والشاعر كما أشرت ذو أذن موسيقية لا تكاد تحيد عما كانت عليه القصيدة العربية ولا عما كان عليه الشاعر العربي، فهو متمسك حتى الثمالة بالوحدة الموسيقية، وهو قادر على ان يوفر لقصيدته الايقاع الصاخب والنبرة الحادة، ولكنه يكاد بطوعه واختياره يحيد عن هذه الجمالية الصوتية، بحيث يميل كل الميل إلى أولئك الذين يظنون ان الشعر التفعيلي أهون صياغة من الشعر العروضي وأفضل منه، والشاعر بخروجه على طبيعته قد يتصور ان التجديد في مجرد التغيير الشكلي، وتلك موجة ركبها المخفون، والتجديد شيء آخر لا يكون في العدول من شعر الشطر إلى شعر السطر، أو من العمودية بكل مقتضياتها الشكلية والبنائية والجمالية إلى جنس ثالث ليس هو من النثر ولا من الشعر كما يصفه نزار قباني، التجديد الحقيقي مجموعة تخطيات متعددة واعية للثابت والمتحول يكون الوزن مفردة ثانوية فيها، ولهذا نجد الشاعر المتعمل لهذا التجديد في محاولته العروضية التفعيلية لا يختلف عنها فيما سوى ذلك، انه المحافظ عروضياً في حالة الشطر أو السطر، وحين يأخذ بحجز أولئك المتمردين على الشكل القديم لا يقدم لك عملاً جيداً، قد يتوفر على رتابة تفعيلية، ولكن الأمر لا ينتهي عند القدرة على ذلك، إن شعر التفعيلة عصي لدود، والذين استطاعوا ان يركبوه من أمثال عبدالصبور والبياتي وأمل دنقل ودرويش وحجازي جاءوا بما لم تستطعه الأوائل، لأنهم شعراء بحق ولأنهم ذوو قضايا تلح عليهم حتى تمضهم فيتآزر الموقف والاقتدار واتقان الشكل لينتج عن ذلك شعر استثنائي نلتذ به ونكره مضامينه في كثير من الأحوال، ومن ظن من التجريبيين ان البناء التفعيلي أيسر من البناء العمودي فقد وهم، والشاعر اسامة في تجاربه دون ما كنا نأمل.. وظاهرة التجريب في أنواع الفنون حوَّل معظم التجريبيين إلى تخريبيين، وما كان نصيبهم من التوفيق كتجريب العلميين، فالعلم يقوم على التجريب، والفن يقوم على التطور والتجديد ودركات التجريب الموسيقي بلغ قعر النثرية. ان انتاج قصيدة عصماء على شاكلة الشعر التفعيلي تحتاج إلى قدر متميز من الموهبة واقتدار استثنائي واستعداد واستيعاب لهذه التجربة، ولما لم يكن شعر التفعيلة عند اسامة بالمستوى الذي ننشده.. وإذ لا يكون الشاعر مأخوذاً بإمكانياته الشعرية فإنه بلا شك مأخوذ باستعداده فهو متعمل وليس عاملاً ومساير وليس متبنياً، ولعل الشاعر يذكر اخفاقات العمالقة من الشعراء في القديم والحديث حين يحيد أحدهم عما كان عليه من قبل، ولهذا مني كثير من الشعراء بالاخفاق على الرغم من النجاحات التي حققوها في الشعر الموزون المقفى، وأسامة في محاولاته من أولئك الذين لم يحالفهم الحظ وما على المتردد إلا ان يقرأ بعض قصائده التي تعمد الخروج بها عما كانت عليه القصيدة العمودية انك واجد بلا شك هنات لا تقبلها ممن هو دون اسامة، فكيف بها تأتي من اسامة، قد يقول بعض الخليين: ما لك ومال هذا الشاعر، لقد مارس حقه، ونوَّع في شكل قصيدته، وهو حر في ذلك، وما من أحد يملك حق الأطر والتحبيس على الآخرين، وهذا دفاع مشروع، وموقفنا لا