وديوانه الذي حفزني على ما يمكن تسميته بالتحرش والتحريض لأثبت للمشاهد الأدبية ان بني عمي فيهم شعراء مثله مثل أترابه ولداته ولكنه استأثر بالحديث، صحبت هذا الديوان في بعض أسفاري لضيق في الوقت وضعف في الجهد، قرأته على مهل، وفي فترات متقاربة، ولفت انتباهي جدة عنوانه، فيما جاءت أشواطه الدلالية وظواهره الفنية وطوابعه اللغوية على ما كانت عليه من قبل، باستثناء تحرفاته القليلة نسبة إلى باعه الطويل ومعايشته الأطول في صناعة الشعر. لقد أصدر الشاعر من قبله مجموعات شعرية ماثلة، وهو في عناوين تلك المجموعات يحاول التخلص من نمطية التسميات ورتابتها، وأذكر ان طائفة من المتابعين للمقدمات والتسميات والمداخل النثرية خرجوا بنتائج مثيرة حين رصدوا ذلك، وحاولوا النظر في دوافع التسميات والمقدمات والمداخل وترتيب القصائد والاستعانة بالرسامين والمخرجين والألوان والخطوط، فكل ذلك لا يأتي إلا استجابة لحاجات في النفوس، والناقد بطبعه فضولي يود معرفة أدق التفاصيل عن كل شيء، والشعراء قد يقدمون بين يدي قصائدهم مداخل تشد أزر القارئ، وذلك بذكر المثيرات التي حدت بهم إلى الإبداع، وأسباب النزول التي يتداولها المفسرون تحل كثيراً من إشكاليات التأويل، وقد سمعت من بعض المتابعين ان )الواحدي.ت468ه( أو )ابن جني.ت392ه( لا أذكر بالتحديد أشار أحدهما أو كلاهما إلى المقدمات النثرية التي كتبها المتنبي في صدر قصائده، والاثنان من أقدر الشراح لشعر المتنبي، لقربهم منه وعلوقهم به وثقته بأحدهما، وأذكر ان صفاء خلوصي بدأ في تحقيق )الفَسْر( لابن جني، ولم يكمله لموته، وسمعت من آخرين ان )ابن خفاجة الأندلسي(، كان يهتم بالمداخل النثرية، وحين ألقى زميلنا الدكتور أحمد الطامي محاضرة عن «المدخل النثري للقصيدة العربية الحديثة» وأشار إلى الرصافي والعقاد وناجي وأبي ريشة لفت الأنظار إلي ظاهرة جديرة بالعناية، وكنت قد علَّقت على هذه المحاضرة، وأشرت إلى تحول الشعر من الإنشاد إلى الكتابة، مما أدى إلى فصل الشاعر عن شعره، وإلى ما واجهه الشعراء من حلول الرسم بالكلمات محل الصوت والإنشاد، وتلك إشكالية، فالشاعر لم يكن مرسلاً حاضراً مع شعره، حيث نابت الكتابة منابه، وهي نيابة ناقصة، تحتاج إلى من يعضدها بالرسوم والأشكال والأشواط الدلالية داخل العمل الواحد أو داخل معمار القصيدة، وأذكر انني قرأت لبعض النقاد المعاصرين حديثاً ممتعاً عن لعبة )السواد والبياض( وأشكال الكتابة ودورها في شد عضد المتلقي لفهم أعمق، وأحسب ان هذه المبادرة للناقد المغربي محمد بنيس، كما قرأت دراسات عن الديوان الشعري من حيث تصميمه وإخراجه وترتيب القصائد والقيم الفنية في أنواع التصاميم وأشكال الكتابة وأحسبها ليوسف نوفل. وجاء على النقيض من تلك الرغبات )النقد البنيوي( الذي بلغ حد التقديس للنص مفصولاً عن كل العلائق، وقد أسرف في احترام العلاقة بين القارئ والنص، حتى بلغ به الأمر حد إماتة المؤلف، ليقطع دابر التأثير على تأويل القارئ، وهذه الأشياء حين تناولها من لايحسنون الفهم ولا يجودون الفعل الإجرائي سحروا أعين الناس واسترهبوهم، والمشهد النقدي مليء بهذه النوعيات المبهورة بالمستجدات، وما علينا من بأس في أن نسمع ونقرأ ونستفيد، إذ ليس هناك نص بريء ولا حضارة خالصة،، ولكن البأس كل البأس أن ننفي ذواتنا ونذيبها في هذا