قال تعالى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} سورة السجدة (11)، وقال تعالى: {وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاء أَجَلُهَا} سورة المنافقون (11). لقد (تَعْتَعَنِي) قبيل وصولي للشارقة بسويعات نبأ رحيل الصديق العزيز الدكتور عبد الله الناصر الوهيبي المفاجئ, ذهب الفقيد إلى رحاب الله ولن يعود إلينا مرّة أخرى، لن نجلس إليه ولن يجلس معنا، شغر مكانه الذي ملأه دائماً بذكائه وعمقه وثقافته وأريحيّته، لم يكن بمقدوري الحضور، فلم يكن لي عندئذ مناص وقد روّعتني الصدمة ولوّعني الحزن من كتابة هذا المقال من بعيد ليصل متأخراً يلهث في الطريق، وتتثاقل خطاه على الدرب الطويل، إنّه مقال أودعت فيه مشاعري في كفي من الأسى، وضمّنتهُ خلاصة حشاشتي ولهيب اضطرامي، مخروجين بمحبّتي واحترامي، وإني لأرجو أن أوفّق من خلاله في الوصول إلى ماقصدت، ولن يضيرني أو يضيّق عليّ واسعاً أن يسبقني إخوة أجلاّء إلى رثاء أبي ناصر في مقالات ضافية، ذلك أنّ جوانب شخصيّته ثرّة غزيرة لا ينضب معينها ولا يشحّ ماؤها، وهي لهذا تسمح لكل كاتب بالتناول دون تكرار أو إملال. الدكتور عبد الله شخصيته تحمل في عقلها وقلبها وجوانحها باقات ورد ملوّنة من المزايا المعطرة، وهو رحمه الله يتلألأ في أقواله وأفعاله وسائر تصرفاته بهذه المزايا حقاً، ويتوشح صدره بها صدقاً. إني أحمد لجميع الراثين - وفي مقدمتهم معالي الأستاذ الدكتور الأديب المؤرخ عبد العزيز الخويطر- وزير الدولة - وقد قرأت مراثيهم متأخراً جميل ما قالوا، ويبقى لهم عليَّ فضل السبق إلى ما ينبغي التسابق فيه، ومزيّة المسارعة إلى إيفاء الفقيد حقه من الثناء، وبيان ما في جوانب شخصيته من حميد الخصال. إن الحديث عن كل شاردة وواردة من سيرة أبي ناصر الذاتية ومنعطفات مسيرته العملية يحتاج إلى صفحات وصفحات ستطول وقد لا يكون مقام الرثاء الدامع مكاناً كافياً لها، وعلى وجه الإجمال يعد الفقيد الصديق شخصية عامة غير معتادة، وسيبقى بإذن الله ملء السمع والبصر عند محبيه وأقرانه وعارفيه على الرغم من غيابه، وزوال جسمه وإهابه. وعندما يذكر اسم الدكتور عبد الله في أي سياق تشرق عند المتحدثين عنه ذكريات مضيئة لا تحتاج إلى إيضاحات منصفة، وإبانات غير متكلفة. إني أشعر بأن الكتابة عنه معين لا ينضب، وأن ما كتب في رثائه يعد بلا جدال أوسمة تزين صدره، وهو بالتأكيد واقع ملموس، وأثر محسوس، يعرفه القاصي والداني ومن بينهما. لقد قرأت كثيراً عن شيم العرب ومآثرهم وسجاياهم فوجدتها جميعاً ماثلة للعيان، شاخصة بثبات، مجسمة بقوة، في الدكتور عبد الله الوهيبي، فهو كما عرفته صورة لامعة للكرم والسماحة والوفاء والمروءات على مختلف أشكالها في إطار من الذكاء والفطنة واللماحية والفراسة والحنكة والأناة وحسن المنطق وجميل العبارة ولوذعية الإشارة ورائع الفهم ودقيق الاستدلال ونفاذ البصر والبصيرة إلى