لا تنثر أحزاني أمامك وتحدّق بي واجماً كأنما تحثو عليّ لومك، لم أقلب بعد تلك الكلمات المشتعلة بالألم، لم أنفض عن عينيك الستارة المسدلة على خطأ تقع فيه كل يوم وتكتبه في قلبي دون مواربة. تدخل إلى أفواه تتحرك باستمرار داخل جدران بيتنا الذي يضيق بازدحام أصواتهم ونظراتهم وأنا أتعثر بها في حركتي الدءوبة داخل ما كنت أظنه مملكتي الصغيرة، وكلما فجّر المكان صوت طفل آتياً من وراء شاشة التلفاز كانت الأعين كلها تلتفت حولي وتتسلق وجهي وعيني وصوت بكاء مكتوم مقيّد في أعماقي، فيما كنت تتكوم إلى جانب والدتك كطفل رحلت عنه سنوات العمر وبقي متشبثاً بأعواد طفولة يابسة. كف عن لومي حتى وأنت بعيد، حتى وأنت تكسر العابك في حضن والدتك، حتى وأنت تمشي إلى جانب أخيك الأكبر ويدك في يده كمن يخاف عبور الشارع وحيداً. لم أزل أتفرع في أحلامي، لم تزل المرأة في داخلي تغني، هل تسمع صوتها يا زوجي الصغير؟ تجمع الأطفال كلهم في عيني وراحوا يغنون لتكبر الأزهار على ضفاف قلبي. جئتني تتلو عليّ أحاديثهم، قلت لي بعصبية: هذا الوضع لا يمكن أن يُحتمل!! أطالعك في استغراب وأشعر بك بعيداً، صوتك يخفت وعيناك تغوران وجسدك يتلاشى.. وقفت أختك فوق رأسي وقالت بازدراء: أنت لا فائدة منك. بقاؤك معنا عالة علينا، عليك أن تفكري جدياً بالرحيل. من يدي تأخذ فنجان القهوة وتشكو هموماً جديدة تدخل إليك من بوابة العمل. كان صوتي ذابلاً والعصافير تحزم أجنحتها وتغادر، كنت سأقول لك إني أعيش مرارة تثقل عليّ أحلامي واعتادها، كنت سأقول لك: عليك أن تعترف لأهلك ليكفّوا عن صف الحجر الثقيل فوق قلبي.. لكن عينيك حازمتان في خوفهما وفي احساسهما بخجل متزايد! ذلك المساء قلت لك: سأخبرهم.. كان صوتك مرهقاً وموجوعاً وأنت تقول: هل جننت!! سقطت نظراتي في عينيك متعبة: لم أعد قادرة على الاستمرار هكذا، لا أستطيع احتمال المزيد من اهاناتهم المتكررة، لست شيئاً لا قيمة له في هذا البيت، على أهلك أن يفهموا هذا الأمر.. صارت كلماتي تصطدم بالجدار وتعود خائبة. قلت: أصبري.. كانت الكلمة تركض على لسانك دون أن تتعثر بوجعها. كيف بدوت قاسياً وأنت تراني أتهدم وأسقط؟ هل كان حزنك كئيباً إلى الحد الذي كنت فيه تمسك بيدي لتصل بي إلى قاع الألم وتتركني وحيدة؟!! عندما اقتربت أمك مني وكنت أعدّ وجبة الغداء قالت لي ببرود غريب: سنذهب هذا المساء لنخطب لزوجك! نظرت في عينيها طويلاً دون أن أتكلم، كانت عيناها حارقتين، كانتا جمرتين تلتهبان وتكادان أن تشعلا في ثيابي وجسدي حريقاً مهولاً، سكت وواصلت عملي.. قلت لك وأنا أراك ترتدي ثوبك الجديد وتقف أمام المرأة تتهندم: هل ستفعل ذلك حقاً؟ كنت تبتسم وأنت ترد قائلاً: ولِمَ لا؟ قلت لك: لكنك تعرف.. أجبتني: هم لا يعرفون!! قلت: هل ستخدع الأخرى؟! فتحت باب الغرفة وأنت تهم بالخروج، قلت: لن أخدع أحداً هذا زواج على سنة الله ورسوله. عندما عادوا ذلك المساء، وكانت رائحة البخور تسبقهم إليّ، كانت الابتسامة كطائر، يتنقل على أغصان شفاههم، كانوا يضحكون كأنما يتعرفون على الضحكة للمرة الأولى! ويختلسون النظر إليّ.. لم يكونوا ليتجرأوا وينظروا باتجاهي مباشرة، رأيتك، كنت سعيداً في بلاهة غريبة وكأنما لم تزرع منذ وقت قصير شجرة صبار أخرى في هذا المنزل المكتظ بأشجار الشوك العتيقة!! من وراء ظهري أخرجت طرف الورقة، لمحتها، لمعت في عينيك نظرات صاعقة. كادت أنفاسك تتجمع في صندوق صدرك ولا تعرف الطريق إلى الخارج، كان الجميع يأخذون مجالسهم في الصالة ويتحدثون ويصفون هذه الليلة المدهشة.. قالوا إنهم لم يفرحوا هكذا منذ زمن طويل، وكانت كلماتهم تلك تعرف دربها إلى أعماقي جيداً لتتكوم إلى جانب زميلاتها في الشقاء، لقد اعتدت ذلك ولم يعد غريباً عليّ أن أتألم دون أن أشعر، مات لديّ الإحساس بالضيق وقفت أمامهم كشجرة تساقطت أوراقها، كنت تجلس إلى جانب أمك وأخيك الأكبر، ثبّت عيني في عينيك ولوّحت بالورقة أمام أنظار الجميع. تقدمت من أمك التي لوّنت وجهها بحمرة بدت كمحاولة فنان مبتدئ الإمساك بالفرشاة والرسم بعشوائية، رميت بالورقة في حجر أخيك وأنا أبتسم في انتصار أبله!! وجم وهو يقرأ الورقة، سقطت نظراته كجثة هامدة والجميع يحدّق فيّ مستغرباً، أما أنت يا زوجي العريس فقد انسللت بهدوء ونفضت عن فمك الواسع تلك الضحكات. دخلت غرفتك وأغلقت بابها عليك، صارت الورقة تنتقل من عين إلى أخرى حتى تكاثر سقوط الجثث في المكان. طالعت أختك تلك التي كانت تراني عالة عليكم، كانت تخفي رأسها بين يديها وتضغط بشدة لتحتوي الصداع الذي هجم عليها بشراسة. تركتهم، ذهبت خلفك وأغلقت الباب.