المسموع أو المقروء، مثلما نفت الدول الظالمة الشعوب المستعمرة من لغاتها، وحرمتها من اللغات القومية، وهو ما حصل للجزائريين إبان الاستعمار الفرنسي، وهو ما يفعله المبهورون مع أنفسهم، إن الحديث عن المستجد ممتع إذا كان عن اقتدار وبمقدار، وليس المستجد في المقدمة والعنوان والاستهلالات والمداخل مما حذرنا عنه، ولكنه من وجه آخر تدخل فضولي، إذ ليس من حق الشاعر ان يلاحق القارئ، ولا أن يفرض عليه تفسيراً معيناً، وقد سمعنا ما كان المتنبي يقوله لشارح شعره الذي مر به، وهو يعلم الصبيان، وما قاله طه حسين على طريق السخرية حين قرأ ما كتبه العقاد عن أبي نواس، والعقاد كتب ما كتب وهو مأخوذ بطرائق النقاد النفسيين، وأسامة عبدالرحمن من أولئك الشعراء الذين يندسون في شعرهم بطريقة أو بأخرى، ويمارسون التوجيه والتلقين، وكأنه لايريد أن يفهم الناس منه إلا معنى واحداً، وكأنه يحرم شعره من أن يعبر عن هموم الغير، وأن يجمجم عما في نفوسهم، وكأنه يريد إغلاق فضاءات النص إلا فضاء واحداً، فهو يلح في القول، وهو يبدئ ويعيد، ويتقصى مفردات المعنى الواحد يكررها، حتي لايدع لك إلا المعنى الذي يود إيصاله إليك، بحيث لا تجد في شعره لذة الاكتشاف ولا لذة التأويلات المحتملة، والشعر لمح وإيماض يبرق بالمعاني من وراء ركام الأقنعة، ولا يروض جماحه إلا ناقد يجسُّ معانيه، فما عاد من حق أحد أن يضيف كلمة تؤطر النص وتوحد دلالته، فمعاني الشعر كأوابد الصيد لا يجد الناقد اللذة إلا بطردها واقتناصها بعد جهد وعناء، وأحسب أن أسامة عبدالرحمن ممن يجب ان يقال له: دعنا وشعرك، فما لأحد حق مصادرة الحق، والشاعر المشفق على شعره مهتم بالتسميات وبعناوين الدواوين كل هذه تشغل باله وتدفعه إلى التقاطها مما سلف كآي الذكر الحكيم، وهو يريد من كل عنوان عين الدلالة التي تعطيها الآية التي انتزع منها العنوان. فديوانه الأول الذي صدر عام 1982م «واستوت على الجودي» وديوانه الثالث الذي صدر عام 1984م «وغيض الماء» وديوانه الرابع الذي صدر عام 1985م «بحر لجي» وديوانه الخامس الذي صدر عام 1986م «فأصبحت كالصريم» وديوانه السادس الذي صدر عام 1987م «موج من فوقه موج» وديوانه السابع الذي صدر عام 1988م «هل من محيص» وديوانه الثامن الذي صدر في العام نفسه 1988م «لاعاصم» وديوانه التاسع الذي صدر في العام نفسه 1988م «عينان نضاختان» وديوانه الحادي عشر الذي صدر عام 1989م «رحيق غير مختوم» وديوانه الثاني عشر الذي صدر عام 1989م «الحب ذو العصف» وديوانه السادس عشر الذي صدر عام 1992م «الأمر إليك» وديوانه السابع عشر الذي صدر عام 1992 «أوتيت من كل شيء» وديوانه التاسع عشر الذي صدر عام 1992م «يا أيها الملأ» وديوانه ما قبل الأخيرين «قد شغفها حباً» كل هذه الدواوين تحمل عناوينها دلالات عميقة، بعيدة الغور، لارتباطها الوثيق بمآلات النصوص والقصص القرآني، وما له علاقة بالماء بوصفه مصدر حياة وأداة عذاب ونكال، وهو ينفرد من بين شعراء العربية عامة بهذه الخاصية العنوانية، إذ يلتقط العنوان من سياقات قصصية قرآنية تثير في القارئ رغبة الإنصات إلى سياقات القصص القرآني واستدعائها، وهذه السياقات مكتظة بالدلالات والأهداف التي لا نجدها في شعره، ولا نجد أي ارتباط بين العنوان والمضمون الشعري، ومن ثم فهي تسميات اعتباطية دعائية، وكنت