لا أذكر متى سمعتُ عن الله للمرة الأولى، أو متى أو كيف بات لي دين. غير أن أقدم ما أذكره في هذا الصدد، أن سحور الأهل في رمضان كان يفتنني. كنا نلح على والدتي متوسلين أن توقظنا للسحور كما توقظ الكبار. فكانت ترفض مشفقة حيناً، وتقبل مشفقة حيناً. فإن رفضت هدّدناها بالصوم من دون سحور، وإن قبلت تناولنا السحور ولا نصوم! فروضة الأطفال تصر على إذن كتابي من ولي الأمر بالصيام، وإلا أجبرت الطفل على تناول اللبن والبسكويت صبحاً، والغداء ظهراً. ووالدي يأبى منح هذا الإذن اشفاقاً منه على نموّنا. غير أنه في أيام الجمعة والاجازات يسمح لنا بالصيام نصف نهار، ويقول إن من صام من الصغار نصف نهار فكأنما صام النهار كله، له ثواب كامل، ثم تأتي والدتي فتفتي بأن من صام أول رمضان ومنتصفه وآخره فكأنما صام الشهر كله، له ثواب كامل فكان صومنا في طفولتنا لا يزيد في الغالب على ثلاثة أنصاف أيام! فالسحور إذاً هو ما كان يجتذبنا، وتغير نظام اليوم، والمأكولات والمشروبات الشهية التي اقترنت لسبب لا يعلمه إلا الله بشهر رمضان، كالقطائف والخشاف وقمر الدين والمدفع يعلن لحظة الإفطار، والفوانيس المصنوعة من الصفيح المزخرف والزجاج بهيج الألوان، نوقد الشمع فيها ونطوف بها في الطرقات، وغناؤنا مع الخدم: "يا فاطر رمضان، يا خاسر دينك. كلبتنا السودا، تقطع مصارينك"!، وإخراج ألسنتنا للغير حتى يعرف من قدر احمرارها ما إذا كنا صائمين أو غير صائمين، و"المسحراتي" بطبلته يعرف سكان المنطقة التي يمر بها فرداً فرداً وينادي عليهم بأسمائهم حتى يهبوا من نومهم لتناول طعام السحور، وزيارات الأهل والأصدقاء والجيران نقدم لهم صنوف النُّقْل المستوردة والمرطبات. والسهرات الممتدة إلى ما بعد منتصف الليل أو حتى إلى ساعة إطلاق مدفع الإمساك، والأغاني الرمضانية مثل "وحوي يا وحوي" و"رمضان جانا" تصلنا من المذياع الضخم المثبت على الحائط في الصالة. لم يكن وقتها ثمة تلفزيون ينسف الحياة الاجتماعية بمسلسلاته نسفاً "فيهدم الملذات ويفرق الجماعات". بل بتنا الآن إذا دعونا أحداً لزيارتنا بعد الإفطار سألنا: "بعد المسلسل أم قبله؟" فإن حضر قبله كانت زيارته مشروطة السماح له بمشاهدة المسلسل عندنا، وربما ما قبله ايضاً من برامج وما بعده، فلا تكاد تتاح الفرصة للحديث. أما الفوازير فقد صار أحفادنا يتساءلون عن كيفية احتمال الصحابة والمسلمين الأوائل لشهر الصوم من دون فوازير. وأما فوانيسنا فقد حل محلها فوانيس كهربائية تضيء بالضغط على زرار، لا شعلة فيها ولا طعم لها، شأن سائر ما اتحفتنا به المدنية الحديثة. وأما المسحراتي فقد استُغني عنه بالمنبه يرن جرسه قبل ساعة أو نصف ساعة من وقت السحور، فيوقظ من لا يعرف له اسماً. وأما الخدم في مثل سننا ممن كانوا شركاء لهونا ومرحنا، ورفاق طوافنا بالجيران نغني: "لولا فلان ما جينا، ولا تعبنا رجلينا"، فقد غدوا في زمننا هذا في ندرة لبن العصفور. وجد الخدم فرصتهم في رمضان - خلال ساعات طوافنا في المساء بالفوانيس الموقدة في الطرقات - كي ينقلوا إلينا مفاهيمهم الدينية. وكانت الكلبة السوداء التي حذرونا من أنها سنتهش مصارين المفطرين أول فكرة كوناها عن الجحيم ثم تطوّع بعضهم فصوّر لنا الجحيم على أنه حفرة هائلة