لا غضاضة في القول ان الفقر مشكلة اجتماعية فمن مسبباتها ضعف في كفاءة الإنتاج لضعف القوى البشرية القادرة على المشاركة مع الدولة في سد الاحتياجات الأساسية لأفراد المجتمع، الأمر الذي ينتج عنه الإخفاق الاقتصادي وتراكم المشكلات المصاحبة، الصحية، والعملية، والاقتصادية، والسياسية، والثقافية. ولذا فإن محاولة التصدي لهذه المشكلة -أو لجانب من جوانبها- ينبغي أن يكون بدراسات واقعية عن مسبباتها لإمكانية التعامل مع هذه المسببات وإيجاد السبل العلاجية المناسبة وفقاً لمنهج إجرائي وحسب الظروف الاجتماعية والاقتصادية وأيضاً الثقافية التي تسود المجتمع. وتبدأ مشكلة الفقر من إحساس الفرد بعدم الاستطاعة على الوفاء بالحاجات الأساسية (مأكل، مشرب، ملبس، إيواء)، وعدم توافر هذه الحاجات يعنى النيل من حياة الفرد وسعادته وأمنه، وسائر سبل العيش. وكون أن الفقر مشكلة فهو يمس الإحساس بالغبن والحرمان والسقم البدني والسلوكي والتخلف والجهل، من هذا القبيل صار الفقر مشكلة تتضمن تلك العلل المذكورة على المستوى الفردي وأيضا المجتمعي حيث تأثيرها السالب على مناهج التنمية، ومرتكزات التماسك الاجتماعي مما يحيل المجتمع إلى ميدانٍ للصراع من أجل الحياة، ومن أجل قهر التخلف، ومن أجل توافر إمكانات التصدي للتخلف على كافة الأصعدة. وحيث إن الفقر يمثل واقعاً بائساً للفرد والمجتمع معاً فابعاده كل منها يمثل حالة ويمكن معالجة كل منها على حدة مثل عدم توفر ما أطلقنا عليه آنفاً بالحاجات الأساسية المادية والمعنوية لأنه ذو أثر ضاغط على وجدانات الشخص. إذن الفقر يمثل معاناة ويدفع إلى عدم الإحساس بالأمن النفسي والاجتماعي. ويقول عنه الأنثروبولجي (أوسكار لويس) وهو الذي يستخدم مصطلح (ثقافة الفقر) بمعنى الجمع بين الحرمان المادي والتفكك الأسري الناتج عن العوز المادي وفقدان الاتزان النفسي، ومن ثم التصدع النفسي الاجتماعي بهذا المفهوم لثقافة الفقر فهو يمثل العلاقة الجدلية بين الفرد والمجتمع، وبين الفرد وتوقعه المستقبلي لأمور حياته وحياة أبنائه من بعد. ويقول (إليوت) عند عرضه لإيكولوجيا الثقافات إن ثقافة هذا شأنها يتعلق بالحاجات الأساسية عند مقابلتها بالإمكانات المتاحة محلياً، وحري بنا ألا نفصل عناصرها بعضها عن بعضٍ وإلا نكون قد خالفنا المعقول ونكون قد فصلنا بين الاتجاه العقدي والسلوك الدائر في فلكه، فالثقافة اتجاه، والفقر سلوك، والاختلاف بينهما مدخل صراعي، وحدته تؤدي الى عموم الإثارة وتخلق قوة انفعالية لا تعلم ما تفعله بالضبط مما يجعله مستحيلا الهيمنة عليه. ويقول عبدالرحمن بن سعد ما معناه ان ثقافة الفقر تجسد واقعاً يائساً أهم خصائصه: انخفاض المستوى المعيشي وما يستتبعه من جوعٍ وعري وأمية وجهل ومرض، واضطراب الحياة الاجتماعية وتعاظم اللاوعي والمعاناة وتفشي البطالة خاصة في القوى القادرة على العمل والتشغيل، خاصة بطالة المتعلمين وهذا ما توضحه تقارير التنمية البشرية للأمم المتحدة. ويقول حامد عمّار إن ثمة عولمة ثقافية تجاوزت حدود أي دولة وانقضاضها على الخصوصية الثقافية بفعل هيمنة القطب الواحد وفرض ثقافة العولمة التي هي ثقافة الرأسمالية وما تفرضه من طبقات دنيا ووسطى وعليا، والطبقات الدنيا هي التي يتشكل منها ثقافة الفقر وما تفرضه من تزييف وعي الطبقتين الأخريين الوسطى والعليا وفرض خضوعها لنتاج برامج ووسائل الاتصالات والمعارف الحديثة، ومن هذا النتاج تخلخل مقومات التماسك الاجتماعي، والدخول في حومة الصراع بين الأجيال، وتشعره في مقومات الثقافة الوطنية الخاصة، وظهور ثقافة العوز المادي والنفسي والاجتماعي، وتفسخ القيم المكتسبة من الدين كقوة دافعة للنهوض بالمجتمع. وتعود ل(أوسكار لويس) حيث يشير إلى ثقافة الفقر باعتبارها تنهض على العديد من العوامل المسببة بل والمهيئة كذلك منها عوامل اقتصادية في المحل الأول يليها عوامل اجتماعية نتيجة تفاعل الفرد مع مجتمعه ويليها عوامل نفسية تتعلق بتوافق الفرد مع نفسه ومع مجتمعه اجتماعياً ونفسياً، هذه العوامل ليست منفصلة ولكنها متداخلة، وتحت مظلة هذا المناخ يخضع الفرد في علاقته مع أسرته بالتدني وضياع قيمة التفاعل السوي، وعدم المشاركة في مناشط المجتمع لما يعانيه الفرد المنخرط في هذه الثقافة من الاستهتار واللامبالاة والسلبية والنظرة المتدنية للحياة وللدور وللمكانة تجاه الواقع المعاش وتجاه المستقبل كذلك. وإزاء تلك العوامل وذاك المناخ يتأتى سلوك الفرد وتتأثر حياته اليومية وإن كان بنسبٍ مختلفة حيث إنها تؤثر تأثيراً فاعلاً في جوانب حياته المختلفة وما يلم بها من صعوبات أو مشكلات ملازمة. هذه بعض الرؤى في مفهوم ثقافة الفقر وبعض الأعراض السلوكية الملازمة سلبية - ولا مبالاة واللامسئولية والإحساس بالدونية والاستهتار، والجمود إزاء الموقف والتبلد تجاه الغير. ونحن إزاء ذلك كله في محيط الأمان السلوكي نظراً لما لدينا من مخزون عقائدي إيماني ووجداني وفكري، ولما تقوم به قيادتنا الكريمة من توجيهات وتعليمات للتعديل ومعالجة عوامل ثقافة الفقر والله المستعان.