أود لو أن الشاعر حين استل تلك الجمل من سياقها أتبع سبباً، وأحدث علاقة، وهو إذ لم يفعل فإن الأمر لايخرج من إطار الشكليات، وكم أتمنى أن تكون هذه الإشارات إغراءات واستثمارات لمن يملكون الجهد والوقت والاقتدار، ليمارسوا التفكيك والتشريح كي يصلوا العناوين بمصادرها القرآنية، ويلتمسوا في الدواوين رموزاً وأقنعة تجمدت خارج أسوارها. والدارسون المعاصرون قد تلمسوا أثر القرآن على كثير من الشعراء، وأذكر ان الشاعر المصري الحداثي المثير )أمل دنقل( قد درسه النقاد من هذا الملمح، وألف بعض الدارسين والدارسات عن علاقة نصه بالقرآن وتعالقه الواعي مع النص، وهو تعالق ممتع ومثير، يقع تحت احتمال الحظر والإباحة، كما ألف عن الإشعاع القرآني في الشعر الحديث دراسة عميقة. ومن حق أسامة على أبناء جلدته أن يتناولوا هذا الجانب المهم، وهو جانب التعالق النصي أو العنواني على الأقل مع القصص القرآني، والنقد الحديث يتحفظ على تدخل الشاعر كوسيط لذاته مع القارئ، وهو حين يتحفظ على مطلق المهمة التوسطية بين المرسل والمتلقي يعد القارئ مبدعاً رديفاً، والخيال والرمز والأسطرة والانزياح اللغوي والمجاز والإيجاز مطايا تطير بالقارئ الذي يتنفس برئة القصيدة، ويسقط من خلالها همومه، غير ان أسامة عبد الرحمن لم يمارس هذه الأشياء بالقدر المتوقع من مثله، وهو إذ لم يفعل لا يكون هناك تقنع ولا انزياح يغريان المجربين من النقاد، وعيبه أنه مأسور بواحدية الدلالة ومباشرتها وبالفصل التام بين العنوان والنص، وهو بتلك المباشرة التي يفرضها عليه ما يعانيه من هموم ممضّة لايدع لك لذة الاكتشاف، لأنه ضد التكثيف وضد اللمحة وضد البقية التي تقول: المعنى في بطن الشاعر. أسامة لا يدع في بطنه شيئاً يضاعف همه ويقض مضجعه، وإنما يتخلص منه بالتقصي؛ وإبداء القول وإعادته، يضعه بأدق تفاصيله، إنه شاعر توصيلي، ومن حقه أن يكون كما يريد، ومن حقنا ألا نقبل إلا ما نريد، ومن واجب المشاهد النقدية ان ترحب للقول ونقيضه، ومن حق القراء أن يستمعوا لهذا اللغط وأن يأخذوا بأحسنه، والشاعر يقطع كل احتمال بهذه المرافعة الحادة. إنه شاعر ضد قضايا ومع قضايا، ومن ثم لايدخر وسعاً في الوضوح والتفصيل والتقصي والتكرار، وأنا أضيق من هذه الممارسة، ولا أجد الشعر قادراً على الخلود متى أحرقه صاحبه بالمباشرة والتقريرية والخطابية والتكرار الملح والاستقصاء الذي قد يصل إلى حد الملل. هناك من لايرى رأيي، ويذهب إلى أن )البيان( و )الفصاحة( و)البلاغة( و)النصوصية( مصطلحات لها مقتضيات: الإبانة عن المراد، والإفصاح بالهم، وإبلاغ المقصود، والبروز. ولست فيما أرى مسيطراً، ولكن من حقي أن أقول: إنني أود لو ترك أسامة شيئاً من المعنى، ولكنه لم يترك، فهو ذو هم، وقصيدته رسالة ترافع ضد الظلم والتسلط الذي يصب حممه على الإنسان العربي من قوى الشر والتآمر، فهو يريد ان يفهم الناس أدق التفاصيل عن قضاياه العربية، يريد ان يقنع المتلقي، وأنا ضد هذه الدعوى، وضد هذا الهم التوصيلي، ومع أن أسامة يحرمك من مستويات الدلالة ومعنى المعنى، فإنه يوفر لك أشياء أخرى لا تقل عما تفقده في شعره، ومن حقه علينا أن نعترف بما يتميز به، وألا نصادر حق الآخرين في تذوق هذا اللون من الشعر الذي نود لو أنه مال عنه بعض الميل لا كل الميل، وما يوفره ويسعد به غيري لا أراه تعويضاً ملائماً. الشعر المتميز عندي على الأقل هو الشعر المكثف الشعر اللمحة الشعر المتمنع شعر التحدي شعر الظلال الشعر الذي يتسع للخلاف الشعر التوتيري التساؤلي التصويري الإيحائي الإيجازي المجازي الانزياحي، والشعر لمح وليس هذرا. ولقد سئلت عن شاعرية أسامة وشاعرية العشماوي، والسائلون يرفضون الصلصلة والجلجلة، وهل أحد يشك في شاعرية الرجلين؟ ولكن المذهبية الضيقة تنفي مخالفيها. وهذا الديوان الذي فتح شهيتي وحرضني على المغامرة المحفوفة بالمخاطر يقع في مئتين وسبع وأربعين صفحة، وضعه الشاعر ضمن ثلاث مجموعات: هل تقبلين دعوتي. عندما يبحث الوطن عن منفى. أشجان. وهو قد اختار للديوان اسما وطنيا مثيرا، هو عنوان المجموعة الثانية، ولكن الأعمال الشعرية في هذه المجموعة لم تكن خالصة للوطن الأخص ولا للوطن الأعم، ولكنها تجارب حب عنيف تسلطي متمرد فيه جلافة أعرابية. والشاعر كما أشرت أكثر من مرة ذو نكهة معتقة لا تكاد تنكرها منذ ديوانه الأول «واستوت على الجودي» حتى ملحمته الشعرية «خمسون عاما» التي لم نرها بعد، وربما أنها لم تر النور بعد، وهذه الرتابة اللغوية والشعرية والدلالية التي أخذ نفسه بها أخذ عزة واقتدار وتسلط، تقلل من عنصر المفاجأة التي نراها عند الآخرين أعمالاً من شعراء الحداثة والعلمنة، ولانراها إلا نادراً عند من نركن شيئا كثيراً إليهم لشرف معناهم وتخلف مبناهم، ولست أعرف سببا لواحدية النكهة واستمراريتها عند شاعر يسبح في آفاق معرفية، جواب أرض تتقاذفه فلوات الحضارات بما آتاه الله من إمكانيات معرفية، إذ المؤمل من مثله ألا يصبر على طعام واحد، وهو لايقدم لك من شعره إلا طعاما واحدا. والشاعر الذي اجتهد ما وسعه الاجتهاد في الخروج على شكل القصيدة وبعض عموديتها لم يستطع أن يقدم البديل الأمثل، وشعر التفعيلة الذي أخفق فيه شعراء مجيدون، وجلى فيه من هم دون ذلك، تحول إلى حقل تجريبي تبيض فيه وتصفر «قبرات» كثيرات حين خلت بأرض الشعر، كما الجبان حين يخلو بأرض يطلب الطعن والنزال، وماهو بقادر عليه لو صوت إنسان. لقد صار هذا المهيع متنفساً لكثير من العاجزين الذين استمرؤوا الرخص حتى بلغوا الدرك الأسفل بقصيدة النثر التي يسميها الدكتور/ أحمد درويش )عصيدة النثر( وقد أغضب الحداثيين بهذه السخرية المرة. وأسامة شاعر لا يثنيه شيء، فهو من ذوي الأنفاس الطويلة، ومن ثم فليس بحاجة إلى شعر التفعيلة، والعدول من الشكل العروضي إلى ما دونه لا يغير من الأمر شيئاً، وإنما هو حاجة قائمة في نفوس كثيرة، وقد تفوِّت على الشاعر أمورا مهمة، وتحرمه من تجليات محققة، وأسامة شاعر خطابي بحاجة إلى جلجلة الصوت ورتابة الإيقاع وصفاء الموسيقى، بحيث لا يصلح له هذا الشكل الشعري المتصف بالانسيابية، ولهذا فإنك ترى التكلف والتعمل باديين في هذا التشكيل الجديد عنده، وأنت حين تقرأ هذه القصائد تود لو أن بينك وبينها أمداً بعيداً، وقد أومأت أكثر من مرة إلى كونه من شعراء التقصي والتفصيل والإلحاح على المعنى وتشقيق الدلالات وإتيان المعنى من كل وجوهه، وكأن هاجسه أن الناس لايتفقون معه ولايصدقونه، أو أنهم متثاقلون في حمل همه الممض وآلامه المبرحة، ولهذا تراه يقلب لك الأمر على كل ما يحتمله ويتسع له من المعاني، والمرجح أنك تستوعب الموضوع في بيت أو بيتين، وتستشرف لمعنى آخر، غير أنه يعيد