هو العطر عينه، رائحته تسبقه، تكمن في الطرقات والأركان والشوارع الكبيرة والصغيرة كلها، كلها، يجيء رمضان ومعه رائحته وأجواؤه وعاداته السنوية، لا يحتاج إلى من ينادي وينبه الناس إلى قدومه، لكنه عندما يأتي في الطلة الأولى مع المدفع والأحاديث والتهنئات، فإن الناس يهبون حالاً، وفي اليد شوق إلى تلمس قمر الدين، وحبات القمح المهروسة، والألماسية والسكودانة والمهلبية، ليسوا جوعى، وليست الحاجات تلك محرمة في غير رمضان، لكنه الطقس الذي نألفه في وقته، وننصرف عنه حال انتهاء رمضان. هو الصبي، يدرج في الطرقات المرصوفة بالحجارة المسنونة اللامعة بفعل الماء والسقوف والاشرعة، كأنه مفتش البلدية يتفقد الدكاكين، يتلصص. عيناه الباردتان، تنزلان بهدوء جليدي، على خصائص الأشياء. لطمه مرة بائع السوبياء عندما دلق له دورقه الزجاجي البارد على الأرض، انكسر الدورق وحار الصبي من أين يأتي بربع ريال قيمة الدورق الذي دلقه؟ وقرشين قيمة السوبيا؟ قال إن اللطمة أخف ضرراً، أخذها ووقف، لعل النفس ترق ويعوضه البائع دورقاً جديداً يشربه، يطري به معدته الوالعة، من وجبة الفول وزيت السيرج، كان البائع رقيقاً، تنبه والزبائن حوله ونادى على الصبي، وكأن الأمور قد حلت تماماً، قال وهو يفتح حنفية دورق السوبياء الكبير: هات القرشين وخذ واحداً جديداً!! نقده المبلغ قرطع المشروب، وحين انتشى طار بخطواته ليزرع أزقة العنبرية، كان الغروب قد بدأ يفرد ظله، كانت شجرة الحماطة الكبيرة في قمة النشوة، التكية الكبيرة هادئة ووقورة، سقى الله حب المصري، ذاك مولد الوالدة، يقفون طوابير من أجل غرفة من الشرباء!! هذا هو العطر تضوع: يا رمضان يا أبو الشربة والقدحان!! وله الدعاءات كلها: يا فاطر رمضان يا كاسر دينك كلبتنا العورة تقطع مصارينك!! لكن الصبي كان فاطراً، ولم يكن يخاف من الكلبة العوراء، كان يخاف الله، يستحي من الناس، الوالد بملامحه الحادة والشال الغباني الأصفر، الذي يحبكه على رأسه، كان يجد الحلول لهمومه كلها، يصحبه في العصاري، الى صرة المدينة حيث سوق العياشة، وباب المصري، وسوق الشروق، وأسواق الحبابة والتمر والطباخين هناك عند الفوال الحضرمي، يقف الوالد لشراء الفول في قدرة التوتياء، وحالما يأخذ حاجته الى الدكان وينادي على الفوال، طالباً نفر فول للصبي!! وعندما يحتج الصبي يقول الوالد بنصف ابتسامة: لأننا كبار لنا اليوم كله، ولأنكم صغار لكم نصفه، ورغم الشوق للفول والجلوس في المطعم، إلا ان في النفس مضغة، من تلك القسمة التي يقررها الوالد، قبل ان يعلن المدفع موعد إفطار الجميع بساعة أو ساعتين!! (2) من الغروب كانت تبدأ النفرة إلى السوق، يرتدي كل حي حلة الابتهاج وكأنهم يقولون: هذا أوان ابتلال العروق، لابد ان باعة الترمس والفول النابت والحلبة، قد بدأوا في تحضير بضاعتهم، لينطلقوا بها في الأزقة الضيقة، على رؤوسهم الحصون الخشبية الكبيرة، ووسط كل صحن مشعل موقد يتناهى دخانه الأسود في الآفاق الضيقة كلها، وربما يتخلل الفول والحلبة الملفوفة في قطعة شفافة من القماش. يتناهى إلينا خلف جدران الطين والرواشين، ذلك البائع وهو ينادي بصوته الأسر: فووول، والنافع الله يا حلبة!! نداء لا طعم له إلا في الليالي الرمضانية، حيث تنفتح شهوة البطون، فيقبل الرجال والنساء على لذائذ الطعام، الفول النابت والحلبة وشراب التوت، ولعل من أمتع المظاهر التي كان يرقبها الصبي بشوق كبير تلك المحلات المصطفة على مد البصر في ميدان باب المصري، محلات تفتح لأيام معدودات، ويكون الإقبال على معروضاتها كبيراً، بل عارماً فلا تقفل من زحمة العمل وتدفق الناس إلا عند انطلاق مدفع (الماء) وهو مدفع لم يسمع به إلا في المدينةالمنورة.. وضع لينبه الناس الى قرب الامساك، ليأخذ كل صائم نصيبه من الماء حتى لا يرهقه العطش في نهارات المدينة القائظة! يدور باعة البليلة والفول النابت والحلبة والحلاوة المطو، في الأزقة الضيقة، الغارقة في سواد الليل، يدورون ومعهم نداءاتهم الحادة، التي تخرج الأطفال من بيوتهم الطينية الواطئة، وكانت الفصول المدرسية قد أنهت حصصها على موعد لا تحيد عنه، بعضهم يشتري، بعضهم يبحث عن نصف القرش في الحارة أو صدر أمه دون جدوى، فلا يجد حينذاك غير القفز في الأزقة المتجاورة، هازجاً بأغنيات لا تنتهي، لا ضيق من الفقر أو الغني، كل ما يأتي مقسوم، ينصرف في أماكنه بهدوء وسكينة، لا أحد يحجر على القرش، لا أحد يحجر على الأطعمة، الذي يمتلك صندوقاً حديدياً الأعين كافة عليه، كلهم يعرفونه، لكأنه يمتلك قنبلة موقوتة في بيته، كانت القناعة ملح الناس وطعامهم، فلماذا النقود الزائدة؟ البيوت تلتم على بعضها، يجمعون إفطارهم، يتناولونه معاً، من لديه صدقة يريد توزيعها، لا يوزعها مالا، قد يلهب القلوب، لكنه يقيم وليمة كاملة، يقبل عليها الجميع، وتكثر في رمضان الولائم، والزيارات والأحاديث الحميمة، حتى إذا انتهت الصلوات يخلد الجميع إلى راحة هانئة، يوقظهم منها المسحراتي، وهو يدور بحمارته الهزيلة وفانوسه الصغير، كأنه قبس من الفضة، يضيء أمامه الطرقات المتعرجة، ومعه يستيقظون على النداءات الحميمة (اصحى يا نايم! وحد الدايم).