إن الله - سبحانه وتعالى - قد خلق الخلق لحكمة عظيمة بينها في كتابه العزيز، فقال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (سورة الذاريات 56)، والمعنى أن الله لم يخلق الثقلين إلا لعبادته وحده لا شريك له، فلا يصرفون شيئا من أنواع العبادة لغير الله تعالى، كما قال تعالى: {وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا} (سورة النساء 36)، فهذا النهي قد عم أنواع الشرك كلها صغيره وكبيره، ويدخل فيه كل ما عبد من دون الله. ثم إن هذه العبادة، قد حدها بعض أهل العلم بقوله: العبادة، اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة. وأنواع العبادة كثيرة، لكنها لا تقبل إلا بشرطين: الأول : إخلاص العبادة لله وحده لا شريك له، كما قال عز وجل: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ} (سورة البينة 5). الثاني: المتابعة للنبي- صلى الله عليه وسلم- بألا يعبد الله إلا بما جاء من طريق هذا الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام من كتاب الله والسنة الصحيحة، قال الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} (سورة النساء 59)، وقال تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } (سورة آل عمران 31). وقد بينت السنة هذا الأصل العظيم في غير ما حديث، من ذلك: عن عائشة رضي الله عنها قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) متفق عليه، وفي رواية: (من عمل عملا ليس ليه أمرنا فهو رد) أخرجه مسلم. - عن العرباض بن سارية- رضي الله عنه- قال: وعظنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- موعظة بليغة وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله، كأنها موعظة مودع فأوصنا، قال: (أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد حبشي، وإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيراً فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة) أخرجه أبو داود والترمذي. - عن جابر- رضي الله عنه- قال كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إذا خطب يقول: (إن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد- صلى الله عليه وسلم- وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة).وكما أن المسلم لا تقبل عبادته إلا بتحقيق هذين الشرطين، فإنه لا يمكن أن يهتدي إلى الفهم الصحيح لما جاء في كتاب الله وسنة رسوله- صلى الله عليه وسلم- إلا بالأخذ بفهم السلف الصالح- رحمهم الله- وفي مقدمتهم الصحابة الكرام- رضي الله عنهم-، كما قال سبحانه وتعالى: {فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ} (سورة البقرة 137), وقال تعالى: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا} (سورة النساء 115).والآثار السلفية في وجوب الأخذ بكتاب الله سبحانه وتعالى وسنة رسوله-ژ- بفهم سلف الأمة الصالح أكثر من أن تحصر في مثل هذا الموضع، فمن ذلك: - قال عبدالله بن مسعود- رضي الله عنه-: (من كان منكم مستنا فليستن بمن قد مات فإن الحي لا تؤمن عليه فتنة، أولئك أصحاب محمد- صلى الله عليه وسلم- فإنهم كانوا أبر هذه الأمة قلوبا وأعمقها علما، وأقلها تكلفا، وأقومها هدياً، وأحسنها حالا، قومٌ اختارهم الله لصحبة نبيه- صلى الله عليه وسلم-، وإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم في آثارهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم). إذا تقرر ما تقدم، فاعلم - رحمني الله وإياك - أن هناك أموراً كثيراً قد حدثت في زمننا هذا، ليست من شرع الله في شيء، وإنما يتعلق بها أناس يجهل الكثير منهم أو يتجال نصوص الشرع، وآثار السلف في النهي عن المحدثات في الدين، ويعظم الخطب حينما تُنسب هذه الأمور المحدثة إلى دين الله عز وجل، كما يفعله بعض الناس ممن يفتي في القنوات الفضائية، مخالفين بذلك هدي رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من حيث لا يشعرون. ومن هذه الأمور المستحدثة في دين الله (المظاهرات)، حيث أصبحت ظاهرة مشهودة في كثير من بلاد المسلمين إلا ما ندر، ورغم صدور الفتاوى في تحريمها من قبل