لا تشبه مدناً سواها.. وسألت ثالثة: أصحيح ما يُروى عن أهلها أنهم فقدوا عادة البكاء فتدافعت سحب كثيرة وتحاشرت، تنظر مدهوشة إلى أسفل". هذا مطلع شعري لرواية آثار الحرب، يقدم مفارقة جلية بين السحابة والمدينة، حيث يتبادلان الأدوار، تتحول المدينة فلا تشبه نفسها ولا غيرها، وتتجول فوقها السحابات كعهدها، لكن تجف دموع البشر فتبوب عنهم في البكاء الهاطل، وتثير رغبة المعرفة وشهوة الإصرار على رفض النسيان وهي تمضي نحو اكتشاف جزء من الوجود لا يزال مجهولاً في الكتابة الفنية، إنها بذلك تؤسس أخلاقيتها المشروعة، وتقوم بوظيفتها الضرورية. بيد أنها تتسلح بنبرة تهكمية واضحة منذ العنوان الملتبس "يا سلام" بدلالاته المتراكبة، فهو صيغة للدهشة وعدم التصديق في اللهجات العامية العربية، وهو نداء لحال سلم تعقب الحرب في اللغة الفصحى. ولا يكاد القارئ يمضي في الرواية حتى يدرك أيضاً أن "سلام" إنما هو اسم الشخصية المحورية فيها، وهي شخصية شديدة التعقيد تتوازى وتتقاطع مع مفاهيم الحرب قبل السلام، هذا الالتباس المقصود يشكل بدوره غلافاً حاجباً للنص، يستر شيئاً من مقاصده، ويكشف شيئاً آخر، بقدر ما يتراءى للناظر من مساحة الكشف عن علاقة الواقع بالمتخيل. إنها صيغة مثيرة للتساؤل والتوتر مثل حوارات السحب الرمزية التي تحتضنها وتسكب عليها بريق شعريتها لذة البشاعة: ثلاث علاقات مادية قبيحة تقدم شخصية لقمان - الخالية من عطر الحكمة القديمة - في مطلع الرواية، باعتباره نفاية الحرب المجسد لآثامها في الروح، فهو قناص ماهر ازدهرت وحشيته عبر سنينها الطوال. - العلاقة الأولى تربطه بجسده، حيث لا يستشعر حرجاً في تسمية عضوه بالزميل، ومخاطبته في اللحظات الحاسمة كأنه كائن مستقل منفصل عنه. وحيث نراه - وهو يقضي حاجته - في أقبح أوضاعه وأشدها إثارة للنفور. - العلاقة الثانية تربطه بالمكان، وهو خراب مسكون بالجرذان المتحدية والظلام الناجم عن قطع الكهرباء، وانعدام المياه ننتيجة لسنوات الدمار، أمكنة شديدة الفساد، ظاهرة الدمامة. - أما العلاقة المادية الثالثة فهي التي تربطه بالزمان، حيث لم يعد هذا القناص الذي تجري في يديه آلاف الدولارات وتتسابق لمرضاته مختلف الجماعات، إذ يتميز بالمهارة والسرعة في إطلاق القذائف لأتفه الأسباب، إنه الآن لا يستطيع أن يركل ناطور البناية وهو يصرخ فيه "افتح يا كلب!، افتح وإلا فتحت عليك النار"، فهذا زمن ولى ومضى والناطور الغريب اللكنة مدعوم بمن هو أقوى من لقمان وأبي لقمان. هذا النموذج الذكوري الشهواني العنيف هو خلاصة سنوات الحرب القاسية وخبرتها في تشويه الروح الإنساني والتدني به إلى مرتبة الحيوان. وهو على وجه التحديد ما ترسمه ريشة سردية مبدعة لا ينتظر منها أن تكون على علم بعالمه، أية مفارقة أقوى من هذه، وأية جسارة تملكها هذه الروائية الشابة لتدخل كهف الذات الإنسانية وتُعرّي قبحها الشنيع؟ لعل هذه الصدمة المدهشة أن تكون الخيط الأول في نسيج العلاقة المتوترة المفعمة بالتناقض والخشونة بين النص والقارئ العادي، فهي التي تجسد المسافة بين أخلاقيات الفن والحياة وهي تولد إحساس الإعجاب بتصوير القبح والاستمتاع العميق بقدرة الفن على الاكتشاف. وإذا كانت جدلية الوجود تتألف دوماً من اجتماع الاضداد، من الحياة والموت، من الجمال والقبح، من الخير والشر، من العواطف النبيلة والغرائز العدوانية فإن ما يحفظ لها اتساقها وتناغمها إنما هو نظام القيم الذي يضعه المجتمع لأوضاعها ويحكم به على مستوياتها، ومع أنه نظام بطيء الحركة والتبدل فإنه يبدو شديد الثبات، وليست وظيفة الفن سوى رصد هذا الحراك وما ينجم عنه من احتكاكات، والنموذج الذي تقدمه هذه الرواية بالغ القسوة، لأنه لا يكتفي بتصوير التشوهات المادية والروحية لإنسان ما بعد الحرب على الصعيد الفردي بل يتجاوز ذلك لطرحها على المستوى الجماعي العام. لقمان يبدو كما لو كان قد أصبح ذئباً ضارياً لا يستطيع أن يسترجع إنسانيته، يخرج من جحره في طريقه إلى "مهرجان" تحتفل به المدينة بحدث مهم يخرجها من روتينها اليومي الكئيب، يلتقي في طريقه بمشوه حرب، نصف آدمي فقد جذعه الأسفل. كل ما يعتمل في نفسه حينئذ أنه يود لو كان لا يزال يملك سيارته "الرانج" كي يتباطأ قليلاً ليوهمه بأنه سيمنّ عليه بشيء من النقود حتى يدير مقوده بسرعة فجائية ويسير عليه ويستمتع بصرير الاطر الكاوتشوكية وهي تهرس عظامه". والمهرجان الذي يمضي للاستمتاع به من النوع نفسه، فهو احتفال ضخم بتنفيذ حكم الاعدام في شقيقين في ميدان عام، والناس يتلذذون بالمشهد وهم يتناولون المشروبات والمأكولات، ومذيعة الراديو الشقراء تبادل لقمان غزله الفاضح، بينما تصف بتؤدة وعدم ارتباك مشهد الإعدام، فقد "مدّ لقمان يده إلى أسفل البطن: هيا انهض يا زميل، قم وتمتع بمرأى هذا المهرجان الأشقر البهيّ، فرفعت المذيعة يدها الى صدرها تحك بأظافرها الطويلة اللماعة الحمراء حتى برزت حلمة الصدر قاسية ناتئة من تحت القميص الابيض الشفاف، تعامل لقمان بالمثل وترد له الصاع صاعين". ومع ان المشهد ينتهي بركلة من قدمها لجسد لقمان تدفعه خارج سيارتها بعد ان هددته لو حاول الاتصال بها مرة اخرى فإن وحشية المتعة الأنثوية ولذة البشاعة على المستوى الجماعي كله تجعل الصورة فريدة ومدهشة ودالة على هذا الزمن الرهيب في قبحه وضراوته ولا أخلاقيته. تقدم الرواية هذه المشاهد، لا باعتبارها استثناء ناشزاً في منظومة الحياة المتناغمة، بل على انها قد أصبحت القانون السائد، فعندما تدخل "سلام" خطيبة زميله الابرص - الذي قضى نحبه في الحرب - دائرة الضوء، نرى علاقة لقمان بها تقوم على الابتزاز والاستغلال المتبادل، فهو يشتهيها على عنوستها ودمامتها، لكنه يتفادى التورط معها حتى لا تتعلق برقبته وتطالبه بالزواج، يستغلّها ويتكسب منها لينفق على نزواته الأخرى مع مارينا الروسية البيضاء وغيرها، وهي بدورها تقذف بأخيها في مصحة الامراض العقلية حتى تخلو لها الشقة. وهذا الاخ المستلب العاجز لا تهدأ ثائرته في نوباته حتى يرضع ثدي اخته، ولن يكون "سفاح المحارم" خاتمة المطاف في هذه اللوحة المريعة، فالمصحة برمتها حالات للعلاقات المنتهكة والقيم الممزقة. وسكان البيوت لا يختلفون كثيرا عنها. فجارة سلام "لويس" هي أم خطيبها الراحل، تقيم بدورها في المنزل لكنها ذاهلة تتراوح في حالاتها بين الصحو والغيبوبة، حار الاطباء في تشخيص مرضها ما بين الانيهار العصبي اثر صدمة موت وحيدها والانفصام والعصاب. وهي لا تثير في نفس لقمان اية شفقة بل يخاطب نفسه عندما يراها قائلا: "لويس، اتكونين العيد الذي ابحث عنه منذ زمان، اللقية التي أقع عليها مصادفة بعد طوال حفر وتنقيب؟ هل منك انت - لا من جيبها الخاص - تتكارم على سلام بالدولارات "فالبؤس لا يثير مشاعر الشفقة بل يدعو للكيد والتدبير الاجرامي، لقد اختلت موازين هذا العالم، وسحبت الحرب ذيولها عليه لتشوّه تكويناته الفردية والجماعية معا". الزمن والراوي تمضي حركة الزمن في الرواية بشكل طبيعي في بناء عالمها المتخيل، لكن المأساة تكمن في ان ذاكرة الشخوص مشحونة بمشاهد الماضي الفاجع، ورؤيتهم للعالم ووعيهم بحركتهم رهن له. فالماضي لم يمض عنهم وافعاله الفائتة تتحكم في مذاق الحياة في حلوقهم اليوم. إن الماضي يرقص حركة الحاضر بثقوبه الرصاصية كما كان يقول السياب في بيته البديع: عيون المَها بين الرصافة والجسر ثقوب رصاص رقّشت صفحة البدر فعندما يلتقي لقمان في المصحة عرضاً برفيق عمره "نجيب" ويتفق معه ليخرجه من المصحة لتنفيذ مشروع استثماري ضخم، تفرض ذكريات الحرب نفسها على حوارهما، وتتكشف عناقيد البشاعات الرهيبة، يتذكر ان مغامرتهما مع الصبية الجميلة نهلة" مثلا، وكيف انها انتحرت بعد ان اغتصباها، لكنهما يبرران لنفسهما ما حدث بأنها هي التي ابتسمت لهما واغرتهما ثم امتنعت عليهما عندما انفردا بها، فضرباها واخضعاها عنوة، وابشع من ذلك: قاما بكيها بالنار. يقول نجيب لصاحبه: هل تذوقت ابدا طعم الحلمة حين تشوى يا لقمان. مذاق نادر، رائحة تصيب القلب وتثمل الوجدان، لم أرد بها شرا، صدقني، وحين غفوت وصحوت وسمعت قرقعة في المطبخ، قلت: تكرمنا وتعد لنا قهوة أو فطوراً وتعبّر بطريقتها الخاصة عن شكرها والامتنان، القحبة، لم افكر ابدا انها كانت تبحث في الادراج عما تشنق به نفسها عند الصباح، بحياتي لم اشعر بمثل تلك الرغبة والاثارة والمتعة التي اصابتني ليلتها حتى اليوم". وهكذا يتم التلذذ ببشاعة الماضي في الحاضر. وتسحب الوحشية ذيولها على بقايا الشخصية التي ادمنت افعالها وتكيفت بها واحتفظت بمنظورها ذاته ابان الممارسة، اننا نشهد في هذا الاعتراف حركة الزمن المشروط بمراحله وخبراته وتجاربه والتشوهات التي يصبغ بها وجدان الناس حتى يبدو انه لا فكاك لهم من اسر الماضي. لكن المدهش ان نقلة يسيرة، أو أن بصيصاً ضئيلا من الأمل، يتراءى برفق امامهم فإذا بهم اشد قدرة على التحول والتقلب وأعظم امتلاكاً لتاريخهم الذي يبدو وكأنه قضى على إنسانيتهم. على أن المشروع الذي اتفق عليه لقمان مع صاحبيه نجيب وسلام يقدم نموذجاً معادلاً لإنسان الحرب، إنه يتمثل في "الجرذان". فقد التقى نجيب اثناء مقامه في المصحة بمريض عجوز كانوا يسمونه "اينشتين" تخصص في جمع المعلومات عن انواع الفئران وخصائصها، وعندما مات ترك الدفاتر المتضمنة