ويمعن في الإعادة، ويفصل ويغرق في التفصيل، ثم هو لا يعد من الذين يكررون أنفسهم، ولا من الذين يكررون الموضوع ذاته، وإنما هو من الموغلين في التقصي والتفصيل في المعنى الذي يشرع بالحديث عنه إلى الحد الذي تضطر معه في بعض الحالات أن تقف أو تقفز أو تلقي الديوان غاضباً، ثم لا تلبث أن تعود إليه متعاطفاً معه مشفقاً عليه وعلى نفسك، ويجب أن نفرق بين تكرار الموضوعات وتكرار المعاني، فالشاعر الفقي يكرر الموضوعات، وأسامة يكرر المعاني وتكريره أميل إلى اللفظية منه إلى أي نمط آخر من أنماط التكرير. وأسامة مع كل هذا شاعر مثالي تحبه لهذه المثالية، وشاعر ملحاح تحبه من أجل ذلك الطهر العنيف جداً، وتود لو أنه اقترب بعض الشيء من واقع الناس، وقدر ضعفهم البشري، ولم يوغل في المثاليات، وإذ تكون بعض الأمور داخلة فيما يسمى بفن الممكن، فإن شاعراً على شاكلته يكون نشزا في إيغاله بدون رفق، وحين يكون كذلك، ترى في لغته التأكيد أو ما يسميه البلاغيون بالإيغال، يقول على غلاف ديوانه: )إن القضية أن تكوني حرة ... وأكون حراً دونما استعمار( والحرية لاتكون مع الاستعمار، وإذاً فلا حاجة بنا إلى كلمة «دونما استعمار» قد يقول قائل: هذه ضرورة الوزن التي تلجئ الشاعر إلى الزيادة. وقد يقول آخرون: إن ذلك من باب الخصوص بعد العموم، فالحرية أشمل، والاستعمار أخص، وتلك حجة بالغة، ولكنني أصر على ما أقول، وقد ينبري معذرون آخرون فيأتون بما لا يخطر لك على البال، ويبقى البيت من حيث البنية الدلالية مأخوذا بما أشرت، وهو يذكرني بشاعر يحبه أسامة ويقتفي أثر حماسياته ذلكم هو ابن شداد الذي يقول لمحبوبته: )إن كنت جاهلة بما لم تعلم( وهل الجهل إلا غير العلم؟ وهو كذلك يذكرنا بتكرير مماثل لشاعر نجد محمد بن عبدالله بن عثيمين، ويذكرنا بشاعر مكثر يكرر الموضوع في أكثر من قصيدة هو الشاعر محمد حسن فقي، ولست أذكر مواطن التكرار المماثل عندهما، ولكنني أعرف ان نقاداً مدرسيين قد استدركوا عليهما مثل ذلك، واعطيناه للطلبة في مادة النصوص، والناقد الحصيف ينظر إلى المباني ومقتضياتها، ونحن هنا أمام ثلاثة مبان: موسيقية. ولغوية. ودلالية. ولكل بنية هواتها والمستميتون من أجلها، وكل هاو يمطرك بالحجج والبراهين، والساحة الثقافية بحاجة إلى هذا الاختلاف، بل هي حفية بهذا الاختلاف، وأسامة شاعر موفق حين تلتطم الآراء حوله. وأذكر ان الدكاترة زكي مبارك قال في نقده لكتاب )مستقبل الثقافة في مصر( موجها كلامه لخصمه اللدود طه حسين الويل لنا إن لم نختلف. والاختلاف من حوافز التزود بالمعارف والحجج، وسواء اختلفنا أو اتفقنا تظل كلمة )دونما استعمار( مثيرة للجدل، وتظل في نظري مأخذاً دلالياً. فالبنيتان اللغوية والموسيقية لا تنفصلان عن البنية الدلالية،، وانا مع ابن فارس في دم الخطا في الشعر ومطالبته للشاعر المضطر ان يترك الشعر، فلسنا بحاجة إلى شعر يخالف الضوابط والأنظمة والمعتبرات اللفظية والدلالية، وفي النهاية فإن توفر الحرية يغني عن نفي الاستعمار، ويكون هذا البيت الذي حَلَّى به غلاف ديوانه بحاجة إلى مراجعة، وإلى إعادة صياغة، وهذا بيت من أبيات، وضرورة من ضرورات، لا ينفك الشاعر منها في شعره السابق واللاحق، ونعود لنقول ما قاله أحد الدارسين لأبي الطيب: )لاشيء أدل على عظمة الرجل من أن يختلف الناس في الحكم عليه(.