تلتهب فيها النيران، يعلوها حبل دقيق رقيق فكأنما هو شعرة أو خيط. وعلى الناس جميعاً يوم القيامة أن يسيروا فوق هذا الخيط. فأما من كان مؤمناً وصلحت أعماله، وأقام الصلاة وأدى الزكاة وصام رمضان، فسيرى الخيط وكأنه قنطرة عريضة يعبرها إلى الجنة في ثقة وثبات قدم. وأما من بغى وفسد فستزلّ قدمه بعد خطوة أو خطوتين، فيهوى إلى الحفرة يتردى فيها أبد الآبدين. فما أطلعني على هذه الصورة حتى وجدتني لأيام عدة أتدرب قبل ساعة الإفطار على السير فوق القضيب الحديد الرفيع بظهر السرير، استعداداً لليوم الآخر. ولم أنته إلا بعد أن سقطت سقطة عنيفة من فوقه كاد أن ينكسر لها ظهري. هتف بي أخي جلال حين شاهدني أقع: - وستكون سقطتك في الآخرة أبشع وأشنع إن شاء الله! ومن الغريب الخليق بالضحك، أن والدي الذي كان يحرص أشد الحرص في أحاديثه معنا على أن ينمي فينا نظرة إلى الدين مستنيرة واسعة الأفق، لا تشوبها أوهام أو خرافات أو تعصب، لم يُعن أن يحول بين الخدم وبين حديثهم إلينا في الدين. فإذا بنا وقد انتقلت إلينا منهم أبشع الصور. فمن والدي نسمع أن الجنة هي في حقيقة الأمر طمأنينة الروح وسكينتها. والجحيم هو العذاب الناجم عن تأنيب الضمير ووخزه. ومن الخدم نسمع أن الجنة هي المكان الذي نأكل فيه أفخر أنواع الفاكهة وصنوف الحلوى، وتقدم فيه إلينا القطائف والخشاف وقمر الدين كل يوم من السنة لا في شهر رمضان فحسب. أما الجحيم فهو حيث يُجبرنا الزبانية على تجرع مقادير هائلة من الماء المغلي، يفقأون أعيننا بحرابهم، ثم يعيدون خلقها ليسملوها من جديد. والمسيحيون عند أبي هم عباد الله وأهل الكتاب، وهم عند الخدم لا يختلفون عن الكفار في شيء، عظامهم زرقاء، ومصيرهم الكلبة السوداء، ولا أنكر أن تأثير أحاديث الخدم في نفوسنا كان في طفولتنا أقوى من تأثير أحاديث والدي في الدين. فالمانغو وقمر الدين كانا أقرب إلى فهمنا من سكينة الروح، وكذلك الماء المغلي الذي كان يؤلمنا ويعذبنا كلما استدعينا للاستحمام. عيد الفطر ثم يعقب رمضان العيد، ولم يكن يُفسد علينا ما نسميه خطأً بيوم "وقفة" عيد الفطر سوى إرسالنا إلى الحلاق. فوالدي يصر على أن نستقبل العيد برؤوس "نظيفة". وضياع شعرنا إنما كان يعني عندنا ضياع فرص الوسامة والأناقة. وقد كنا نكذب أحياناً فندعي أن صالون الحلاق مغلق، فإن أرسل والدي خادماً يستوضح الخبر وأتاه بكذبنا، عاقبنا بأن يحلق لنا رؤوسنا بنفسه فتزداد وجوهنا بشاعة. فكنا عادة نفضل الاستسلام والطاعة، وإذ نجلس بين يدي الحلاق، نتوسل إليه أن يترفق بشعرنا، وأن يترك لنا منه قدراً معقولاً، بينما تغمز الخادمة له ألا يترفق. والحلاق بطبيعة الحال أميل إلى إطاعة الخادمة، فهي تحمل أوامر السيد. وقد يأمر السيد بإعادتنا اليه إن لم يحلق لنا الكفاية، فيكون في ذلك له عناء اضافي، دون أجر إضافي. وإذ نهبط في النهاية من الخشبة المرتفعة التي تُضاف للأطفال إلى المقعد، ونتأمل وجوهنا في المرآة، تدمع أعيننا من الغيظ، ونخرج إلى الطريق أذلاء، بينما تضحك الخادمة في تشفّ ومرح. حتى إذا وصلنا إلى البيت، فحص أبي رؤوسنا فرداً فرداً، فيبدي استياءه غالباً، ورضاءه في القليل النادر، ثم يأمر بالحمام أن يُعد. وما كان الاستحمام بأخف عبئاً علينا