الفول، هو الوجبة الوحيدة التي يتحاشى ذكرها الجميع، ثم لا يجدون في صباحهم، ومسائهم، أفضل منها وجبة، خاصة وأن لها من الصفات، والمزايا، ما لا عد ولا حصر له.. وهو فوق ذلك وتحته زهيد الثمن، كامل الفائدة، نادر الرائحة، يؤكل ويوضب ويقدم في كل مكان وزمان. إنه الفول يا صديقي! في مواسم الصعلكة، كانت تنتهي جولتنا، بسيارة واحد منا، مع تباشير الفجر، هناك في نهاية سوق الندى حيث مفولة القرموشي، كان المحل صغيرا، وعاديا، ووجباته زهيدة الثمن، لكن من يأتي، بعد طلوع الشمس، لا فول له، عليه أن يبحث عن فوال آخر، إن نكهة الفول، الذي يخرج من تلك الجرة، و متماسكا، وفاتح اللون، مع السمن البري، والشطة المطحونة، لا شبيه له.. كنا، في كل مطلع فجر، نقف، أو نجلس، لنتناول صحن الفول، عندما زرت جدة، بعد ذلك لم أجد، ذلك الدكان الصغير الذي يصطف أمامه عشاق الفول، من بعد مطلع الفجر، حتى تنتهي الجرة، ويقفل الرجل دكانه..! أما في الواجهة الشمالية من سوق الندى، فقد كان هناك فوال آخر، لكن دكانه كان، غير شكل وبضاعته أيضا.. هذا الفوال، لديه نكهة الفول الشامي، أدخل إلى دكانه، عندما أرغب في التلوين، على نغمة الفول.. كانت الوجبة لديه، مرتفعة الثمن، تقفز من نصف ريال، إلى ريالين، دفعة واحدة، هذا المحل أيضا، افتقدته في إحدى زياراتي، لجدة القديمة!. هذه المحلات تجعلني أعود بالذاكرة إلى مرحلة الطفولة، يوم كنا نستقيظ قبل أذان الفجر، كنت حالما يبلج النور، آخذ قفة الفطور، وففيها القدر الصغير، وإناء السمن، ومن المنزل اتجه شمالا، حيث مفولة الصاوي، ليبدأ معه هذا الحوار، بعد أن أناوله قدر الفول، وإناء السمن: - هاه بكم تبغى فول؟ - بربع ريال! - ويش غيره! - حط على الفول شطة وكمون. - ويش غيره؟ - بس! هذا الحوار كان يديره الرجل العجوز، ينظاراته الحالكة السواد، مع كافة الزبائن، الذين يقفون أمامه! لم يكن لديه كراسي، أو عمال، أو ماء، كانت جرته على الجمر، وبجانبها صحون الملح، والكمون، والشطة الحمراء، وإناء السمن البري.. وحالما تنتهي الجرة، كان يغلق الدكان، ويذهب إلى البيت.. لينام، ثم يذهب الى السوق لشراء، حصة اليوم التالي من الفول والسمن والتوابل!!. وحين تمتد الخطى، في الشارع الممتد، بين بلاد الاغا، وحوش الأجاوزة، فإن هناك دكان العم حسن، وهو أكبر، وأشمل من دكان الصاوي، فهناك مقاعد، للعمال الذين يتناولون إفطارهم، قبل الذهاب إلى أعماله. لكن عامة باعة الفول، كانوا يضبون جرارهم، ويذهبون إلى البيت، حتى صباح اليوم التالي، ولم يكن في المدينة بائع واحد، يبيع الفول في غير الصباح، ففي المساء، هناك وجبات أخرى. باعة الفول التقليديون في الحجاز، كانوا يعرضون في جرارهم، نوعا واحداً من الفول، وكان لكل فوال نكهة، فبالإضافة إلى من ذكرت، كان في سوق العياشة العم العمودي، والعم حبحب، وغيرهما من البائعين، ولأنني أكلت الفول، عندما كنت صغيرا لديهم، فإن اسميهما لا يزالان راسخان، في نفسي، بل إن لي علاقة جيدة، ببعض أبنائهما وأحفادهما، عندما كنت أجلس في دكان لنا، بسوق العياشة، أسلى نفسي، بجمع الطوابع، والمراسلة، وقراءة مجلات سمير وميكي والسندباد، وفي الصباح الباكر، أذهب أحينا، وقبل الذهاب إلى المدرسة، إلى محل العمودي لتناول وجبة الفول.. ورغم حبي المبكر لباعة الفول، فإنني أتساءل، لماذ كافة الباعة المشهورون، كانوا يتميزون بعصبية واضحة، لقد لاحظت هذا أولا، لدى الصاوي ثم العم حسن وبعده العم العمودي، رحمهم الله جميعا، فقد كانوا صناعا من الدرجة الأولى، وكانت العفة والزهد من طباعهم، فلم يدفعهم الإقبال، على ما يبيعون، لتوسيع الدكان، أو الاستمرار في البيع، أو وضع أكثر من جرة، كان مقياسهم واحدا، وكان ما يقدمونه على درجة واحدة من الجودة، ما جعل الإقبال على ما يعرضونه كبيراً. لكن ما هو في المدينة شيء، وما هو في الخارج، أو في المطاعم، التي يديرها أبناء مصر، والشام، والسودان، واليمن، شيء آخر، فلون الفول وشكله، قد يختلف قليلا، وربما جذريا، فهناك يخضع الفول لتلوينات، لا حصر لها، ولا عد، فهو يعد بالسمن البري، الزيت، الزبدة، ويضاف إليه: الدقة، البيض، الحمص، البصل، التتبيلة، وهناك االفول المطحون، الفول ذي الحبوب الكبيرة، فول فاتح اللون، غامق اللون.. وهكذا أصبح الفول، يخضع للعديد، من الاجتهادات، ليقبل عليه، فقراء الناس، وأغنياؤهم، ولم يعد كما كان سابقا، غذاء لعامة الناس فقط! بل إن الفول قد أصبح في كل مكان، ويباع في جميع الأوقات، ولم يعد يعرض في محل صغير، أو يقوم عليه بائع، أو صانع واحد، اصبح من يحظى فوله، بإقبال الناس، يفتح له فروعا، في كل مكان، وقد يدخل في هذه الفروع، الى جانب الفول: المطبق، الفلافل، المعصوب، وربما أضاف إليها، خدمة التوصيل للمنازل.. حتى الفنادق الكبيرة، أصبحت تضع في مطاعمها جرة للفول، للأغنياء، ولذوي الحيثية، الذين يتحرجون، من الجلوس، في المحلات العامة، لتناول وجبة الفول!. ورغم تغير الفول، وغياب صناعة المهرة، إلا أن الناس، مازالوا يشكلون الطوابير، أمام محلات الفول، من العصر، وحتى اقتراب موعد الإفطار، في رمضان، أما في الأيام العادية، فإن هواة الفول، لم يعودوا على قلق من انتهائه، فالعرض بات مستمراً، من الصباح الباكر، حتى الضحى، ومن الغروب، حتى منتصف الليل، وربما بعده.. فقد ولى زمن القناعة، الزمن الذي يتفاخر فيه الفوال، بأن محله ليس له فروع أخرى، فمن لا يجده، عليه الانتظار، لليوم التالي!.