كبار أهل العلم المعتبرين، إلا أن أكثر الناس حيال هذه الفتاوى على قسمين: القسم الأول: من اطلع على هذه الفتاوى، ومع ذلك يحاول ألا تظهر على الساحة، ويحول بين الناس وبين سماع وقراءة مثل هذه الفتاوى، وهذا حال كثير ممن ينتسبون إلى ما يسمى ب(الجماعات الدعوية)، إذ إن هذه الفتاوى تصادم أهداف هذه الفرق التي أسست على أمور أهمها مصادمة الحكومات، والخصومات السياسية. القسم الثاني: ممن لم يطلع على هذه الفتاوى، وهذا حال كثير من العوام المساكين، ممن لا يقرأ في كُتب أهل العلم المعتبرين، وإنما يأخذ دينه عن طريق وسائل الاعلام التي أكثر من يظهر فيها هم ذوو الاتجاهات المنحرفة والمشبوهة إلا من رحم الله. ولقد عظم إنكار كبار أهل العلم على من حاول نسبة هذه المظاهرات إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ومن العلماء الذين أنكروا ذلك سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز - رحمه الله - حيث قال في معرض رده على عبدالرحمن عبدالخالق: (ذكرتم في كتابكم، (فصول من السياسة الشرعية) ص 31 - 32: أن من أساليب النبي- ژ - في الدعوة التظاهرات (المظاهرة) ولا أعلم نصا في هذا المعنى، فأرجو الافادة عمن ذكر ذلك؟ وبأي كتاب وجدتم ذلك؟فإن لم يكن لكم في ذلك مستند، فالواجب الرجوع عن ذلك، لأني لا أعلم في شيء من النصوص ما يدل على ذلك، ولما قد علم من المفاسد الكثيرة في استعمال المظاهرات، فإن صح فيها نص، فلابد من إيضاح ما جاء به النص إيضاحا كاملا حتى لا يتعلق به المفسدون بمظاهراتهم الباطلة)) (مجموع فتاوى ومقالات - الجزء الثامن ص240). والآن دونك - رحمني الله وإياك - ما تيسر من البحث حول هذه الظاهرة الخطيرة، التي تسمى (المظاهرات). * ما المقصود بالمظاهرات؟ - المقصود منها: خروج جمع من الناس مجتمعين في الطريق أو نحو ذلك، للمطالبة بشيء معين، أو لإظهار القوة، أو نحو ذلك، فهم قد ظاهر - أي ساعد - بعضهم بعضا على إظهار الشيء الذي قاموا لإظهاره، أو للدعوة إليه، فمن هنا سميت مظاهرة، هكذا عرفها صاحب كتاب نظرات وتأملات من واقع الحياة. * أصلها : - لا يشك أحد أن المظاهرات قد دخلت على المسلمين من الخارج، حيث تنتشر الاحزاب والمنظمات التي تتخذ من المظاهرات وسيلة لإبراز مطالبها السياسية ونحوها، واتخاذها كوسيلة ضغط على حكومات تلك الدول، والمظاهرات في الغرب تُعد من وسائل التنفيس والرد على الحكومات، إذ إن كل من لا يستطيع إيصال صوته عبر الوسائل الرسمية يلجأ إلى المظاهرات. وقد أعجب بهذه المظاهرات كأسلوب من أساليب الضغط على الحكومات كثير من الأحزاب والحركات المحدثة سواء كانت أحزاباً سياسية أو علمانية أو ما يسمى بالجماعات (الإسلامية)، ولم يبحث أحد من أولئك في مشروعيتها أو كونها مخالفة للشرع أو موافقة له، بل كانت المطامع والأهداف الحركية والحزبية طاغية بما لا مجال معه عند هؤلاء للتوقف والبحث في مشروعيتها من عدمه. * أدلة من قال بجوازها: في هذا المبحث نناقش أناسا تكلموا مؤخراً عن هذه المظاهرات مجوزين لها، لما تواردت عليهم أسئلة من بعض من اطلع على فتاوى تحريمها، فكان من أولئك أن استدلوا على جوازها بما يلي: - أن النبي- صلى الله عليه وسلم- خرج بعد إسلام عمر رضي الله عنه على رأس صفين من أصحابه، وعلى الأول منهما عمر- رضي الله عنه- وعلى الثاني حمزة- رضي الله عنه- رغبة في إظهار قوة المسلمين، فعلمت قريش أن لهم منعة. (الحلية لأبي نعيم 1-40)، (الإصابة لابن حجر 2-512) ونسبه لمحمد بن عثمان في تاريخه)، (الفتح لابن حجر 7-59 ونسبه إلى البزار). بالنسبة للدليل الأول: هو خبر لا يثبت، ومدار هذا الحديث على رجل اسمه اسحاق بن أبي فروة، وهو منكر الحديث لايحتج به، فيبطل الاستدلال به على جواز المظاهرات، قال العلامة المحدث عبدالعزيز بن باز - رحمه الله - في معرض رده على الشيخ عبدالرحمن عبدالخالق الذي استدل بهذه الرواية على جواز (المظاهرات): (وما ذكرتم حول المظاهرة فقد فهمته وعلمت ضعف سند الرواية بذلك كما ذكرتم، لأن مدارها على إسحاق بن أبي فروة وهو لا يحتج به، ولو صحت الرواية فإن هذا في أول الإسلام قبل الهجرة، وقبل كمال الشريعة، ولا يخفى أن