يثار بين الحين والآخر تساؤل عاتب عن غياب النقاد أو تخاذلهم في تلقي الإبداعات: الشعرية والسردية -المحلية على الأقل-. وقد يستدعي المثيرون نقاداً بأعيانهم، وقد يُضرب المثل بشعراء بأسمائهم، وليس هناك ما يمنع من مثل هذه الإثارات، غير أن بعض المثيرين يحيل إلى أسباب واهية. وعثرات المشاهد من الإطلاقات والتعميمات، ومن السهل أن يقول الكاتب ما يعن له، ولكن من الصعب الإتيان بالبراهين. ومما هو في هذا الصدد ما أثير من قبل على صفحات (المجلة الثقافية) 22-2-1425ه الملحقة (بجريدة الجزيرة)، من أن المشهد النقدي متلفع بالصمت لأنه لم يفِ بحق شاعر كبير كالدكتور (عبدالرحمن العشماوي). والمحفز للحديث استدعاني من بين من يلام، بوصفي أنموذج المقصرين بحق من لا يستحق التقصير. وكأني عاقلة النقد، وحمَّال التقصير النقدي، وكأن أمر المشهد لن يستقيم حتى أثير عجاجته، وألزَّ في مضاميره، وليس فيما اقول امتعاض ولا استياء، ولكنه محاولة لدفع الالتباس، والحد من الإطلاقات التي تنحي باللائمة على سائر النقاد، وتصف المشهد بالتصوح، وقد تنفي وجود نقد متكافئ مع الإبداعات. ومعاناة المشاهد من هذه التعميمات التي لا يلقى لها المعنيون بالاً لفقدها الموضوعية، نقرؤها مكتوبة في الصحف والمجلات، ونسمعها أحاديث يتفوه بها المحاورون عبر الإذاعات والقنوات. ومثل هذه الإطلاقات تثبط العزائم، ولا تحيي موات النقد، وقلَّما تكون كالرياح اللواقح. وإذ أشكر للمستدعي ثناءه وتلطفه بالمؤاخذة، وتوسمه بي خيراً، أحب أن أطمئنه بأن النقد المحلي بخير، وأن الدراسات النقدية تكتنف الظواهر الأدبية والأعمال الإبداعية من كل جانب، وأن شاعراً مثل (العشماوي) يعيش حضوراً يليق بمثله، وليس بحاجة إلى من يقدمه إلى الجمهور. ولقد ذكرني ذلك بمقولة أحد الشعراء، وأحسبه (الصافي النجفي) حين لم يشأ تقديم ديوانه بالأسلوب المتعارف عليه، وإنما سماه (التيار) وكتب في مستهله:- (مقدمة التيار ما سوف يجرف). وحين لا يمارس المشهد النقدي الاحتفالية بشعر شاعر ك (العشماوي) بالقدر الذي يتطلع إليه المعجبون به، فليس معنى هذا أنه لايستحق ذلك، ولا أن النقاد يرون شعره دون المستوى المطلوب، ولا أن النقد لم يكن حاضر المشهد. وإشارة المعاتب إلى قولي في تسجيلات (أحد) بخصوص موقفي من الشاعر إشارة مبتسرة. فالشاعر حين يفوق الشعراء ببعض خصائص الشعر ومقوماته، فإن هذا لا يمنع من توقع الاختلاف معه حول السمات:اللغوية والفنية والدلالية. وليس شرطاً أن يكون هذا الاختلاف ناتج ضعف أو تقصير، إذ ربما يكون ناتج تباين في الذوائق والانطباعات والرغبات، وتفاوتاً في سلم الأولويات عند المتلقي. فعشاق الهمس يعيبون الخطابية، وطلاب اللمحات يمتعضون من البسط، وهواة الغموض يضيقون ذرعاً بالمباشرة. ودعاة الفن للفن لا يقبلون خدمة الحياة والعقيدة، والذاتيون لا يرحِّبون بالغيرية، ولا يقبلون شعر المناسبات، والحالمون المسترخون على الأنغام الهادئة لا تطربهم الصلصلة ولا الجلبة، وإنما يميلون إلى الإيحاء الذي يدب في الأوصال كالخدر، والذين يرون الشعر إنشاداً يطلبونه عالي النبرة، وطوائف