من الحلاقة، فالماء ساخن نصرخ لسخونته، والليفة خشنة تُلهب جلودنا. وقد كانت والدتي في السنوات الأولى تتولى أمرنا، فكانت إذا صرخنا تترفق بنا، فتضيف ماء بارداً أو تخفف من تلييفها أجسامنا. فلما كبرنا بعض الشيء تولى أبي عنها هذه المهمة، فلم نكن نصرخ إلا إذا كان الألم لا يُحتمل. وهو يدخل الحمام ومعه ثلاثة منا أو أربعة، فنخلع ملابسنا، ويغطس هو في الحوض الضخم الممتلئ بالماء، فنتسلق الحوض وراءه كالقطط الصغيرة حتى نقع فيه. وكنا نراقب جسمه الضخم العاري في رهبة وتعجب، ونتساءل في أنفسنا عما اذا كانت أجسامنا حين نكبر ستصبح رهيبة مهيبة مشعرة كهذا الجسم الذي ملأ الحوض فلم يترك لنا سوى أركان ضيقة منه حُشرنا فيها حشراً، والماء المختلط بالصابون يدخل عيوننا فيلهبها عند كل حركة. وبانتهاء الاستحمام ينتهي جانب العذاب من يوم "الوقفة" فها هي الحلل الجديدة قد وصلت من عند الخياط ملفوفة بالورق المرشق بالدبابيس. وها هو أبي انفرد في غرفته، نسمعه ينزع الأغلفة عن علب كثيرة، نعلم ما بها ولا نتحدث عنها، حتى يكون التوزيع منها في الغد مفاجأة سارة لنا، حتى إذا ما هبط المساء، أتى كل منا بكرسي من صالة الطعام، يضعه بجوار سريره، فنعلق سترة الحلة الجديدة على ظهر الكرسي، وعليها رباط العنق، وعلى المقعد نضع السروال وفوقه القميص المكوي والحزام في شكل دائرة، وتحت الكرسي الحذاء الجديد وفي كل فردة منه فردة من الجورب الجديد. وكانت عملية ترتيب الملابس فوق الكرسي وتحته من أحب الأشياء إلينا لا نتخيل عيداً من دونها. ولا أعدو الصدق إذا قلت إن العيد فقد بهجته منذ تخلينا عن هذه العادة. وكان إذا "كبر" أحدنا وأبطل هذه العادة، نظرنا إليه نظرة اشمئزاز وضيق. فهو يضحك منا ويقول إننا لا نزال أطفالاً صغاراً، ونحن نشتمه ونقول له إنه قد بات يظن نفسه كبيراً، وأن الخسارة خسارته. فلا نكاد ننتهي من "تحضير الكرسي" حتى نقفز إلى الأسرّة للنوم ولو كان في السماء بقية من نور. فغداً نقوم قبيل الفجر، فأما من ظن نفسه كبيراً فقد أبطل عادة الاستيقاظ المبكر هي الأخرى، فلا ينهض من فراشه إلا مرغماً، منتفخ العين، وقد تم إعداد الإفطار له، وأما المتمسكون بطفولتهم فينهضون في الرابعة فيغتسلون، ويشرعون في ارتداء الملابس قطعة قطعة في تمهل وتلذذ، استعداداً للتوجه إلى المسجد. وهناك نردد مع المرددين: "الله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا، وسبحان الله بكرة وأصيلا"، وإذ نفرغ من الصلاة، ونصافح من يكون عن يميننا وعن يسارنا متمتمين "حرماً، جمعاً، حرماً، جماعاً"، نسرع بالتقاط أحذيتنا الجديدة التي كنا أثناء الصلاة نراقبها من طرف أعيننا للاطمئنان عليها، ثم نعود إلى المنزل عَدْوا، فأبي الآن في الانتظار بغرفته وقد استيقظ وفتح نوافذها يستقبل النور، نهنئه ويقبلنا، ويفتح درجاً يُخرج منه نقوداً ورقية وفضية جديدة تلمع من فرط جدّتها، فيسلم كلاً منها "عيديته" ثم يفتح خزانته ذات السلسلة الحديدية، فيخرج صنوف الحلوى واللعب، وإذ يأخذ كلٌ منا نصيبه، نجري إلى المطبخ فنساعد الخدم في إعداد المائدة، وحمل المأكولات وصحون الكعك والغريّبة اليها، ونتوجه لإيقاظ من لم يكن قد استيقظ بعد من الإخوة "الكبار". * كاتب مصري.