جُبل الإنسان على حب الرفعة، فتمنى ألا يفوقه أحد من بني جنسه في فضل أو نعمة، وهذه الرغبة في التفوق من طبائع البشر، لكنها قد تنحرف بصاحبها إلى حسد، فيتمنى زوال النعمة من غيره، وربما سعى في إزالتها بأعمال خبيثة، تشعل النار بين أبناء الأمة، وتنشر العداوة والبغضاء، لذا حذر الإسلام من هذا السلوك، ومن أضراره، بل وجعله نقيض الإيمان.. ودعا للتعوذ منه، لكن ما هو الحسد، وما هي صورة، ودرجاته، وأسبابه، وكيف نقي أنفسنا من شره؟ ****** جاء الإسلام ليخلص البشرية من أدران الجاهلية وأمراضها، ويقوم السلوك الإنساني ضد أي اعوجاج أو انحراف عن الفطرة السوية، ويقدم العلاج الشافي لأمراض الإنسان في كل العصور القديم منها والحديث، مما حملته العصور الحديثة بتقنياتها ومستجداتها، وهو علاج تقبله كل نفس سوية، ولا ترفضه إلا نفوس معاندة مكابرة، جاهلة، أضلها هوى، أو متعة زائلة. وقد استوعبت الشريعة الغراء كل ما قد يقترفه الإنسان من ذنوب، أو محرمات في كل عصر، سواء كانت أقوالاً أو أفعالاً، أو حتى ما يعتمل في الصدور من مشاعر وانفعالات، وأبانت أسباب تحريمها جُملة وتفصيلاً في القرآن الكريم والسنة المطهرة، إلا ان الكثيرين مازالوا يسقطون في دائرة المحرمات هذه، إما جهلاً، أو استكباراً، أو استصغاراً لها، أو بحثاً عن منفعة دنيوية رخيصة واستجابة لشهوة لحظية، بل إن بعض هؤلاء يحاولون الالتفاف على حكم الإسلام الرافض لهذه السلوكيات، بدعاوى وأقاويل هشة لا تصمد أمام وضوح وإعجاز الإسلام في رفضه لهذه الموبقات التي تضر ليس مرتكبها فحسب، بل تهدد المجتمع بأسره. و«الجزيرة».. تفتح ملف هذه السلوكيات المرفوضة، تذكرةً وعبرةً ووقايةً للمجتمع من أخطار هذه السلوكيات، وتحذيراً لمن يرتكبها من سوء العاقبة في الدنيا والآخرة، من خلال رؤى وآراء يقدمها أصحاب الفضيلة العلماء والقضاة والدعاة وأهل الرأي والفكر من المختصين كل في مجاله.. آملين ان تكون بداية للإقلاع عن مثل هذه السلوكيات التي حرمها الله، قبل ان تصل بصاحبها إلى الندم وسوء الخاتمة.. ولله الأمر من قبل ومن بعد. ***** بداية يعرف د. توفيق بن عبدالعزيز السديري وكيل وزارة الشؤون الإسلامية الحسد فيقول: الحسد هو أن يتمنى الشخص تحول نعمة وفضيلة شخص آخر إليه، أو سلبهما منه، والحاسد يجد في صدره ضيقاً وحرجاً وكراهية لنعمة أنعم الله بها على عباده في دينه أو دنياه، حتى أنه ليحب زوالها عنه، وربما سعى في إزالتها، وقد أمر الله رسوله عليه الصلاة والسلام أن يتعوذ من شر الحاسد، والحسد من مداخل الشيطان إلى القلب، والحرص هو الطريق المؤدي إلى الحسد، كما قيل: (حبك للشيء يعمي ويصم)، والحرص يغطي البصيرة، فحينئذٍ تحسن عند الإنسان كل طريقة توصله إلى شهواته، وبسبب الحسد لعن إبليس وجعل شيطانا رجيماً، وقد وردت آيات وأحاديث تشدد في أمر الحسد، وتحذر منه أيما تحذير، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب)، وقال صلى الله عليه وسلم: (لا يجتمع في جوف عبد الإيمان والحسد)، أي الإيمان الصادق الكامل الذي يستحضر صاحبه أن كل أفعال الله لحكمة، وهذا الإيمان لا يجتمع مع الحسد الذي يؤدي إلى الغضب من فعل الله وقسمته، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا يزال الناس بخير ما لم يتحاسدوا)، وفي الغالب فإن الحسد يكون بين الأقران. ويحدد د. السديري أربع درجات من الحسد، الأولى هي تمني زوال النعمة عن الغير والسعي في الوسائل المحرمة الظالمة لإزالتها، والثانية تمني زوال النعمة وحب ذلك، وإن كانت لا تنتقل إليه، والثالثة أن يجد من نفسه الرغبة في زوال النعمة عن المحسود، ولكنه في جهاد مع نفسه وكفها خوفاً من الله، وكراهية في ظلم عباد الله، ومن يفعل ذلك يكون قد كفي شر غائلة الحسد، ودفع عن نفسه العقوبة الأخروية، ولكن ينبغي له أن يعالج نفسه من هذا الوباء حتى يبرأ منه، أما الدرجة الرابعة فهي أن يحب ويتمنى لنفسه مثل نعمة الغير، وإن لم يحصل له مثلها فلا يحب زوالها عن صاحبها. أما أسباب الحسد فهي خمسة تبدأ بالعداوة والبغضاء والكبر، والعجب وحب الرياسة وطلب الجاه، والخوف من فوت مقصد من المقاصد، وخبث النفس وحبها للشر وشحها بالخير لعباد الله، وقد يكون في الشخص أحد