في إطار الرسائل الشخصية التي تصلح أن تكون عامة بعث أ.د. محمد بن مريسي الحارثي الناقد والأكاديمي المعروف برسالة مطولة إلى الشيخ الأديب صالح بن سعد اللحيدان يناقش فيها كتاب الأخير (نقد آراء ومرويات العلماء والمؤرخين على ضوء العبقريات). و(الجزيرة الثقافية) إذ تنشر هذه الرسالة من باب المراسلات بين العلماء والأدباء فهي تقدم نموذجاً راقياً في أدب الاختلاف الذي يكاد يندر وجوده في ساحتنا الثقافية. **** فضيلة الشيخ الأديب المفضال صالح بن سعد اللحيدان - سلمه الله السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. وبعد: فقد تسلمت بكل التقدير والامتنان رسالتكم القيمة وبطيها كتابكم الموقر (نقد آراء ومرويات العلماء والمؤرخين على ضوء العبقريات) وقد عرفت فضيلتكم من خلال قلمكم وفكركم النير في مقالاتكم التي أدبتم بها لغة العلم، فليس غريبا وقد طوعتم الفكر، ومعرفة المنطق بلغة الأديب العالم أن تدرسوا آراء ومرويات العلماء والمؤرخين التي استشارها الأستاذ محمود عباس العقاد في كتابة عبقرياته بروح علمية ناقدة تحفظ للعلماء والمفكرين والكتاب وقارهم ومكانتهم العلمية، وتجلي حقائق المعرفة بحثاً عن الحقيقة العلمية الصحيحة في عرض علمي موضوعي لا تنقصه الدقة في ربط المقدمات بالنتائج، وبخاصة في ذلك التتبع الواعي في توثيق المادة التاريخية في مصادرها الصحيحة، والضعيفة، والمجهولة. ولما كان الأمر يتعلق بالبحث في تكوين صفات وملامح شخوص غير عادية على رأسها صاحب الخلق العظيم محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون، وبعض رموز الأمة من أصحاب رسول الله عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، ومن غير أصحابه. فإذا كان العالم والمؤرخ والباحث يتحرى الموضوعية، والدقة والمصداقية فيما يكتب في قضايا العلم فإن حرصه على تحري تلك الصفات في الكتابة عن قائد الغر المحجلين الى الجنة وأصحابه سيكون آكد، وأقرب على أقل تقدير الى الصحة منه الى غيرها. وأحسب أن كاتب العبقريات يمتلك ذلك كله، وأوسع من ذلك وحسبه أنه قدم للقراء رؤيته وفق منهج وضعت يدك على حقيقته، وطبيعته، وقد أشاد فضيلتكم بمكانة العقاد العلمية، والتمستم له العذر في غير موضع من مقدمة الكتاب القيمة التي أعدها من المقدمات الممحصات التي كشفت مادة الكتاب كشفاً وافياً. إن بعض المتداخلين مع آراء وأفكار الدارسين والباحثين من القدماء والمتأخرين يقتنص ما يقع من هنات عند من تقدمه إلى الكتابة سواء كانت تلك الهنات حقيقةً أو هماً وقع فيه المتأخر ليقدم هذا المنتقد نفسه على أنه أوفر حظوة عند قرائه. وأنت ترى انه لولا اقتحام المتقدم دائرة الكتابة وتقديمه ما قدمه من معرفة صحيحة أو قريبة من الصحة أو حتى غير صحيحة ما كان للمتأخر المتداخل فرصة الاسهام في الكتابة. لكن الطريقة التي تداخل بها فضيلة الشيخ صالح اللحيدان مع مادة العبقريات توحي لك بأدب العلماء مع العلماء، فقد قدّم الشيخ غير شهادة يشيد فيها بشخصية العقاد، فقد أشار إلى أن العبقريات من أجمل ما كتب عن أولئك الأفذاذ، وكان بإمكان هذا الجمال أن يكتمل لو عمق العقاد التحليل