لم أعتد أن أحمل أسفاراً عندما تزجُّني قدماي داخل علبة معدنية ما تلبث أن تنفرج فيأتيني معها لفح من ريح إمَّا جنَّة، وإمَّا جحيماً... جنَّة الرحيل أن تستنشق هواءً يرد إلى صدرك طهارته، وإلى عقوبتك مثوبتها. وجحيم الرحيل أن تمطرك شظايا تشجّ في جوفك سكينة الرِّضاء... والسفر إمَّا لك وإمَّا عليك وتلكما جنَّته أو ناره!! كيف تمنح نفسك فرصة المثوبة وكيف تزجُّ بها في أتون العقوبة ذلك حين لا يكون لك من الوقت ما تتجاذب الحديث فيه حواراً مفتوحاً قابلاً للنتيجة مع ذاتك. حين تتسامى إلى مناف الاعتراف بأنَّ ثمَّة هدفاً وراء رحيلك حتى إن جاء في بضع عبارات، تبدأ (بما) وتنتهي (بإذن)... فإنَّ شيئاً من الرَّصيد ستعود به في خزينة عقلك ونفسك ووجدانك. ولأنني ما تعودت أن أحمل معي إلاَّ توقي وانتظاري فإنَّ التّوق في السفر لا يبارحني، وهو إمَّا الرفيق، وإمَّا الطريق.. ورفقة التَّوْق مذهلة، كالأحلام تطرق بك كلَّ باب، وتجيب لك عن أي سؤال، ولا تدعك خلواً من تماهيات ما وراء التَّوق من لهفة، وتوقع، وانتظار.. فيما عندما يكون الطريق فإنَّ ثمَّة منافذ، ومفازات، وأبواباً، وشوارع، وقناديل، ونوافذ، وثقوباً، وأقبية، وآماداً, ومساحات تتحول لطرق صغيرة، وكبيرة، واسعة، وضيقة، سالكة، ومتعرجة، ولا أخالني رضيةً بغير التَّوق في رحلاتي رفيقاً وطريقاً، ولا أرضى منه جانباً دون الآخر. في رحلة العودة.. غالباً ما آتي محمَّلة لكنَّني لا أودِّع التَّوق عند العتبة الحديدية للعُلْبة المعدنية، بل أتأبَّطة، فثْمَّة ما ينتظرنا كي نفرغ له الحقائب، ونشعل له المصابيح، ونوقد له الشوق... تلك أسفاري التي عدت بها كي أفتح للسؤال دفتر التحقيق.