هذه الأسباب أو بعضها أو كلها مجتمعة.. والعلماء ذكروا علاجاً للحسد يتمثل في أن يعرف الإنسان أنه ضرر عليه في الدين والدنيا، وأنه لا ضرر به على المحسود لا في دينه ولا دنياه، بل قد ينتفع به فيهما، وأن يعلم أن الخير كله أن لا يكون في نفسه لأحد غش، وأن يكون قلبه صافيا محبا للناس الخير، كارها لهم ما يكرهه لنفسه. ويؤكد د. السديري أن الحسد من أعظم مداخل الشيطان وأكبر وسائل على الإنسان، وله آثار سلبية كبيرة على الفرد في دينه ودنياه تجعله شخصا غير منتج في مجتمعه، يحترق بحقده وحسده، ومن آثاره على المجتمع أيضا أنه يؤدي إلى هدر الطاقات والموارد، وتعطيل حركة التنمية نتيجة لما قد يدار من مكائد وخطط سلبية أو مضادة منشأها الحسد، بل إن منشآت الصراع بين الأمم والحروب قد يكون في الغالب هو الحسد مما يؤدي إلى تعطيل مقدرات الشعوب، بل وإلى فنائها. بلاء خطير وشر مستطير أما الشيخ عبدالعزيز بن محمد النصار القاضي بديوان المظالم بالدمام فيقول: إن الحسد خطير وشر مستطير، فقد وقع من الجن ووقع من الإنس، ويقع منهما، فالشيطان وجنده يحسدون المؤمنين على ما آتاهم الله من فضله، فإبليس حسد أبانا آدم لشرفه وفضله عليه، فأبى أن يسجد له حسداً، وهو عدو لبني آدم {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ}، وابن آدم الأول قابيل قتل أخاه هابيل حسدا لأن الله تقبل القربان الذي قدمه هابيل ولم يتقبل قربان أخيه قابيل {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}، ويوسف عليه السلام ابتلي بحسد إخوته له، فكادوا له كيدا، تكلموا في قتله وألقوه في البئر وباعوه رقيقا بثمن زهيد، واليهود والنصارى يعلمون أن الإسلام حق، وعلماؤهم يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم كما يعرفون أبناءهم. والحسد من صفات الكفار والمنافقين والأراذل من الناس، والحاسد هو الذي يتمنى زوال النعمة عن غيره، ثم هذا الحاسد تارة يحب زوالها عن المحسود ومجيئها إليه وهذا قبيح، وأقبح منه أن يتمنى زوالها عن المحسود، يقول سبحانه: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ}، ويقول جل ذكره: {وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ}، والنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الحسد وبين أن عاقبته وخيمة، يقول صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: (لا تحاسدوا) أي لا يحسد بعضكم بعضاً، وروى الترمذي والبيهقي وغيرهما عن الزبير بن العوام رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (دب إليكم داء الأمم قبلكم الحسد والبغضاء هي الحالقة وأمَّا إني لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين)، ويقول عليه الصلاة والسلام: (إياكم والحسد فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب) أو قال (العشب). ويؤكد الشيخ النصار أنه لا يجتمع في جوف عبد الإيمان والحسد، ذلك أن الحسد خلق دنيء ومعصية موجبة للعقوبة، فهي تتنافى مع ما يقتضيه الإيمان من صدق وإخلاص وانقياد ومودة وأخوة، ولو لم يكن من ذم الحسد إلا أن الحاسد يتوجه بحسده نحو الأكْفاء من ذوي السؤدد والرئاسة والمكانة والجاه والصلاح والفلاح والنبوغ، ممن أنعم الله عليهم فكسبوا رضا الله، وثناء الناس ومحبتهم واحترامهم، بل ويخص الحاسد بحسده الأقارب والمخالط والمصاحب. ويفرق الشيخ النصار بين الحسد والمنافسة فيقول: إن الحسد رذيلة، وأما المنافسة فهي فضيلة، فالإنسان جبل على حب الرفعة، ولا يحب أن يعلو عليه أحد في نعمة من النعم، ويسعى إلى الكمال الذي يشاهده في غيره حتى يلحقه أو يجاوزه، فهذا التنافس من شرف النفس وعلو الهمة وكبر القدر، وهو تنافس محمود بل هو مطالب بقوله سبحانه: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ}، ويقول جل ذكره: {فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ}، وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتنافسون في الخير، وكان عمر بن الخطاب يسابق أبا بكر رضي الله عنهما فلم يظفر بسبقه، وقال: (والله ما سبقته إلى خير إلا وجدته قد سبقني). والفرق بين الحاسد والمنافس، أن الحاسد عاجز مهين يحسد من يكسب الخير، والمحامد، ويفوز بها