التاريخي وفق المادة الموثقة تاريخيا من منطلق تحقق الرواية والدراية وهما ضابطا العلم اللذان يكشفان طرق السند الصحيحة والضعيفة والمجهولة، وبهما يعرف الرجال من حيث الثقة من عدمها. وقد ألمح إلماحة سريعة إلى أن العقاد قد ركب مركبا غير ما عُرف به من مخزون أدبي ونقدي، وهي إلماحة في مكانها لكنها لا تلغي أو تصادر حق العقاد في الدرس التاريخي، فالخطاب العربي في أنساقه المتنوعة والمتعددة يأخذ بعضها برقاب بعض ويؤثر بعضها في بعض، ولا تجد خطاباً عربياً يستقل أو ينفصل عن خطاب نظراً لطبيعة هذه الانساق الخطابية التي تنطلق في مرتكزاتها من الخطاب الإلهي، وتعود إليه بما تحمله من خبرة إنسانية يوجهها الخطاب الإلهي وفق تصوره، ومنظوره الكوني. فأنت لا يمكن أن تطلب من العقاد ألا يكتب إلا فيما عرف به من معرفة، صحيح أن العقاد خلق أديبا، ولم يخلق عالما، لكنه عرف بذهنيته الفكرية، ولك أن توافقه في منتج هذه الذهنية أو تخالفه، وأن تناقش مواطن الاختلاف أو الاتفاق، وتبقى الحقيقة العلمية هي الفيصل بينكما، إن هذه النظرة الى التخصص المعرفي قد دفعت الشيخ صالح في مقدمته الى اتهام حركة النقد التراثية بأنها حركة لم تدرك علل النص إلا من حيث التذوق الأدبي، وأن البحث في معرفة النص كان مضطرباً، وهو اتهام غير دقيق لأن التذوق للنص يمثل الصدمة الأولى وهي صدمة تستفز الذهن للبحث فيما وراء التذوق من معرفة مفيدة أو غير مفيدة، إذ من المتفق عليه عند جمهرة النقاد قديما وحديثا وعند كل الأمم والشعوب أن الأدب لا يكون أدبا إلا إذا كان مبنيا على المفيد والماتع، والمفيد هو المعرفة، ومع أن العقاد كتب في غير تخصصه في نظر الشيخ صالح إلا أن هذا الكاتب قد تكررت الاشادة به وبعبقرياته فالعقاد ما كان يعوذه خلل ما في المعرفة كما هي عبارة الشيخ. والعبقريات عمل جيد، والعقاد حصيف ومدرك، وهو خير من طه حسين في فقه التحليل وإن كانت الموازنة هنا غير دقيقة وكذلك موازنته بتوفيق الحكيم، وأبي ريّة، لاختلاف منهج العقاد في العبقريات عن مناهج هؤلاء، وتصوره عن تصوراتهم. وتجد قمة الاحترام وتبادل الخبرة المعرفية مع العلماء بحسن نية، ومصداقية ما ذكره الشيخ اللحيدان بعد أن طرح مآخذه ونقده على مادة العبقريات، ومنهج العقاد في كتابتها من أن العقاد يغتفر له، ويعذر لأنه أراد بعمله في العبقريات الخير لا غيره. وقد ركز الشيخ صالح نقده لآراء ومرويات العلماء والمؤرخين في العبقريات على بُعدين كانا من الوضوح بمكان، هما مادة العبقريات في ردها الى مصادرها، ومنهج البحث. فقد رأى الشيخ أن مصادر العقاد كانت مطولات التاريخ التي تجمع بين الغث والثمين، فما رأي الشيخ لو كان العقاد قد اعتمد على الثمين من تلك المصادر، وأن عبقرياته بنيت على ما لا يصح في أكثره كما يرى الشيخ، وقد ضعف روايات المسعودي في مروج الذهب، وغير ذلك مشيراً إلى بعض المصادر التاريخية الموثوقة وما ذهب إليه الشيخ صالح من أن العقاد استشار المصادر ذات المادة الضعيفة يعيدنا إلى التفكير في مكونات العقاد المعرفية واستنطاق ذلك من خارج العبقريات فأنا أزعم أن العقاد يعرف مصادر العلم الذي يشتغل به صحيحها