منذ قرن والدعوة إلى العامية واتخاذها لغة الكتابة والأدب والعلم قائمة، تزداد على مرّ الأيام قوة. وفي خلال العشرين سنة الماضية اتخذت السبيل إلى بعض الجامعات، فكان الشيخ أمين الخولي يدعو إليها في الجامعة المصرية، ويدرس البلاغة بالعامية، بل كان يتناول البلاغة القرآنية بالعامية فيمسخها مسخاً. ولا شك أن العشرين سنة الماضية شهدت صراعا بين الاسلام ولغته وآدابه وعلوم الاجتماع فيه والتربية والتعليم، وعنف الصراع، حتى رأينا في العالم العربي والاسلامي دعوات هدامة غاية في القسوة والبشاعة، وحدثت تحولات خطيرة في مفاهيم القيم الاسلامية. إلا أن حملة أعداء الاسلام على لغته لم تنجح نجاحها في حملاتهم على غير اللغة، فقد أخفق دعاة العامية منذ تولى كبرها المستشرق الالماني ولهلم سبيتا الذي كان موظفا في دار الكتب المصرية، والذي هلك في سنة 1883م. وكل هؤلاء الدعاء - ومن أقطابهم سبيتا وولكوكس وسلامة موسى ولويس عوض وسعيد عقل - يدّعون الغيرة على العربية وشعوبها التي تتخذها لغتها، ويزعمون أنهم يريدون تعميم الثقافة والعلوم والآداب والمعارف الانسانية بحيث يفهمها العرب. وسرت عدوى دعوة العامية الى البلدان العربية فنهض بعض الكتاب يدعون إليها محتجين بحجج من سبقوهم من أولئك الدعاة. وكل أقطاب الدعوة ليسوا مسلمين، وليسوا من العرب، فعلى سبيل المثال سعيد عقل وسلامة موسى، فسعيد عقل يتبرأ من العربية والعروبة ويعاديهما علانية، وكذلك سلامة موسى. ومع هذا يدعون الغيرة على العرب وهم أشد أعدائهم، وإنما يدعون الغيرة على العربية ليقضوا عليها، وما هؤلاء بذوي غيرة على لغة يعادونها ويعملون على حطمها ليقضوا على القرآن والحديث وكل ميراث الاسلام. وذات مرة لقيت سلامة موسى في دار أخبار اليوم في القاهرة وجرى الحديث بيني وبينه على مشهد من بعض الكتاب والمحررين، وكان البحث في العامية، ويرى سلامة موسى ضرورة اتخاذها لغة الكتابة والعلم. وقلت لسلامة موسى: إنك من أقطاب الدعاة إلى العامية، وإنك غير مؤمن بها، بل أنت أول الكافرين بها وإن كنت تحمل راية الدعوة، وأنت أول المحتجين بعجز العامية عن أن تكون لغة الكتابة، لأنك لم تكتب منذ عرفت الكتابة والنشر والتأليف مقالا باللغة العامية. وقلت له: انك تذكر ان ولكوكس عندما نشر محاضرته في مجلة (الأزهر) سنة 1893م نشر معها اعلانا يدعو فيه الى كتابة محاضرته بالعامية، ورصد أربعة جنيهات ذهبية لمن يكتبها بها، ومع هذا لم يستطع أحد أن يشترك في المسابقة. ومن المفارقات الغريبة ان ولكوكس عجز عن كتابة محاضرته بالعامية، بل كتبها بالعربية الفصيحة فمضى الى غيره يطلب إليه كتابتها بالعامية، وهذا برهان فساد الدعوة، وأي برهان على فساد دعوة من اتخاذ الداعي نقيضها في الدعوة، فهو يدعو باللغة الفصحى الى هدم الفصحى. وتحديت سلامة موسى، وقلت له: إذا كان ولكوكس فرض أربعة جنيهات ذهبية لمن يكتب محاضرته بالعامية فانني أعطيك أربعمائة (400) جنيه إذا كتبت كتابك (التطور وأصل الإنسان) بالعامية. وبهت سلامة موسى، ولكنه قال: إن الكتابة بالعامية تحتاج