يفرض المنع من المحاولات، وانما يخطئ الذين اختاروا غير طريق الاجادة.. وأسامة من أولئك الذين استهوتهم تلك البوارق فخرجوا، حتى كاد بخروجه يتشظى ويفقد ألقه. إن قصائده التفعيلية دون المستوى المأمول، فيها انطفاء وانقطاع ونهايات غير متوقعة، والمتابع للشعر الفصيح يدرك ان الموسيقى عروضية بيتية أو عروضية تفعيلية تمثل أشواطاً زمانية مقدرة، لا يملك تقديرها إلا الموهوبون من الشعراء ولا يدرك براعة هذا التقدير إلا المتذوقون من النقاد، أما الدهماء الذين يفقدون الحس والذائقة والخبرة لا يملكون إلا جرأة التقحم فهؤلاء لا يعول على آرائهم ولا يؤخد بأحكامهم، وهم بما يفعلون كالعصي التي توضع في العجلات العابرة. واخفاق اسامة في الشعر التفعيلي مؤلم لمحبيه وعشاق صلصلته، لأنه من نقص القادرين على التمام، واقرؤوا شعره التفعيلي من «ص129 إلى ص166» انكم ستجدون شعراً دون المستوى المأمول، والتقصير في جنب التفعيلي باد بوضوح في «عتابه» برقميه الأول والثاني ص172، وحين نتجاوز إشكاليات الدلالة والوزن نقف عند اشكالية اللغة في شقها الصياغي، والبنية الشكلية صنو البنية الدلالية، ولو اننا استعنا بما جد من مذاهب نقدية لسانية في تفكيك البنية اللغوية او توصيفها على ضوء مكوناتها الثلاثية: التركيب، والدلالة، والصوت، لوجدنا اننا أمام سمات تلح في استحضار الشاعر، فالتركيب يكاد يفقد الانزياح والتركيز والتكثيف، وهو في بعض تجلياته يوفر نوعية استثنائية تبهرك ببراعتها، غير انها تمر بك كالطيف او كالحلم، بحيث تعيدك إلى ما ليس بمبهر ولا مثير، إذ انه مع ندرتها تضيع فيما هو طاغ من تراكيب شائعة يتداولها الناس، تجد هذا الانبهار متجلياً مثلاً في المقطع الأول من قصيدة «ضاع الهوى» ص9، وانت تجد ذلك في بكائيته على اليمن «تسألني» في قوله: «من جعل اليمن تفر من اليمن» ص11، ولكنك تعود مع حليمة إلى عادتها القديمة في كثير من النصوص، ومع هذا فإن المكون الصوتي المتولد من التراكيب يكاد يكون سمة من سمات الشاعر وقد اكثرنا الحديث عنه، ولقد تساءلت وأنا أقرأ بعض قصائد الديوان: كيف يمكن ان نراوح بين التركيب والصوت؟. وحين نجد العلاقة العضوية بينهما لا نجدها تمتد بحيث تكون في مستوى قيمي متماثل، ذلك ان صفاء الصوت ووحدة نبرته تتواشجان مع موصوف آخر ليس بذي ارتباط بالمكونات الثلاثة، ذلك هو «العروض الشعري» وهنا ننفلت من التفكيك اللغوي إلى المقادير الصوتية، وندخل في التماس العلائق بين التركيب اللغوي، والبناء العروضي، والصوت الصرفي، والتركيب والبناء يستنبطان بناء الكلمة، وبهذا نكون في العملية الشعرية أمام أبنية ثلاثة كما الظلمات الثلاث، والشاعر المتقن لمتطلبات الأبنية يمنح الناقد بعض الفضاءات كي يمارس التوصيف، وليس من المحتمل ان نبيح لأنفسنا استقصاء تلك العلائق وإمكانيات الشاعر، إذ لا أجد الوقت والجهد والإمكانيات متوفرة للمضي في تلك المهايع، ومع هذا أود التمكن من اغراء الدارسين لتلقي الخيط ومحاولة اكتشاف القيم الفنية من خلال العلائق والأبنية، والدارس