و(القصيمي) حين يتخذ من (المتنبي) سلماً موهماً نفسه أنه يَصَّعد في السماء، وهو في الحقيقة ينحدر إلى درك رؤيته في قومه، يظن كل الظن أن متطلبات الشاعرية من مبالغة وانزياح ومجاز وإيجاز وتفنن في تفتيق المعاني سنة عربية وخصوصية لا يُشاركهم فيها شعراء اللغات والحضارات الأخرى. ثم هو يزداد ارتكاساً في حمأة الرَّذيلة، حين يعتقد أن (المتنبي) ومن هم على سننه من الشعراء المغرقين في المبالغة والتملق يمثلون حضارة الأمة العربية في المواقف والالتزامات والأخلاقيات. وفات هذا الدعي أن الله وصف الشعراء بأوصاف تسقط حجته، وأنه جل وعلا استثنى آخرين غفل عنهم (القصيمي)، وتلك خليقة الممتلئين حقداً وضغينة على أمتهم، وهي حرفة المجندين لهدم الحضارات التي تملك القدرة على الصراع بندية واقتدار. ولقد نعلم أن هناك من سيعذر له، وذلك باستدعاء عشرات الأدباء والعلماء الذين شنعوا على المتنبي، وتقصوا عيوبه، وذكروا جانباً مما ذكره (القصيمي) ممن عاصروه، أو ممن جاؤوا من بعده، وإذ لا نجد بداً من الموافقة على ذلك وتصديق ما يقولون، إلا أن الفرق بين (القصيمي) ومن سبقه واسع، ف(القصيمي) هجَّاء مقذع، ومعمم لا يستثني، ثم إنه جعل المتنبي مثلاً أعلى لأخلاقيات الأمة، كما أنه لا يعد دارساً يشتغل بالشاهد ولا ناقداً يفكك النص، وتلك السمات البينة العوار تلحقه بالمهرجين، وإذ نسلم بقدرة (القصيمي) ومبلغه من العلم فإننا نحيل موقفنا إلى هواه الذي اتخذه (إلاها). وإذا كان (القصيمي) يحيل بحملته على (المتنبي) إلى أهداف بعيدة الغور فإن طائفة ممن ترسم خطاه من شعراء أو كتاب قد لا يحمل جلهم هذه الأهداف، ولكنهم حين قرأوا ما قاله القصيمي شدتهم حيله، واستهوتهم براعته في تقليب اللغة، ولما كانوا يحبون أن يعيشوا كما (الحوات) أو (الحكواتيين) وجدوا في العمالقة صيداً ثميناً، لا لذواتهم، ولكن لأن كل فضاءاتهم القولية والفعلية مرتع خصب للقول ونقيضه. ولربما كان (المتنبي) واحداً من أولئك الذين خاض الفضوليون في عوالمهم اللغوية والدلالية والفنية إذ يتوفر كغيره من العمالقة على فضاءات لغوية واسعة وابتكارات فنية رائعة وتشقيق بديع للمعاني، تمكن الدارسين والنقاد من التوفر على شرعية التناقض. وإذ كان (المتنبي) حاضر المشاهد الأدبية فقد يكون الاشتغال به سبيلاً للحضور، والإيغال في ذمِّه طريقاً قاصداً للشهرة، فكل قارىء أو سامع يسأل عن هذا الذي أسرف في النيل من شاعر بحجم (المتنبي). وإذا كانت طائفة تمعن في النيل منه فإن طوائف أخرى تدعي حبه، وتردد حكمه ونوادره في كل مناسبة، وذلك لعمر الله من أسرار عظمة المتنبي، وأين نحن من حكاية (الصاحب بن عباد) وشاهد (طوى الجزيرة...). ولا يضير (المتنبي) ما فرط من قول لا تحكمه ضوابط، ولا تحده قيم ممن خلف، وهو قد بشم من تعديات السلف ومن كيد الحاسدين، وهو قد ناشد ممدوحه بإزالة حسد الحاسدين بكبتهم، ولما لم يكبتهم سيف الدولة فقد اضطر إلى مبارحته ولما تزل سياطه تلهب كل ظهر، وتكشف عوار كل دعي،:- وإذا أتتك مذمتي من ناقص فهي الشاهدة لي بأني كامل ولو كانت ذوائق الناقمين سليمة لما كان لأحد منهم أن يعمم النيل منه، ولا أن يأخذه من أقطاره، ولو أن الناقمين تأملوا حكمه وأمثاله وتوظيفه لتجاربه وتجسيده لمواقفه لما أنحوا باللائمة عليه، ولو أنهم عرفوا الظروف العصيبة التي مر بها، والتحدي السافر الذي غالبه، والكيد الماكر الذي ناله