بصفتي مواطناً وباحثاً في آن، أكتب عن انتخاباتنا البلدية القادمة؛ مرحباً بهذه المبادرة السياسية الطيبة في سبيل إشراكنا - كمواطنين سعوديين - في هندسة معالم حاضرنا وتصميم أنماط حياتنا ونسج خيوط مستقبلنا في ضوء إطارنا الثقافي الحضاري. ولعله من المناسب أن استهل نقاشي لهذا الموضوع الهام بطرح سؤالين كبيرين هما: - هل يسوغ لنا ألاّ نتعاطى مع الحقائق التي تحكم عملية الانتخابات وألاّ ننطلق منها لكون الانتخابات ظاهرة جديدة في مجتمعنا؟ - هل هو قدر محكوم علينا كمجتمع عربي أن نجري دوماً في مضمار (التجربة والخطأ) في كل مشروع نهضوي تاركين وراء ظهورنا الخبرات الإنسانية المتراكمة؟ وقبل الحديث عن بعض الحقائق (كما يراها الكاتب) التي تحكم عملية الانتخابات، يحسن بنا أن نؤمئ إلى خاصية تتفرد بها الحقائق بشكل مبهر... إنها خاصية (العناد) كما يقول أحد المفكرين.... فالحقائق شديدة العناد وهي الأطول نفساً... حيث تنقطع أنفاسنا دون أن نلحظ أي لهاث منبعث من جوف الحقائق... فالحقائق هادئة مطمئنة لأنها تعلو دائماً وتنتصر على كل ما عداها ومن عاداها من هوى وجهل ولو بعد حين... وهذه الحقيقة المطلقة عن الحقائق تدفعنا إلى الإيمان الكامل بعقد مصالحة دائمة معها، والتواضع الصادق من أجل الظفر بها، لننطلق من ثم في طرائق البحث والتفكير والتفلسف على هدي مشاعلها وأنوارها. وثمة حقيقة أخرى يمكن لنا الإفادة منها في خضم نقاشنا لأي أفكار (تجلب) من البيئات الثقافية الأخرى... وهي أنه لا يمكن لنا البتة نقل الأفكار مجردة من توابعها الفلسفية والثقافية والتي تفرز غالباً لوازم إجرائية تختلف في صرامتها وتفاصيلها من حالة إلى أخرى... فكما أننا لا نستطيع أن نجلب السمك حياً من اليابان بلا ماء... فإننا لا نستطيع أيضاً أن نجلب (الانتخابات) حية من المدنية الغربية مجردة من (مائها)... وماء الانتخابات يتمثل في البنية الأساسية للعملية الانتخابية والتي تتضمن - ضمن أشياء أخرى - توفير أجواء الحرية والنزاهة والشفافية والعدالة في الجوانب الإجرائية وتمثيل كافة الفئات... مع أنه يسعنا بل يتوجب علينا أن نعيد دوماً تصنيع أحواض الأفكار المجلوبة بما يجعلها متناغمة مع مساحاتنا الثقافية... وتقريرنا لهذا الأمر يؤكد على أن الحاجة باتت ماسة أكثر من أي وقت مضى لانتقال الثقافة العربية إلى حيز إبداع الأفكار في الفضاءات المختلفة، بل يعد ذلك حتمية مطلقة لأي نهضة حقيقية قادمة. محاولاً الإجابة على السؤالين السابقين أتناول موضوع الانتخابات في ضوء بعض الحقائق التي أراها كذلك، علّها تسهم في انفكاكنا نظرياً وتطبيقياً من دوائر التجربة والخطأ إلى الفعل الثقافي الناضج المنبثق من ثوابتنا وظروفنا وحاجاتنا ومقدراتنا وأولوياتنا، أقف باختصار مع ثلاث قضايا أساسية لها صلة بموضوع الانتخابات.. الذاكرة الجمعية تستوجب العقلانية في تسويق الإصلاح! في خضم الإعداد للانتخابات البلدية - والتي ترمز هنا للمشروع العربي الإصلاحي - أعتقد أنه من غير السائغ أن نتغافل عن دور وتأثير الذاكرة الجمعية التي هي عبارة عن أرشيف اللاشعور الجمعي... اللاشعور الجمعي بصادره ووارده، وإنجازاته وإخفاقاته، وحلوه ومره، وقريبه وبعيده... كل ذلك محفوظ في ذلك الأرشيف مرقماً مؤرخاً... قد يكون الباعث الرئيس لعدم الاكتراث بالذاكرة الجمعية في سياق الانتخابات البلدية هو جدة الظاهرة في المجتمع السعودي... قد نظن أننا لا نحتاج سوى قلب صفحة جديدة في الأرشيف... متناسين أن كل ما يصدر وكل ما يرد من وإلى ذلك الأرشيف يقع في عقولنا ويحفر في وجداننا وينغرس في ذاكرتنا... إنه رصيد واحد في حساب واحد وإن تراءى لنا غير ذلك...؟ وتأسيساً على ما يتوجب علينا أن نربط مشاريع الإصلاح في عالمنا العربي بهذه الحقيقة... إن أي مشروع إصلاحي جديد تعلن عنه منظومات المجتمع الرسمية منها بالذات تنشط ذاكرتنا الجمعية وتنجح بكل اقتدار ودقة بربطه بمخزونها من الإنجازات والإخفاقات ...... تربطه بمستويات الدقة والكفاءة في التنفيذ... وبمعدلات النجاح في تحقيق الأهداف... وأخيراً بدرجات المصداقية. في رأيي أن ذاكرتنا الجمعية العربية ممتلئة بكل شيء... معبئة بالإحباط والرجاء في آن.. كما أنها مكتنزة بألوان من الاخفاقات والوعود الشكلية أو المزيفة... ولذلك فإنني أعتقد أن من المحتم علينا في أي مشروع إصلاحي أن نكون على درجة كبيرة من الدقة والواقعية في التعريف بآثاره والتسويق لنتائجه... ما الذي يدفعنا لتقرير هذا؟... إنها الذاكرة الجمعية العربية... حيث تطالعنا صفحاتها ببعض النتائج المثيرة... لم تعد صفحاتها تتحمل ووعوداً مبالغاً فيها وتسويقاً دعائياًً... حيث تشير أرقام صفحات الذاكرة الجمعية العربية إلى قرب وصولها إلى نهايتها في هذا الاتجاه مما يعني قفل سجل الذاكرة أمام المشاريع الإصلاحية المستقبلية ذات الطابع الدعائي... وهذا يؤدي قطعاً إلى فقد للثقة وضياع للأمل لدى شرائح اجتماعية متزايدة، الأمر الذي يدفعها إلى السلوك الانسحابي والاختفاء من مسرح الفعل الاجتماعي... لتضاف هذه الخسائر إلى الرصيد المتراكم... غير أن هذا ليس قدراً محتوماً لا يسعنا الانفكاك عنه... أعتقد أن أولى الخطوات الإيجابية للانعتاق من ذلك السيناريو هو عقد مصالحة مع الحقائق والسنن الكبرى التي تفسر لنا كيف تتحرك متاريس ورافعات المشاريع الإصلاحية. ومن هنا نبادر بالقول بأن على كافة المؤسسات الحكومية وغير الحكومية المشتغلة من قريب أو بعيد بالانتخابات البلدية - بما في ذلك كتّاب الصحافة ومثقفي التلفاز - أن يكونوا واقعيين في طرحهم وأن يبتعدوا عن الدعايات والادعاءات الفارغة من المصداقية والعقلانية... لأن يقال لي - مثلاً - إن الانتخابات البلدية في الفترة الحالية ستمنح أعضاء مجلسك البلدي صلاحية (حقيقية) لاتخاذ قرار بوضع (مطبات) في شوارع حارتك... وتحديد نوعية تقليم الأشجار.. أهو تقليم دائري أم مربع أم بيضاوي... ويكون لي كمواطن انتخب ذلك المجلس القدرة الكاملة للتحقق فعلياً من تنفيذ تلك الأمور وممارسة دور الرقيب والمحاسب على مجلسي البلدي في حدود صلاحيته المحدودة... إن هذه الصورة - التي قد تبدو متواضعة للبعض - خير لي من حشد جملة من (الصلاحيات) الشكلية التي لا تعدو كونها حبراً على ورق... في الحالة الأولى سأحترم واقعية وعقلانية وصدق الانتخابات وأدرك أنها تخضع لنمو طبيعي من حيث الصلاحيات التي يضطلع المجلس البلدي بها... هذا سيدفعني إلى المشاركة الفاعلة في الانتخابات التالية وسأطالب بشكل متحضر بتوسيع دوائر اتخاذ القرار في مجلسنا