لهذه المعلومات وصية لصالحه، وقد جاء فيها: "الجرذ هو الأكثر تدميراً وأكلاً وتناسلاً، لا يقتل اذا جاع فقط، بل ايضا وخاصة من اجل متعة التدمير كائن ليليّ، وإذا ما ظهر في وضح النهار فهذا معناه ان عدده اصبح هائلاً وانه يفتقر الى كمية كافية من الغذاء. في تنقله يحاذي الجدران لان بصره ضعيف يأمن جانباً من الخطر ويتبع دوماً الدرب نفسها، خطاياه الاساسية اربع وليست سبعاً كخطايا الانسان، بما انه يجهل الكسل والحسد والكبرياء، ويتمتع بالجشع والشبق والطمع والغضب، نوعاً من الكائنات الحية فقط يصنعان حروباً ضد جنسهما: الجرذ والانسان. والاثنان لا ينفعان اياً من الكائنات الاخرى ويدمران كل اشكال الحياة". ومع أن المشروع يقوم على الاتجار بمكافحة الجرذان في المدينة إثر انتشارها في اعقاب الحرب فإن المعادلة - غير المباشرة - بين الطرفين تضع الصراع بينهما على مستوى مجازي فائق، يقوم فيه الزمن بعملية الاستبدال والتحويل ويظل الجرذ رمزاً سردياً واقعياً لهذه الشراسة الحيوانية التي سيطرت على انسان الحرب وبديلاً له في المصير في الآن ذاته. إذ أن أروع ما في الانسان سرعان ما يتجلى في لحظة فائقة تجلعه يستعيد تاريخه الحضاري النبيل، يتحول الى ما يشبه النقيض بلمسة سحرية واحدة. يحدث ذلك في حياة لقمان عندما يلتقي "شيرين" الفتاة اللبنانية المولد الفرنسية التربية وقد عادت للوطن بعد هجرة طويلة، لتحقق حلم أبيها الراحل في العودة، ولتعمل مع البعثة الاثرية الفرنسية. استدعته حين رأت فأراً في شقتها الانيقة، وتحركت فيه لدقائق يسيرة مواريثه العتية بالمشاعر الهاجعة بنعومة فائقة، حين خرج من عندها، وعلى الرغم من المكر الذي تذرع به كي يطيل امد المهمة ويقترب من الرمز الجديد كان رجلا آخر، هذه هي عظمة الانسان. أخذ الراوي ينتقل برشاقة بين الذكور والاناث، بين لقمان الذي يحتل المساحة الكبرى في وعيه ومنظوره وتحولاته، وبين صاحبته سلام التي تحكي ايضا قصة ترقيها في العمل، وعلاقتها السادية المثيرة بنجيب الذي يشبع شبقها كلما زاد من تعذيبها وترك اوسمة السياط والكدمات على جلدها ورقبتها. وكذلك منظور "لوريس" التي تروي حكاية ابنها الابرص وتحولاته واطماعه الطبقية وتجسد استلابها العقلي في نهاية الأمر، هذا التنوع في منظور الراوي يسير طبقاً لما استقر في ضمير التقاليد السردية، إن كان يستحيل عند نجوى بركات الى أداة فعالة في مضاعفة الأبعاد النفسية والاجتماعية للرواية، فهى تجيد صناعة متخيلها عندما تختار له منظور رجل فظ غليظ الطبع، وتتبع بحدق ماهر ظواهر مكره في التحايل على المرأة والتجمل امامها واحتقارها ان انتهى مأربه منها، بالقوة نفسها التي توظف بها منظور المرأة عندما تحتدم لديها شهوة الجنس او شهوة الامتلاك وتكشف عن طبيعة وجودها الباطني الحميم، بجسارة لا تقوى عليها سوى المبدعة الحقيقية. غير انها تبلغ درجة عليها من الاتقان الفني حين تعمد الى رصد المواقف بشكل محايد لا يقع في منظور أحد الاطراف كي تستدعي كل الاصوات والتفاصيل، عندئذ تتوهج شعرية الرواية وهي تلتقط نبض الحياة