المتمكن لو وضع يده على قصيدة مثل «أشجان» ص169 لاستجابت اخلافها لآليات النقد الحديث، ولخرج منها بأشياء كثيرة تعوض الشاعر من هذه القسوة التي تعمدناها، وذلك اللوم الذي أحسسنا بايغالنا فيه، وان كانت القصيدة موضوعياً على الأقل استعادة لتذمر المتنبي من الزمان، ولعلنا نذكر بيته الرائع: أود من الأيام ما لا توده وأشكو إليها بيننا وهي جنده وشاعرنا يقول: شحذ الزمان سهامه ورماني فعلام ناصبني العداء زماني حتى وإن كانت القافية طيعة سخية يركن إليها النظامون، ولعلنا نذكر «نونيات» كثيرة لا تحصى، ولكنه مع هذا جاء بأشياء ممتعة ولذيذة، وفيها شفاء لصدور كليمة، وقد تعمدت عدم الاستشهاد لأحفز القارئ على البحث عن اعمال الشاعر والاشتباك مع شعره الذي غفل عنه البعض، والشاعر حين يتعالق مع معاناة المتنبي وشكايته لا يتناص معه في بنائه ولا في شيء يتجاوز الشكاية من الزمان، والشاعر صادق في معاناته لا يفتعل ولا يتعمل لأنه يحمل هموم أمته، ولأنه مثالي وشقي بعقله، والعقلاء يشقون في النعيم فيم ينعم أخ الجهالة بالشقاء وتلك سنة الله في خلقه، وكم قيل: «ويل للشجي من الخلي»، وحري بهذا الصدق الذي يعتمل في اعماق الشاعر ان يستل سخائم النقاد بالانزياح واستثنائية الصياغة. وكما بدأنا اول الحديث نعيده، وكأن عدوى التكرار قد اصابتنا منه في الصميم والعودة إلى خارج الغلاف، لنكمل الحديث عن العنوان، ولنستعيد ما كنا قد بدأناه، فالشاعر في عنوانه الصاخب صخب شعره، يجعل الوطن منفياً بلا منفى، وهذا امعان في التشرد والضياع، إذ كيف يتحقق النفي دون منفى، وأحسبه استلهام من قوله تعالى «أو ينفوا من الأرض» فهل يعني النفي القتل او السجن والمسجون والمقتول لم يبرحا الأرض، فكيف يتحقق النفي من الأرض؟ وكيف يتحقق النفي ولا منفى؟ وتساؤلي ليس اعتراضاً، فالعدول مطلب رئيس وقد تحقق في العنوان، ومع ان هناك وطناً ونفياً، فإنه في الأشواط الدلالية داخل إطار هذا العنوان لا يتحدث عن الوطن ولا عن قضاياه وإنما يتحدث عن الحب والوله، يخاطب المرأة ويطيل الحديث عن مفاتنها وأخلاقها ومطالها وما تثيره من كوامن الشوق والتوله، وهو على عادته يلح في التفصيل حتى يقتل في نفسك كل شيء، وحتى لا يدع في نفسك شيئاً من التأمل أو التطلع، ولعلك تقرأ معي تلك القصيدة التي استهل بها المحور الدلالي «عندما يبحث الوطن عن منفى» ص77 تطالعك قصيدة «لا تغرقي» وهي قصيدة جدلية ملحة في الجدل يستهلها بوابل من النواهي والأوامر، وقد تجد من النقاد من يقول : إن لهذه القصيدة ظاهراً وباطناً، وإنها ليست حديث واله شبق، إنها قصيدة غارقة في الرمز «الليل، والسهول، والروضة، والأشجان، والجنان، والكون، والنهر، والشواطئ، والبحر، والأفق، والنجم، والبركان» كل كلمة تتسع لأكثر من دلالة وتصلح ان تكون رمزاً موحياً او قناعاً يخفي الشاعر وراءه أشياء ليست من الغزل وليست من الحب. والنقاد قادرون على قلب الحقائق متى كان النص ذا فضاءات واسعة واحتمالات واسعة واحتمالات متعددة، وقد تكون القصيدة متسعة لشيء من