وضعيفها، وقد تجد في الضعيف صحيحا، وفي الصحيح ضعيفا، لذلك كان تركيز الشيخ صالح على المنهج أكثر من تركيزه على مادة العبقريات. فقد ذكر أن العقاد أقام عبقرياته على المنهج النفسي، وقد كان لهذا المنهج بريقه في المرحلة التي كتب فيها العقاد العبقريات وقد وظفه العقاد في دراسته حياة ابن الرومي من شعره. وقد افتتن بهذا المنهج غير كاتب عربي وخاصة كتاب مصر الذين استعملوا هذا المنهج في الدرس الأدبي والتاريخي لم يكونوا علماء نفسانيين، لذلك كانت نتائج دراساتهم المبنية على المنهج النفسي تفتقر الى النتائج العلمية الدقيقة لأن فاقد الشيء لا يعطيه. وقد ركز الشيخ صالح على مزالق هذا المنهج، وأن العقاد قد مزج في بعض تحليلاته المتعجلة كما هو رأي الشيخ صالح بين منطلقات أدبية ونفسية وهي الأساس، وتاريخية مع تغليب للمنهج النفسي مشيراً إلى ضيق النفس، والاستعجال للوصول إلى النتائج دون عمق في تحليلاته. إن نقد آراء ومرويات العلماء والمؤرخين كان نابعا من حرص الشيخ صالح على تقديم الصورة الصحيحة والحقيقية لشخوص العبقريات لأنها شخوص غير عادية كما سبقت الاشارة إلى ذلك. وقد تناول نقده، اثني عشر كتابا من كتب العقاد هي مجموع عبقرياته وألحقها بمبحث سماه (من أصول نقد الروايات) أعقبها بخاتمة في صفحة واحدة تدلك على قيمة المنهج الذي سلكه في هذا الكتاب وعدم تكرار شيء من مادة الكتاب في خاتمته كما يفعل غير واحد من المؤلفين. لقد عرض المؤلف مباحث هذا الكتاب الذي يقع في ست وثمانين وخمسمائة صفحة عرضاً علميا هادئا منطلقا من أصول العلم وضوابطه الموثوقة موثقا مادته التاريخية التي استشارها في صلب الكتاب، ولم يتجه في مآخذه إلى انتقاص مؤلف العبقريات، وإنما اتجاه إلى نقد المرويات التي اعتمدها العقاد في استشاراته العلمية، وأن مستشاريه كانوا بين صحيح صريح وهم القلة، وضعيف أو مجهول وهم الكثرة. وقد حاور النص بالنص، والحدث التاريخي بالحدث، واللغة باللغة، وهذا التحاور العلمي الذي يبحث في أصول الحقيقة المعرفية تلمسه بوضوح في هذا الكتاب الذي أضاف الى المكتبة العربية معرفة جديدة، أزعم أن من قرأه سيربح البيع، فقد أفدت منه علما وأدباً ولو كنت أملك من الوقت مايشفع لي لأعطيته ما يستحق من التحاور العلمي، فما هذه العجالة التي زوّرتها عن هذا الكتاب إلا تحية لمؤلفه، وله. فضيلة الأخ الكريم لتعزيز وتوثيق الصلات بفضيلتكم تجدون طيه هدية متواضعة هي بعض ما نشرت في دائرة النقد الأدبي هي: 1- عمود الشعر العربي النشأة والمفهوم. 2- الاتجاه الأخلاقي في النقد العربي حتى نهاية القرن السابع الهجري. 3- عبدالعزيز الرفاعي أديباً. 4- جدلية الواقع والمتخيل، قراءة في ديوان قناديل الريح لباشراحيل. وهذه المطبوعات من أصول مشروعي النقدي (النقد المنتمي)، الذي أعمل على إنجاز بعض مفرداته منذ ما يزيد على ربع قرن، وقد نشرت في هذا المشروع ما يزيد على خمسين بحثاً ودراسة في مجلات علمية محكّمة، أضف إلى ذلك عشرات المقالات الصحفية التي لم تخرج في مادتها عن أهداف وغايات مشروع (النقد المنتمي). وتقبلوا خالص التحية ووافر التقدير. أ.د. محمد بن مريسي الحارثي