بايقاعاتها المختلفة بتقنيات عدة. ولعل المشهد الذي تصور فيه ذهاب لقمان الى موقع الحفائر الاثرية بعد أن اكتسب ود صاحبته وعشقها، ولقاءه بالصدفة لرفيقته الروسية التي تغير مجرى حياتها وما وجده في موقع الحفائر من إحباط لأن المسؤولين يردمون الاثار استعجالاً لاستثمارات التعمير العاجلة مع طمر الاثار التاريخية المهمة مما يجعل الفتاة تندم على حضورها وتأسف لانتمائها الى هذا الوطن. لعل الكشف العضوي العميق عن هذه الأبعاد في مشهد واحد أن يكون مثالاً لحركة البؤرة السردية وهي تنتقل من مشكلات التشوه النفسي الى الخلل في أبنية المجتمع في فترة ما بعد الحرب، بل تشمل النسيج الاجتماعي بمختلف خيوطه ومنظور الرواة المتعددين يسمح بهذا التنقل النشط بين اصحاب الادوار المختلفة ليجسد في النهاية حركة المجتمع والحياة، ويوظف النجوى والحوار بالرشاقة ذاتها التي يتوزع بها بين المشاهد السوداوية العنيفة ولحظات التخطيط الماكر لاستجلاب العشق واقتناص المشاعر بحثاً عن ألون الخلاص، ليس هناك مجال للرؤية الرومانسية الساذجة عن الحب المثالي، انه منطق العصر الذي يفرض سلطته ويصبع العلاقات بطابعها النفعي المباشر حتى وهو يشبع ارقى العواطف الانسانية. لكن عنقود الفواجع المصيرية لا يلبث ان يضع حداً عادلاًَ ونهاية مستحقة تطفىء بصيص الامل الذي أوشك على التوهج ولكن تكون الحلقة محكمة والحبكة قوية فلا بد للأمل ان يسطع في قلب لقمان اولاً. عندما تنبئه صاحبته "شيرين" بنيتها في العودة الى باريس، فيتحايل عليها حتى تقترن به وتشبقه للسفر ويستعد للحاق بها في اليوم التالي، غير ان قدره يطارده، فيذهب الى رفاقه القدامى في شقة سلام، حيث يعثر عليها مستلبة مجنونة، بعد ان تركت جثة رفيقها نجيب تتحلل في السرير والديدان تأكل عينيه، وتحكي له ما فعلته بأخيها بعد ان اخرجته من المصحة ووضعته في قبو المنزل وحقنته بجرعة زائدة من المورفين مات على اثرها فلم تجد بداً من إطلاق الجرذان على جثته كي يلحق بأبويه الراحلين، ويتمكن لقمان من التخلص منها ومغادرتها لكنه يرجع طمعاً في مال موريس، فتترصد له حتى يدخل شقتها، وتهوي على رأسه حتى يفقد وعيه فتكتفه وتأخذ في مناجاته باعتباره ابنها الميت الأبرص، اي ان الوحيد الذي يبقى في وعيه من هذه المجموعة كلها هو لقمان الي يتجرع كأس البشاعة حتى الثمالة. وتختتم الرواية بحوار السحب البيضاء الذي يسفر عن نتيجة مخالفة للبداية الرمزية الشعرية، حيث "تجمعت السحب مسرعة تستعد للرحيل، نظرت الى الاسفل مودعة، ثم انفجرت بالبكاء". ولأن بكاء السحب مطر، ولأن المطر يغسل الارض وآثامها، ويؤذر بتجدد الحياة واهلها، فإن هناك شعاعاً آخر من الامل الخجول يتراءى خلف هذه المشاهد العتيقة التي انهت دورة الحرب وحلقة السلام الذي يعقبه مباشرة، لتترك للقارئ فرصة التنفس وهو يتصور مرحلة اخرى، لا يتم فيها "نيسان الكائن" ولا طمس معالم الوجود، بقدر ما يتم فيها اكتشاف البقعة السوداء في قلب البشر وقاع المجتمع بطريقة تجمع التصريح الخشن والرمز الموازي لتوظيف جماليات القبح في كتابة شعرية عارمة.