أخرى تراه مجازاً وإيجازاً وانزياحاً، وآخرون من المتلقين يرونه بسطاً وإيضاحاً. ودعك من الاختلاف حول الوظائف والمهمات والأشكال والمباني والموضوعات والمعاني. ولكل مورد وُرَّاده، فلا تسأل الناس عن ذوائقهم. وما من شاعرٍ سلَّم له النقاد، وما من شاعرٍ عظيم إلا وكان مصدر عظمته اختلاف الناس حوله. ولقد كان من عادتي اصطحاب بعض الدواوين الشعرية كي أتخفف بقراءتها من عناء المغالبة لكتب الفكر والفلسفة، فكان أن صحبت في وقت واحد (إبراهيم ناجي) و (بدوي الجبل) وإذ لا يختلف أحد حول تألق الشاعرين، فقد وجدت (إبراهيم ناجي) شاعر مقطعات، و(بدوي الجبل) شاعر مطولات، وأحسست أن الشاعرين مأخوذان بهذه السمات، على الرغم من تألقهما. وما أحد لاقى من الإطالة والبسط بقدر ما ألاقيه من امتعاض، ومع ذلك لا أجد غضاضة من معايشة أصحاب المطولات: المتقدمين منهم ك (ابن الرومي) و(أبي العتاهية) والمتأخرين ك (الفقي) و(الأميري) و(بدوي الجبل). ودعك من هؤلاء وأولئك، وانظر إلى (المتنبي) في عصور الازدهار، وإلى (شوقي) في عصر النهضة، ينام أحدهما عن شوارد شعره، ليسهر الناس جراها ويختصموا، فيما يجزع الآخر، ويستعدي (القصر) على خصوم شعره. لقد بالغ خصومهما في النقد حتى كادوا يبلغون نفي الشاعرية عنهما، كما لقي (المتنبي) من العنف والحسد ما لم يلقه شاعر من قبل أو من بعد، وما قصر في المنافحة عن أصالة شعره، حتى لقد استنجد ب(سيف الدولة) ولما لما ينتصر له عاتبه عتاباً مؤلماً، ولم يجد بداً من مفارقته وهو يردد:- (إذا ترحلت عن قوم وقد قدروا ألا تفارقهم فالراحلون هم). والذين قادوا الحملة ضده من عمالقة الشعر وأساطين النقد، والذين نافحوا عنه كذلك، ومن ثم لا نعرف الصادق من الكاذب. وحكاية (المتنبي) مع النقاد والنحاة والشراح حكاية لا تنتهي. وهذا (أبو تمام) من قبلهم سن في الشعر ما لم يأذن به النقاد الذين عرفوا الشعر على غير ما جاء به، فناصبوه العداء، ونفوا الشاعرية عنه، ووجد النقاد الحداثويون المحدثون سبيلاً إلى توهين الخصوم، وذلك بجعل مواجهته مثلاً لكل متحفظ على التجديد، والصراع مع الحداثة ليس مرتبطاً بالتجديد، وإنما هو صراع فكري خالص، وقد نعود إلى مثل هذا الالتفاف الغبي. والنقاد الحكميون شاعت مقولاتهم، واتخذها البعض قضايا مسلمة، مثل مقولة: (المتنبي، وأبو تمام حكيمان، والشاعر البحتري) ولو مضينا مع جاهزيات الأحكام لخرج من مشهد الشعر كل الشعراء، وبقيت سوحه خالية، ومع ذلك ظل كل واحد ممن نفي من مملكة الشعر كأنه علم في رأسه نار. وما انصرف النقاد إلا عمن لم يجدوا فيه إثارةً أو خروجاً على السوائد والمألوفات، وما أكثر الذين يعبرون الساحة لا لهم ولا عليهم. وأود في ضجة القول المتناقض طمأنة المتخوف على مكانة شاعره الذي ملأ عليه أقطار نفسه، ان شاعره يحتل في المشهد وفي النفوس ما يليق بمثله، وانه يعيش حضوراً استنه لنفسه، ولم يكن كأصحاب التشايل والتنافخ، ممن تبدو محاولاتهم الفجة تحت الأضواء كأسوأ ما يكون الشعر، حتى لقد تمنوا أنهم ما دفعوا بأنفسهم، ولا دفع بهم غيرهم. فأين هم الآن؟ لقد ذرتهم رياح الحقائق، كما ورق الخريف. ومع تثبيطي لهمة المتسائل فإنني لو وجدت فسحة من الجهد والوقت لتعمدت الاختلاف مع الشعراء الذين ملكوا ناصية الشعر بما توفروا عليه من شرفٍ في اللفظ وشرفٍ في المعنى. ولما استدعيت محاسنهم البادية للعيان، وإنما نقبت عن مثالب شعرهم، وجميل جداً أن أختلف مع شاعر بوزن (العشماوي)، فالأصالة ليست وقفاً على الثناء الزائف، وتثبيت الأقدام لا يكون بالإعجاب وحده، ولقد قيل:- لولا اشتعال النار فيما جاورت ما كان يعرف طيب عرف العود فكم أود لو أن النقاد أشعلوا النار من تحت أقدام الشعراء الذين نواليهم، لينتشر عبقهم، فما ثبتت ظواهر ولا مذهب إلا بفعل الخصوم. لقد ظل (شوقي) شاعراً لا يثير، يوم أن كان (شاعر القصر)، ويوم أن حشدت له حاشية القصر الشعراء والكتاب من كافة أنحاء الوطن العربي ليجعلوه أمير الشعراء، ويوم أن عمل القصر على إنشاء (جماعة أبوللو) لتكون في وجه (مدرسة الديوان)، ويوم أن قال حافظ:- (أمير القوافي قد أتيت مبايعاً وهذي وفود الشعر قد بايعت معي وهو حقيق بالإمارة، وإن غضب الشاعر والأديب معالي الدكتور(غازي القصيبي) الذي ملك عليه (المتنبي) نفسه وذوقه واحتل ذاكرته. وإذا كنا نقبل بإمارة شوقي فإننا لا نمانع من (إمبراطورية) (المتنبي). وشوقي المتألق بفنه أعشاه الثناء عن هنات شعره، فما كان يسمع إلا المكاء والتصدية. وحين تلَّه (عباس محمود العقاد) للجبين، وقسا في نقده، وتجاوز الحد في ذلك، تدارك أمره، وراجع شعره، ونفى منه أضعاف ما أخرج للناس، حتى جاء من ينقب في الصحف والمجلات ليخرج (الشوقيات المجهولة) وبعد تعهده لشعره ما كان من الناس المحبين والناقمين إلا أن وقفوا، لينظروا كيف يبني قواعد الشعر وحده، على حد قول الشاعر عن قومه:- (وقف الناس ينظرون جميعاً كيف أبني قواعد المجد وحدي) ومضت دواوين العقاد الأحد عشر دون ذكر، فيما بقي شوقي شاعر العروبة والإسلام. لقد كان من الشعراء الأفذاذ، وكان (العقاد) من المفكرين والنقاد الأفذاذ، فما زاد الجور شوقياً إلا شيوعاً وتجذراً، وما زاد العنف العقاد إلا حضوراً وتألقاً، مع أن (العقاد) متحامل على (شوقي) وحجته داحضة. وقليل عندي من يعدل (شوقياً) باستثناء (المتنبي)، ولا أحسب أحداً من المفكرين يعدل العقاد. وإذا كان المحب المعجب ب(العشماوي) يحسب أنه بحاجة إلى من يقدمه بالثناء إلى المشاهد فإنه يظلمه، ويظلم شعره. وحين لا يختلف المتلقون مع الشعراء تخمل سوح النقد، وتكسد سوقهم، وما تراهم يقولون إلا معاراً أو معاداً، بل لا تراهم إلا مفتعلين للقول، وجميل أن يبدئ النقاد ويعيدوا، وعلى المترددين أن ينظروا إلى المدارس النقدية والمذاهب الأدبية التي خلفها خصوم (أبي تمام) و(المتنبي)، لقد كان الاختلاف معهم سبباً في نشوء مذاهب نقدية، ولو سلَّم الناس لهما لما عُرفا إلا من خلال أعمالهم الشعرية وحسب. وما من شاعرٍ مرَّ به النقاد مرور الكرام أو سلموا له إلا كان أقرب إلى الانطفاء. وخمول المشاهد ناتج التسليم، وثراؤها ناتج الاختلاف المحكوم بضوابطه ودواعيه وتميز نقاده وشعرائه. وكل مضطلع بمهمة النقد يجد ما يلوم عليه، على