ما وراء ظواهر الأشياء. أنا لا أقول هذا ونحوه اعتباطاً أو مبالغاً أو من منطلق نظري محض، لأني عانيت بنفسي على الصعيد العملي فضله واستمتعت بنبله وأنست بمجلسه وتزودت برأيه ونعمت بمشورته وحصافته ونهلت من ينبوع أخوّته، فقد كان رجلاً بلا حدود وفوق كل حدود، كان إنساناً يحس بالدنيا شرقها وغربها وشمالها وجنوبها، ويشعر بكل من فيها وما فيها شعوراً إنسانياً نبيلاً راقياً متئداً غير عشوائي. أما وفاؤه فالكلام عنه من تحصيل الحاصل، وهو خصلة مدهشة تتربع على دست خصاله الحميدة، وعْدُه مفعول وليس مقولاً فحسب، وصداقته ثابتة راسخة لا تحول ولا تزول، ولا يتقلب بها الزمن ولا تلتوي بها الإحن، ولا ينفيها أو ينقصها تغير الخال أو تبدل المآل، ولا تذهب مع الريح لتريح، يهرع بمحبة إلى زيارة أقربائه وعيادة أصدقائه المرضى بشكل متواصل ويسهم في تشجيعهم وفي بعث الأمل فيمن أنهكته العلل، وأصبح قريباً من نهاية الأجل. وأما كرمه وبذله فحدث ولا حرج، أذكر أنني قبل حوالي خمسين عاماً كنت في استقبال الأخ الأستاذ عبد الرحمن الحقيل أمد - الله في عمره - في مطار الرياض الذي كان آنذاك شديد التواضع، وصادفت هناك أبا ناصر ولم أكن أعرفه بعد، فسلم معي على صديقنا القادم، وبادرني وهو لا يعرفني بدعوتي معه إلى تناول طعام الغذاء على مائدته في بيته وبيت والده - رحمهما الله - في البطحاء، ومن مآثره في البذل ما علمته مصادفة من إقامته مع صديق له مشروعاً صحياً لخدمة المواطنين في مسقط رأسه (رياض الخبراء بالقصيم) وهو مشروع سيبقى مع غيره من المشروعات التي لا يعلم أحد عنها شيئاً لأن أبا ناصر لم يكن يعلن أو يتفاخر بما يفعله من خير، وما يقدمه من بر، وكأني بيساره لا تعلم ما أسدت يمينه، أقول ستبقى خدماته العامة مؤشرات لا تخطئ على النبل والوفاء، والجود والعطاء، بلا منّ ولا استعلاء. لن يختلف اثنان أبداً على وفائه وكرمه وبذله ومروءته وصدقه وذكائه وتواضعه الجم وترفعه عما لا يترفع كثيرون عنه وبراعته ودقة ملاحظته وعطفه على من يحتاج إلى العطف وتعاطفه مع من يستحق التعاطف، حبه لبلده ولإخوانه كبير عميق صادق، نقي نقاء الماء القراح، سلسبيل عذب لا تخالطه الشوائب، كنت أقترب منه مشدوداً (بمغناطيس) المحبة الخالصة لألمس عن كثب شفافية عقلٍ معجب، وقلبٍ غير قُلّب، وسحر مملوح، لا حرمة فيه ولا جنوح، أنا شخصيا أشعر بمعروفه في القول والفعل، وحين كنت غائباً في القاهرة لمدة زادت عن ست سنوات متفرغاً لدراستي العليا كان دائم الوصل على تنائي المكان، وتفرق جمهرة الخلاّن، متواصل الاستفسار، مسدياً لي أثناء إقامتي هناك وبعد عودتي للرياض ما لم أنسه ولن أنساه مما لا يبذله إلا كريم شريف، ووفي عفيف، وإنسان بلغ الشأو الأكبر من الإنسانية، والذروة العليا من المكارم الجميلة. وأبو ناصر أستاذ جامعي مقتدر في التاريخ، ممتاز ومتميز في اختصاصه وفي غيره على حد سواء، يتحلى بما