من حساده لكانوا معه في السراء والضراء. لقد جسد معاناته، ونافح عن نفسه، ولكن الحساد اضطروه إلى الرحيل حتى قال ل(سيف الدولة):- إذا ترحلت عن قوم وقد قدروا ألا تفارقهم فالراحلون هم ولقد عايش أعداءه، وجاملهم وجسَّد معاناته معهم بقوله:- ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى عدوَّا له ما من صداقته بد وقوله: واحتمال الأذى ورؤية جانبه غذاء تضوى به الأجسام ويكفي المتنبي أن يكون شعره تجسيداً لسيرته الذاتية، حتى لقد استأثرت مفاخره بنفسه على مدائحه و(القصيمي) الذي استحوذ على شطر من خلواتنا الدمشقية استدعى (المتنبي) لأنه من شوامخ الشعراء، وإسقاط الأمة يكون بإسقاط شوامخها. لقد تناوله على مدى مئة صفحة، من كتابه (العرب ظاهرة صوتية) واتخذ سبيله إلى تلك اللغة الثرية بمترادفاتها، حتى لقد تقصى قاموس الشتائم، وليس بمستغرب من مثله ما يقول، وهو قد فعل مع (خالقه) ما هو أسف في كتابه (الكون يحاكم الإله)، وإذا عاب على (المتنبي) هجاءه المقذع، فقد سبقه إلى ذلك، بل أكاد أجزم بأنه بذَّ كل الهجائين المتفحشين. وتلك لعمر الله غاية العار والشنار. ولأنه مأخوذ بالإعجاب برأيه فقد رثى في مستهل حديثه ل(السوق العربية) التي ترادف في الدراسات الحديثة (المشاهد): الفكرية والسياسية والدينية والأدبية. فالداخل فيها عنده يستحق الرثاء، متى فهم أنها لا تميز الموهوبين في أي قطاع معرفي، فلكونها نبذته، وهو في نظر عينه عبقري موهوب، فإنها لا تفهم الفرق بين (النبي) و(القائد), و(الزعيم) الصادق ونقيضه. وحين لا تفهم، فإنها لا تختار الجيد، ولا تحترم الشيء، لأنها لا تفهمه. ولأنه مكثار مهذار، فقد قلَّب القول على كل وجوهه، والقارىء الذي يحترم جهده ووقته تتنازعه رغبات متعددة: رغبة حفظ الوقت والجهد، ورغبة الوقوف على كل الخطابات الصاخبة التي شغلت المشاهد، واستهوت السذج والفارغين. وتلك معادلة صعبة. والقدر حين يلقيك على هذه المدارج، يخرج بك عن فضاء السيطرة والتحكم الذاتي، فأنت في هذه الحالة محكوم بتقلبات الأجواء، وتحولات الآراء، وتنوعات الأفكار، تعاضد، أو تخذّل، أو تتوقف، والناس من حولك لا يعذرون، لأنهم لا يعانون ما يعانيه المتابع من نزيف وقتي وجهدي، مع ما يخشاه المتقحم لهذه الأفكار على نفسه من تلوث فكري. فالدخول في عوالم المنحرفين كالدخول في البيئات الموبوءة، لا ينجو منها إلا من يملك المناعة وقليل ما هم. و(القصيمي) حين يتوهم أنه يحكم السيطرة على هذه (السوق العربية)، ويؤكد عدم فهمها، يبدأ في طرح الأسئلة التي يتنازعها التحسر والتوبيخ على سنن البلاغيين في أنواع الاستفهام، طالباً تفسيراً منطقياً للتقديس أو للتدنيس. إذ يتساءل عن التفسير الحقيقي لتتويج نبي أو معلم أو شاعر أو كتاب، وتحويله إلى مجد يهتف له التاريخ بكل الصراخ والجنون والنزق والغرور الوقح البليد - على حد تعبيره - وإمعاناً منه في جلد المشاهد العربية ينفي حتى احتمال التفسير، وكل استهلالاته التجريحية للمشاهد العربية مقدمة للحديث عن المتنبي. وما حديثه عنه إلا إسقاط ذاتي، فالقصيمي لم يكن مقبولاً من كل الأوساط، وإن كان قدوة سيئة للتافهين من كل الأوساط، فالذين يتسللون في العتمات لقراءة كتبه، لا يسرقون، ولكنهم يختلسون، وفرق كبير بين الاختلاس والسرقة. ف(المتنبي) في نظره تعظمه سوق الشعر والأدب العربي، حتى لقد أصبح قيصراً. وهنا يتساءل: لماذا؟ وبعد هذا الامتعاض والتحسر تنهمر التساؤلات عن عظمة المتنبي وشاعريته وعلى مدى صفحة أو أكثر ساق من التساؤلات ما لا يحتاج إلى مزيد.. ومن تساؤلاته المتوترة قوله: هل كان المتنبي شجاعاً أو قومياً أو إنساناً؟ هل صلب أو عذب أو طورد أو نفي أو سجن أو جاع مدافعاً عن حرية قومه وكرامته وعزتهم؟ ويمضي في تنازع مرتفع النبرة حاد العبارة مع هذه السوق التي نبذته كما سقط المتاع، واحتفت بشاعر كالمتنبي. ودعني اقتطع لك سطرين من حملته، لتكون على بينة من أسلوبه وطرائق عرضه، يقول: (إن كلمات وصولي وانتهازي منافق متقلب متلون فضاح مفضوح بلا كرامة بلا حياء بلا مبدأ بلا ضمير بلا أخلاق إن جميع هذه الكلمات وأمثالها لا تستطيع أن تكون زياً أو وصفاً كافياً لحياة المتنبي). بهذا الأسلوب وبهذا التقصي القاموسي يكون حديثه عن المتنبي وعن غيره من الشخصيات والقضايا والأفكار. رجل حاقد، مليء بالانكسارات، يلاحقه شبح التشرد منذ أن كان طفلاً يبحث عن أبيه. وحين نمقت القصيمي، ونمقت المعذرين، فإننا ندافع عن حق أذن لنا أن ندافع عنه، فهذه حضارتنا، وهذا تراثنا، وتلك شخصياتنا، ومن لم يذد عن مثمناته فإنها تهدم وتدنس، (ومن لا يتق الشتم يشْتم) واتقاء الشتم ذو شقين: - التعدي. - والتوقي. فالمتعدي على الآخرين بالشتم يعاقب بمثل ما عاقب به، والله قد نهى المؤمنين عن أن يسبوا معبودات الآخرين، خشية أن يسبوا الله عدواً بغير علم. والتوقي يعني إعداد القوة لمواجهة الآخر في الوقت المناسب، أي إعداد العدة {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ}، {وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً}، ويعني اتقاء الملاعن كما في الأثر، فالذي لا يرد يد لامس، تتداعى عليه الأيدي، والذي لا يعد القوة يطمع به من لا يدفع عن نفسه، والذي يتعرض للناس يصدونه بما يخيفه، ولهذا فنحن مكرهون على التصدي، ولو تُركنا وشأننا لما كان منا أن نتحرش بأحد ولو كانت ممارسة النقد منضبطة بضوابطها الفنية والدلالية والأخلاقية لما كان في ذلك من بأس، إذ لسنا مع التسامي فوق المساءلة والنقد. والذين يستدعون الشخصيات العلمية أو الأدبية، ثم يحاكمونها بأعراف الواقع ومسلماته، وينسون أو يتناسون الأنساق الثقافية التي عاشها أولئك العلماء والأدباء والشعراء يوغلون في الأذية. فشاعر اليوم يختلف نسقه الثقافي عن شاعر القرون الخوالي، ووظيفة الشعر في عصور الازدهار تختلف عن وظائفه في العصر الحديث، ومحاكمة المفكر أو الشاعر خارج انساقه وسياقاته تعدٍّ على ضوابط الأخلاق. والمتنبي لم يستبد بشيء، ولم يستقل بأنساقه وسياقاته، ولكنه حورب وطورد وكثر حساده، وهذا الحيف دفعه إلى التعاظم، حتى جاءت قصائد المدح عنده مغايرة لما عرف من قبل، فكان أزهد الناس بالمقدمات الغزلية أو الطللية أو الخمرية، وأكثر الشعراء تعظيماً لنفسه، وأكثر الشعراء إعجاباً بشعره، وهذه الخصال الصارمة استعدت عليه الناس، وجعلته مشرداً يلتمس الأمان حتى قتل بسبب شعره، ولو أن القصيمي فكك شعره، والتمس عيوبه: اللغوية والفنية والدلالية، ونظر إليه من خلال عوالمه، لكان ما قال فيه إضافة لها وزنها، غير أنه لم يفعل، وتلك خليقة فيه، لا يعرفها إلا الذين يأخذونه من أقطاره، ولقد تلبس بهذه الأخلاق من لا خلاق له، فكان القصيمي قدوة سيئة لمن سلك طريقه، وما كنا معاتبين لناقد حتى يتحول بغثائيته إلى حاسد لمن آتاهم الله من فضله.