حد:- (من نوقش الحساب عذب) والإعجاب لا يعشي العيون، وعداوة الشعراء في الراهن ليست بئس المقتنى، فما عاد الشاعر قادراً على الدفاع عن نفسه بشعره، وتقديراً للعتاب الرقيق من الأخ (فيصل العبودي)، سوف أغالب ظروفي، وأقرأ شعر العشماوي ناقداً لا متمتعاً، وأصدقكم القول فما من صعوبة تعادل صعوبة النقد لمن يملؤك حباً وإعجاباً، لأنك كلما أوغلت في الثناء، أحسست أنك تبتعد عن الموضوعية، وكلما تخلصت من عواطفك أحسست أنك تصَّعَّد في السماء. وقد صدقت الإعرابية التي سئلت عن:- أي أبنائها أفضل؟ فجالت بنظرها في خفايا خصالهم ثم قالت:- (ثكلتهم إن كنت أعرف، إنهم كالحلقة المفرغة لا يعرف طرفاها). وهكذا أنا مع طائفة من الشعراء السعوديين، فالحب قد يعمي ويصم، ولا أريد لأحد منهم، ولا لنفسي أن نتبادل أنخاب الثناء على حساب رسالة النقد. والتقريظ المجامل يضر بالشاعر، وما عهدنا أنفسنا مدَّاحين ولا متشايلين، وهل نفع المتذيلين للحداثة زائف المدح. لقد صدرت كتب بحالها، تتناول قصيدة واحدة لشاعر حداثي، ربما كان أغنى الشعراء عن مثل ذلك، ومع ذلك ظل كما هو في عيون المنصفين، وبعض المتعملقين على أكتاف المجاملات الزائفة ظلوا نكرات، وظل شعرهم كسقط المتاع. وحين يستعد الناقد الذي يحترم نفسه وقراءه للدخول في عالم شاعر ك(العشماوي) فإن ذلك يتطلب التفرغ لقراءة أعماله كلها، ليقف على أنساقه الثقافية، وسياقاته الدلالية، وسماته اللغوية، وتشكيلاته الموسيقية. فما من شاعر إلا وله عوالمه الممتدة معه من أول بيت حتى آخر قصيدة. والمتابعون يعرفون أن إبداعاته تشكل أشواطاً دلالية، تواكب النوازل، وترصد لأحداث عربية وإسلامية، وتنافح عن قضايا أمة مستباحة، وترافع ضد الظلم والتسلط والاستبداد. إنه شاعر يطربني بإنشاده وهمه وسلاسة لغته ونقاء موسيقاه وانسيابية قافيته وثورة عواطفه واحتدام مشاعره. وقد أقول مثل ذلك من المآخذ، وأكون صادقاً في الأولى، وغير كاذب في الثانية، وكأني بصاحبنا المعنف للمشهد النقدي يستذكر قول المصطفى صلى الله عليه وسلم:- (إن من البيان لسحرا)، فلقد قالها في موقف كهذا، رضي المتحدث فقال أحسن ما يعرف، وسخط فقال أسوأ ما يعرف. ومع كل ما سبق أعترف بكل مرارة أن مشاهدنا النقدية لم تفِ بما عليها إزاء المبدعين من الشعراء والسرديين، وإن وفت بما سوى ذلك، وأخاف أن نكون كمن لا يطربه زامر الحي. ولولا ما أخشاه من امتعاض البعض لسحبت البساط من تحت عشرات تعدهم المشاهد من الشعراء، ولكشفت عن سقطات لغوية ونحوية وصرفية وفنية ودلالية لا تُقْبل من السوقة. ولولا ما أخشاه من كشف عورات في الإبداعات السردية لزدت مئات القصاص والروائيين، وأعدتهم بمحاولاتهم الفجة إلى مقاعد الدراسة، وهم من هم عند أنفسهم وعند من لم يفرقوا بين القول والإبداع القولي، والنقد والنقاد مدانون حين يغمضون في الرديء أو حين يقولون كلمة زائفة تمنح الشاعرية لغير الشعراء والأدبية لغير المبدع السردي، وما أتيت المشاهد النقدية إلا من خلال المجاملات الزائفة والتنافخ الفارغ، أو من خلال كتبة يعدون أنفسهم نقاداً، وما النقد إلا موهبة وثقافة ودربة.