ينبغي للأستاذ الجامعي أن يتحلى به، فالعناية عنده تتجه إلى المخابر لا إلى المظاهر، والروحية الشفافة والمعرفة الغزيرة تسموان به إلى أعلى المنابر، يفيض علمه على أبناء الوطن من جميع الدساكر، ظاهره كباطنه، ولسانه كجنانه، وفيها جميعاً ذكاء، معه صفاء، لا يعطيك من طرف اللسان حلاوة ويزعم أن ذلك قد كفى، وأنه به قد وفى، عن دخيلته الصادقة لا تسأل، فهي كاللصيقة الجميلة أو افضل. إن الكتابة عن شخصية مثل الدكتور الوهيبي تحتاج إلى عمق استثنائي ينأي نأياً شديداً عن تناول الأمور المركبة بسهولة ويسر، وتحتاج إلى الغوص البعيد، وإلى حسن التناول بتؤدة وتمعن وتفكير، وهي كالسباحة في محيط - من المحبة - ليس له ساحل، وفوق أمواج - من المودة - بلا آخر. ممّا يلفت النظر ويدعو للتأمل أن أبا ناصر كان أثناء حياته في الضوء وليس فيه معاً، فالأول خاص شديد الخصوصية، والآخر عام ممعن في العمومية، وأصدقاء الأول حقيقيون ثابتون، وأصدقاء قسيمه مؤقتون راحلون. إن أبا ناصر كتلة كبيرة كامنة من الامكانات الواسعة يمكن بها أن يعد بالقابلية رجل دولة جاداً من طراز جيد، ولا ينقص من جديته وجودته أنه في الوقت نفسه صاحب دعاته ذكية مستملحة، وحقيقة جلية نقية وبهيّة، ومجاز راقص أخّاذ ، وكناية جميلة مستظرفة. في مجلسه إمتاع ومؤانسة، وفي حديثه طلاوة ولباقة، وفي شخصه صِدقٌ هو بِهِ حقيقٌ، وهو أيضاً بسامعه الصديق شفيق، يرشد إذا احتاج إلى أسلم طريق، وفيه استنارة عند الاستشارة، وعمق في الرأي يبديه بلا عُجْب ولا لأي، سهلاً ميسراً، وواضحاً معبراً، وذكياً مؤطراً، سديد النصيحة لا يبخل بها تماماً كما لا يبخل بماله في الشأنين الخاص والعام. ومن العدل في هذا السياق أن أخص الحكومة السنيّة بالشكر والامتنان، فقد أحاطت مواطنيها كعادتها بكرم رعايتها في كل زمان ومكان، فأرسلت طائرة خاصة أحضرت جثمان الفقيد العزيز ليرقد تحت ثرى الوطن الذي أحبه وقُرْب الأهل والأصدقاء الذين بادلوه حباً بحب. أشعر في نهاية هذا المقال الذي خطّته يمناي بمداد من دمع العين السّخين، وبقلم مكلوم، وفؤاد مصدوم، في حبّات لؤلؤ درّيّ نظمتها في قلادة معبرة يصطف فيها جنباً إلى حنب جميل الخصال, وطيب الأفعال، بأسى لا يوصف، وبذهول من نوع لم يعرف. رحمك الله أبا ناصر رحمة واسعة وأسكنك فسيح جناته وألهمنا الصبر والسلوان، حقاً إنه يوم للحزن، ومن أحسن ما نُظم وأشده تأثيراً في هذا المقام قول مطر بن جبير العجليّ يرثي أخاه: لقد كان عبدُ الله ذا أريحيّة إذا اهتزّ للخير الذي هو فاعلُه فلو أنني أسْطيع يوم حِمامِه لقاتلت عنه لو أرى من أقاتلُه وقول علي بن أبي طالب عند موت فاطمة: ألا أيها الموت الذي ليس تاركي أرحني فقد أفنيت كلّ خليل أراك بصيراً بالذين أودُّهم كأنّك تنحو نحوهم بدليل وقول أحمد شوقي: يجلّ الخطب في رجل جليل وتكبر في الكبير النائبات وليس الميْتُ تبكيه بلادُ كمن تبكي عليه النائحات