ذلك على سبيل الرمز أو القناع، ولكنني أختلف مع اولئك الذين يبعدون النجعة ، ويرون في مثل هذا الشعر ما لا نراه، الشعر عند اسامة وفي هذه القصيدة بالذات ذاتي غارق الذاتية، والقصيدة غزلية لا تتجاوز الغزل إلى ما سواه، وإذا كان الشاعر يرمز إلى غير ذلك، فإنه لم يتقن آلية الرمز، ولم يقدر على بعث رسائله المبطنة، وللناقد المؤازر للشاعر ان يقول ما شاء، ولكنه قول لا يعضده دليل، والشعراء منذ الجاهلية الأولى يودون طول الليل، وهو لكي يكسر الرتابة والنمطية حمله على السفر بين جفني نجمة ونجمة وعلى ان يحلق على غمامة لم تمطر، فما الليل إلا وعاء للهموم، وهذا تخيل مغرق لا يكون من الانزياح اللغوي ولا يكون من المفارقة ولا يكون من العدول عن النمطية في الابداع الشعري. والشاعر نسي الوعائية الزمانية فقلب المعادلة ومضى ضد التيار بحيث جعل الليل أم القضايا، فهو الممتد وهو الرافض والمسافر والمحلق والسابح وغير المرتاح، وهو راسم القبلات والناهل، لقد نسي المحبوبة ونسي نفسه، وخلى بين المحبوبة والليل، فهو الذي يقبلها، وهو الذي ينهل أعذب الأشذاء. وهو الذي في آفاقه تنساب الأشذاء انسياب الجداول، والليل يطول، ويطول الحديث عنه ويتحول إلى بحر يمشي المحبان على ضفافه، ويصير بحراً فيغوص المحبان فى أعماقه، وتعود الأشذاء من جديد، ومع هذا قد يقول: بأنني اتحدث عن «اللقاء الأول» وهذا احتمال ضعيف لا يسنده سياق ولا تحميه لغة، وعلى غير طرائقه تأتي قصيدة «ابن سينا» والقصيدة ترافع بعنف ضد «النفس» وللنفس عند ابن سينا رؤية محفوفة بالمخاطر والمحاذير، والشاعر يضرب قوله بقول ابن سينا وبقول إيليا أبو ماشي، وكأنها ابعاض بقرة بني إسرائيل محاولة منه لمعرفة أسرار الكون، وتلك تهويمات أشبه ما تكون بالرياضة الفكرية، والقصيدة بتشكيلها ومضمونها تغريد خارج السرب، والنفس عند ابن سينا تشكل قضية فلسفية عصية ممنعة وقصيدة «هبطت إليك من المحل الأرفعي» لابن سينا مازالت مثار جدل محفوف بالمخاطر، وركوب الشاعر متنها كمن يأخذ الأسد لصيده: ومن جعل الضرغام بازاً لصيده تصيده الضرغام فيمن تصيدا والديوان بجملته لا يمثل نقلة إلى الأمام، وإنما هو مراوحة رتيبة، وتلك إشكالية اسامة عبدالرحمن. والقراء الذين يثني عزمهم غزارة الإنتاج يودون من الشاعر ان يختار لهم من عيون شعره ما يشبه الأثر الذي يدل على المسير. فمن ذا الذي يجد الوقت لقراءة عشرين ديواناً أو تزيد؟ ومن ذا الذي يستطيع قراءة احد عشر مجلداً للشاعر محمد حسن فقي؟ أليس في ذلك التدفق اغراقاً للآمال، لقد فعل الخالديان خيراً حين أخرجا للناس «المختار من شعر بشار» ومن الخير لنا ولشعرائنا المكثرين ان يتطوع البعض فيخرج للقراء المتخففين عيون شعر المكثرين، وقد تحفز المختصرات إلى المطولات. وفي النهاية فإن من الخير لشعرائنا وروائيينا وقصاصنا ان نوقد تحت أقدامهم نار النقد ليهتدي إليهم الباحثون عن الكلمة الطيبة وليعرفوا طيب عرف العود: لولا اشتعال النار فيما جاورت ما كان يعرف طيب عرف العود د. حسن بن فهد الهويمل