البلدي لتشمل صلاحيات أكثر وأكثر... أما في الحالة الثانية - الصلاحيات الشكلية - فأحسب أن ذاكرتي الجمعية ستحول بيني وبين أي مشاركة حقيقية فاعلة قادمة في الانتخابات... الانتخابات والتجمعات.. لا انفكاك! أسمع حديثاً كثيراً عن ضرورة الحذر والنأي عن مسائل التجمع والتكتل في الانتخابات، وهذا أمر مطلوب كفعل (وعظي) يستهدف ترشيد الفعل الإنساني وتهذيبه، أما إن أريد لهذا الحديث أن يتجاوز أطره الوعظية فإننا نحتاج حينذاك إلى وقفة جادة عند حقيقة هامة... ولكي نناقش قضايا التجمع والتكتل الانتخابي بشكل عقلاني يتعين علينا أن نتساءل فلسفياً عن ماهية الانتخابات وجوهرها... الانتخابات هي فعل إنساني ديناميكي يعتمد على سلسلة من الإجراءات المنظمة لعملية تولي مجموعة من الأشخاص سلطة محددة في ضوء محددات الزمان والمكان. وديناميكية الانتخابات تشير إلى ديمومة حركة إنسانية في فضاء اجتماعي... فالحركة الإنسانية يستحيل أن تقع في فراغ اجتماعي... إذن ثمة ما يملأ ذلك الفراغ... ثمة ما يكوّن الوسط الذي تنشط فيه خلايا الانتخابات بالحركة والسريان في عروق الجسد الاجتماعي... هذا جانب من الحقيقة... والجانب الآخر في رأيي يتمثل في أن الفعل الانتخابي ينبثق من تفاعل ثنائي مباشر بين المرشحين والناخبين... وهذا التفاعل يقوم على معرفة كل طرف بالآخر والثقة بأن المصالح المتوخاة للطرفين ستجد طريقها للتحقق... وهنا نتساءل: كيف يتحقق هذا التفاعل؟.. . دعونا نتأمل بعض ملامح المشهد الانتخابي من خلال الآتي: فترات انتخابية.. حملات انتخابية.. جتماعات انتخابية..تعارف انتخابي.. برامج انتخابية للمرشحين.. تزكيات انتخابية.. مصالح متعددة.. مصالح متعارضة.. موارد محدودة.. فئات اجتماعية.. رموز اجتماعية... رموز دينية..رموز ثقافية.. فئات اقتصادية.. توجهات فكرية.. عدالة في التمثيل الانتخابي.. تصويت انتخابي.. وبعد تأملنا لذلك المشهد بعلاقاته المتشابكة نتساءل هل يمكن لنا أن نتصور حدوث تفاعلات إنسانية دون وجود لون أو آخر من (التجمع) أو (التكتل)... في رأيي أن ذلك مستحيل ومخالف لجوهر وديناميكية الفعل الاجتماعي الذي يحكم عملية الانتخابات... إذ كيف يلتقي الناس؟ وكيف يبنون تعارفاً فيما بينهم يثمر تعاوناً وثقةً ؟ هل يحدث كل هذا من خلال فعل عشوائي؟ أم أنه ينطلق من (تقارب) و(تجانس) و(اتفاق) في جملة من المبادئ والتوجهات والمصالح والهموم والتطلعات؟ كل هذا يقودنا إذن إلى تجاوز مرحلة الوعظ اللاعقلاني الذي ينشد فيه البعض الخروج عن الطبيعة الإنسانية في الفعل الانتخابي... وهنا نستدعي المثال السابق الذي أكدنا فيه على أن ثمة ظروفاً يجب توفيرها لجلب السمك والانتخابات من بيئة إلى أخرى مع ضمان بقائها حية في البيئة الجديدة. أحسب أن ما سبق يحيلنا إلى ضرورة الوعي بهذه الحقيقة والتعايش معها وعدم جحودها... الأمر الذي يقودنا إلى التسليم بأن ثمة تجمعاً أو تكتلاً - مسميات مختلفة لحقيقة واحدة! - سيحدث قطعاً في أي فعل انتخابي.. وهذا يمكّننا من أن ندخر جهدنا الذهني والإجرائي للتعامل الذكي والعقلاني مع هذه الحقيقة لنفرق من ثم بين تجمع محمود، وتجمع غير محمود.. تجمع إنساني يدور في فلك السلوك (الفطري) و(الطبيعي) و(المتوقع(، وتجمع يتجاوز هذه الأطر.. والاعتراف