العمدة في الأمر والنهي وسائر أمور الدين على ما استقرت به الشريعة بعد الهجرة) (مجموع فتاوى ومقالات - الجزء الثامن 246). - ومن أدلتهم أن فيها من المصالح: إظهار الحق، وإنكار المنكر، والتعبير عن الرأي الصحيح، وإظهار قوة الدين، وإحياء الوحدة الإسلامية، وغيرها من المصالح. بالنسبة لما ذُكر من المصالح، لا يسوغ المظاهرات بحال، لأمور كثيرة منها: أولاً : أن ما ذكر من المصالح إنما هو تخمين، وظن ضعيف، والواقع يشهد بخلاف ما ذُكر، فهل منعت المظاهرات في العالم كله أمريكا من أن تعتدي على العراق، أم هل ألغت المظاهرات والمسيرات قرار منع الحجاب في فرنسا؟ ثانياً : أن المفاسد المترتبة على المظاهرات أعظم، وأكبر من هذه المصالح المزعومة، والقاعدة الفقهية تقول (درء المفاسد مقدم على جلب المصالح). ثالثاً : السكوت عن المظاهرات التي يدعي أصحابها (تحقيق أهداف إصلاحية) فيه فتح باب على مصراعيه لأصحاب الأهداف السيئة، التي قد يكون ظاهرها الخير، بينما هي في الحقيقة شر ووبال، ولا يستطيع أحد في وقتنا هذا ان يزعم السيطرة على هذا الباب إن فُتح. رابعاً : أن كل ما ذكر من المصالح لا يجيز لنا إحداث شيء في الدين لم يشرعه الله لنا ولا رسوله- صلى الله عليه وسلم- ولم يسبقنا إليه أحد من سلف هذه الأمة، بل هو من المحدثات التي نهينا عنها. - ومن أدلتهم: قياسهم المظاهرات على اجتماعات المسلمين في الأعياد والحج. - فهذا باطل من وجوه: أولاً : أنه قياس مع الفارق، ولا علة صحيحة تجمع بين الأمرين، قال سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز - رحمه الله-: (أما ما يتعلق بالجمعة والأعياد ونحو ذلك من الاجتماعات التي قد يدعو النبي- صلى الله عليه وسلم- كصلاة الكسوف وصلاة الاستسقاء، فكل ذلك من باب إظهار شعائر الاسلام وليس له تعلق بالمظاهرات كما لا يخفى) (مجموع فتاوى ومقالات - الجزء الثامن 240). ثانياً : أن تلك الاجتماعات الاسلامية أمر قد قرره الشارع الحكيم، بينما المظاهرات أمر دخيل على الأمة الاسلامية مأخوذ عن غير المسلمين. ثالثاً : شتان ما بين الآثار المترتبة على اجتماع المسلمين في الاعياد والحج وبين الآثار السيئة الناتجة عن المظاهرات، كما سيأتي بيانه. - ومن أدلتهم أن المظاهرات التي تُعمل إنما هي مظاهرات سلمية. - بالنسبة لقولهم (مظاهرات سلمية) فنقول: حتى أصحاب الشر سيقولون مثلكم، مقاصدنا سلمية، ثم من يضمن لكم أن يخرج من بين هذه الجموع من يفسد ويخرب، ولقد تنبه العلامة محمد بن عثيمين - رحمه الله - لمثل هذه الشبهة فقال رداً عليها: (وأما قولهم: إن هذه المظاهرات سلمية، فهي قد تكون سلمية في أول الأمر أو في أول مرة ثم تكون تخريبية) (انظر: الجواب الأبهر لفؤاد سراج، ص75). - ومن أدلتهم : مشاركة بعض المنتسبين إلى العلم فيها - بالنسبة لاحتجاجهم بمن شارك فيها من بعض من ينتسب إلى العلم، فنقول تلك الحجة التي طنطن بها القبورية على تجويز ما وقعوا فيه من الشرك، وكذا فعل أهل البدع حينما احتجوا بمثل هذه الحجة، وليست بحجة فإن المعول على كتاب الله وسنة رسوله- صلى الله عليه وسلم- وفعل السلف الصالح، وما أجمعوا عليه، فأين من كتاب الله، أو السنة الصحيحة، أو فعل سلف الأمة ما يجيز فعل المظاهرات، وإنما شارك فيها من شارك،- والله أعلم- إن كان من أهل العلم حقا أم لا، وليس بحجة على الأمة فضلا أن يكون حجة على من سبقه، والمرجع عند الاختلاف، ما ذكره الله سبحانه في كتابه العزيز. - ومن أدلتهم أنها هي الطريقة الوحيدة المؤثرة في إيصال صوت الحق للناس في الداخل والخارج. المناقشة : بالنسبة لما قيل: من إن المظاهرات هي الطريقة الوحيدة المؤثرة لإيصال صوت الحق إلى الناس في الداخل والخارج، فهذا غير صحيح، فوسائل الاعلام المرئية والمسموعة والمقروءة قد انفتحت انفتاحا كبيرا جداً وإن كنا لا نرى هذا الانفتاح محموداً من جميع الجهات ويستطيع المسلم أن يدلي بصوته ورأيه ما دام مأطوراً بإطار الشرع الحنيف، وللأسف أن أكثر من يتحدث باسم الدين في وسائل الإعلام اليوم أناس لا يعرفون بالتجرد في اتباع الحق والدليل، بل كثير منهم إلا من رحم الله ذو توجهات مشبوهة. [email protected]