إلى مرانة. وذكرت له: ان العامية لا يمكن ان تتخذ لغة الكتابة والآداب والعلوم والفنون في أي مجتمع، فالانجليز وغيرهم لا يكتبون آدابهم وعلومهم وفنوهم بالعامية. ومن المؤسف ان تنتقل الدعوة الى بلادنا فأجد بعض الكتاب يتحمّسون للعامية ويدعون إلى كتابة الحوار بها في القصة تقليداً لغيرهم. وأنا لا أمنع كتابة الأمثال العامية وبعض الحوار بالعامية، ولكني لا أجيز الدعوة الى العامية، بل أجيزها للتحدي، وأطلب اليهم ان يكتبوا بحثا واحدا في أي علم بالعامية. والدعاة يتهمون العربية بالصعوبة حتى جازت الحيلة على كثير منا فرأينا أناسا في بلادنا يزعمون ذلك، ويطلبون مع من قلدوهم تيسير العربية بحطم القواعد والقوانين. والعربية ليست وحدها صعبة، بل العلوم جميعها تشترك مع علوم العربية في الصعوبة، بل هناك من العلوم ما هو اشد صعوبة من العربية، فالطب والطبيعة والفيزياء والتكنولوجيا ومئات العلوم الأخرى أشد صعوبة من العربية، ومع هذا لم ينهض دعاة الى تيسيرها واستبدالها. وليست قواعد اللغة العربية بأشد صعوبة من قواعد اللغات الأخرى، فلماذا يختصون العربية وحدها بالحملة والدعوة الى حطمها باسم التيسير والتسهيل؟! انهم يفعلون ذلك من أجل القضاء على الاسلام وكل مواريثه وذخائره، وليس غير ذلك. وما أعتقد أن بين العقلاء في الدنيا من يصدق ان العدو الحاقد يغار على مصالح عدوه؛ فسلامة موسى يشتم الاسلام والعربية والعرب ومع هذا يدعي الغيرة على لغة من يعاديهم، وأمثاله مثله في الدعاوى. وإذا كان دعاة العامية من هؤلاء عاجزين عن اتخاذ العامية التي يدعون إليها كل العجز فما بال المقلدين يحملون الدعوة؟! إن غرضهم حطم العربية، ومتى تم لهم ذلك يتم القضاء على الاسلام كله. هذا مأملهم منذ أعلنوا الدعوة، ولكنهم أخفقوا، ويزداد هذا الاخفاق على مر الأيام. وكل الدعاة الى العامية من غير المسلمين، ثم جاء من بعدهم خلف يحملون أسماء إسلامية كأحمد لطفي السيد وقاسم أمين وعبد الحميد يونس، وهم في حقيقتهم يحملون قلوبا غير عربية وغير إسلامية، ويفكرون بعقول أعداء الاسلام والعروبة. وليس بغريب من هؤلاء أن يدعوا الى العامية، ومثلهم كمثل من يحاكونهم فأحمد لطفي السيد ترجم بعض كتب أرسطو بالفصحى، وكل كتاباته ومقالاته بها، ولو كان مؤمنا بأن دعوته حق لاتخذ العامية، ولكنه لم يتخذها، إلا انه يدعو اليها ليضعف العرب ومثقفيهم حتى ينفصلوا عن الاسلام. وغيره مثله، ولكن الدعوة لم تنجح، ولن تنجح؛ لأن لغة الكتابة والعلم والادب لن تكون إلا الفصحى مهما زخرفوا من القول وضللوا بأباطيلهم. ويكفي برهانا على اخفاق الدعوة الى العامية أن قوى الاستعمار ثم الصهيونية ثم الشيوعية واشتراكها جميعا في الدعوة لم تستطع تحقيق ما ترجو، بل كان نقيض الدعوة هو الذي ساد ويسود. ونحن مطمئنون إلى أن لغة القرآن هي التي لها الغلبة على الدوام؛ لأنها لغة الحياة العقلية والعلمية والأدبية، وأما العامية فحسبها أن تكون لغة الضرورة، والضرورات ليست مزايا، ولا يحكم للشعوب وتقدمها بالضرورة، وإنما تتميز الشعوب وتتفاوت بالكمال.