بتلك الحقيقة لا يسلبنا الحق في أن نضع الأسس القانونية التي يجب أن تحكم عملية التجمع.. نعم هذا مشروع لنا بل واجب علينا... لكن هذا لا يتصور حدوثه دون الإقرار بتلك الحقيقة. قد يجادل البعض في صحة تلك الحقيقة ذات المنطلقات الفلسفية، ونبادر حينذاك بالقول بأن ذلك جد سائغ، غير أننا نقول في الوقت ذاته أنه يتعين على من لم يسلم بهذه الحقيقة الفلسفية أن يجلب لنا حقائق تجريبية من أرض الواقع... ليجلب لنا مشاهدات تجريبية واقعية من دول الجوار العربية أو غيرها... وفي حال وقع في أيدينا حقائق من هذا القبيل نكون منهجياً ملزمين بمراجعة الحقيقة التي أوردناها، فلربما كانت مثقوبة أو معطوبة فلسفياً... !! مجلس بلدي ناشئ.. وغيرة تنظيمية متوقعة من أهم الأسئلة التي تثور دائماً عند نشوء أي تنظيم جديد هو مدى وجود تداخل في الصلاحيات والمهام بين المنظمة الجديدة والمنظمات الأخرى القائمة. وقد ثار السؤال ذاته في ندوة عقدت مؤخراً في القصيم - بمبادرة مشكورة من الجمعية السعودية للإدارة - لمناقشة بعض القضايا المتعلقة بالانتخابات البلدية... وقد توصلتُ بحكم تخصصي في السلوك التنظيمي (العلم الذي يهتم بسلوك المنظمات) إلى نتيجة أو حقيقة هامة - يمكنني في غير هذا الموضع البرهنة بتفصيل أكثر على صحتها - ، وهي أن (الغيرة) - في جانبها الفطري - لا تكون بين النساء أو الرجال فحسب، بل ثمة غيرة أيضاً بين المنظمات.. . ذلك أن المنظمة القائمة (أو القديمة) والمكونة من مجموعة من الأشخاص المتوفرين على صلاحيات معينة ستشعر بشيء من الضيق والتبرم من جراء محاولات المنظمة الجديدة لاقتطاع جزء من صلاحياتها التي اعتادت عليها واعتبرتها مع الأيام حقاً مكتسباً.. . تلك الصلاحيات التي تمنحها السلطة والقوة والتأثير والأهمية والاحترام والوجاهة ... وثم من يمكننا النظر إلى تلك الغيرة كخواطر جبلية قد يشعر بها الجميع... غير أن الناضجين -أشخاصاً ومنظمات- يجعلون ذلك الشعور في إطاره الطبيعي ولا يتجاوزون به الحد نظاماً أو تعاملاً أو لياقة... وثمة مسألة أخرى تؤكد حتمية وجود التداخل في الصلاحيات بين المجلس البلدي المزمع إقامته وبقية المنظمات الأخرى - كمجلس المنطقة وغيره - ، وهذه المسألة تتجسد في الحقيقة التي نعايشها فعلياً من وجود تداخل واضح في الصلاحيات بين بعض منظماتنا القائمة ولفترة زمنية تطول أو تقصر، وهذه سمة بارزة لنمط الإدارة الحكومية لا سيما في البلاد النامية ومنها البلاد العربية. واتكاءً على ما سبق، يجدر بنا أن نتوقع قدراً من (التداخل) في الصلاحيات والمهام وقدراً من (الغيرة) بين المجلس البلدي وبعض المنظمات القائمة، مما يدفع باتجاه رسم إطار إداري وإجرائي يعترف بهذه المسألة ويستعد لها. ومن الأمور التي تساعد على تشخيص درجة تداخل الصلاحيات ومن ثم العمل على التخفيف من حدة المشكلة وتلمس سبل علاجها تنظيمياً وإجرائياً إنشاء إدارة مستقلة في الوزارة المختصة (وزارة الشئون البلدية) للقيام بهذه المهمة، على أن تكون الرسالة الأساسية Mission لتلك الإدارة العمل على تشخيص ووقاية النظام الانتخابي والمجلس البلدي الناشئ، والتشخيص الذكي والسريع للتداخلات التنظيمية والإجرائية، وبلورة حلول علمية قابلة للتطبيق. *كاتب وأكاديمي سعودي