دونه، ويتمنى زوالها منه أو أن يفوته كسبها، حتى يساويه في العدم، يقول سبحانه: {وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء}، أما المنافس فهو مسابق بالنعمة من نعم الدين أو الدنيا، متمن تمامها عليه وعلى من ينافسه، فهو ينافس غيره أن يعلو عليه، ويحب لحاقه به، أو مجاوزته له في الفضل، بخلاف الحسود الذي يحب انحطاط غيره حتى يساويه في النقصان، وأكثر النفوس الفاضلة الخيرة تنتفع بالمنافسة فمن جعل نصب عينيه شخصا من أهل الفضل والسبق فنافسه انتفع به كثيراً، فإنه يتشبه به ويطلب اللحاق به، والتقدم عليه، وهذا من المنافسة المحمودة سواء كان في عبادة أو علم أو شيء من الأعمال، والمنافسة في الأعمال تسمى غبطة ويطلق عليها لفظ الحسد مجازا، ففي الصحيحين من حديث ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا حسد إلا في اثنين رجل أتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار، ورجل أتاه الله مالاً فهو ينفق منه في الحق آناء الليل والنهار)، ولفظ ابن مسعود رضي الله عنه للحديث المتفق عليه: (لا حسد إلا في اثنتين رجل أتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق ورجل أتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها). احذروا الحسد ويحذر الشيخ النصار من الحسد، فيقول إن انتشاره يسبب خللا في الدين وضرراً على المجتمع، لذا على المسلم اجتنابه واجتناب دواعيه وأسبابه، والبعد عنها، والتخلص مما ابتلي به المرء من الأخلاق التي تبعث عليه، فإنها أخلاق هابطة منبوذة، نهى عنها الشرع، وتأباها العقول السليمة، فمن دواعي الحسد بغض المحسود فإن من أبغض شخصا كره أن تتحقق له النعم فيأسى ويتحسر عليه، إن ظهرت له فضيلة أو شكر على منقبة ويكون الحاسد في متابعة له يتمنى زوال الفضل عنه، ولا شك أن بعض الأخلاق المذمومة تصير عادة منطبعة بالشخص، ويكون الانتقال منها والتخلص منها عسيرا، ولكن من قصد تهذيب نفسه ونقاءها، فالتدريج والترويض يحقق له ما يريد، فيتظاهر بالتخلق بها فتصير العادة خلقاً، يقول أبو تمام: فلم أجد الأخلاق إلا تخلقا ولم أجد الأفضال إلا تفضلا وليدرك الحاسد أن السلامة من الحسد من صفات المؤمنين المتقين، وبه تتحقق سلامة الدين وهو سبب دخول الجنة، فقد وصف الله الأنصار بالسلامة من الحسد لإخوانهم المهاجرين على ما آتاهم الله من فضله {وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}، وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده عن أنس رضي الله عنه قال: كنا يوما جلوسا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (يطلع عليكم الآن من هذا الفج رجل من أهل الجنة، قال: فطلع رجل من الأنصار تنظف لحيته من وضوئه قد علق نعليه في يده الشمال فسلم، فلما كان من الغد قال النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك، فطلع ذلك الرجل على مثل حاله، فلما كان اليوم الثالث قال النبي صلى الله عليه وسلم مقالته، فطلع ذلك الرجل على مثل حاله، فلما قام النبي صلى الله عليه وسلم تبع عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه ذلك الرجل، فقال له: إني لاحيت أبي (أي نازعته) فأقسمت أن لا أدخل عليه ثلاثا فإن رأيت أن تؤيني إليك حتى تمضي الثلاث فعلت، قال: نعم، قال أنس: فكان عبدالله يحدث أنه بات عنده ثلاث ليال فلم يره يقوم من الليل شيئاً غير أنه إذا تعار انقلب على فراشه ذكر الله عز وجل وكبر حتى يقوم إلى صلاة الفجر، فقال عبدالله غير أني لم أسمعه يقول إلا خيراً، فلما فرغنا من الثلاث، وكدت أن أحقر عمله، قلت يا عبدالله، لم يكن بيني وبين والدي غضب ولا هجر ولكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ثلاث مرات يطلع عليكم رجل من أهل الجنة، فطلعت أنت الثلاث مرات فأردت أن أوي إليك لأنظر ما عملك، فأقتدي بذلك فلم أرك تعمل كثير عمل، فما الذي بلغ بك ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ما هو إلا ما رأيت غير أنني لا أجد على أحد من المسلمين في نفسي غشاً ولا حسداً على خير أعطاه الله إياه، قال عبدالله: هذه التي بلغت بك وهي التي لا نطيق)، فقول عبدالله بن عمرو له: هذه التي بلغت بك وهي التي لا نطيق، يشير إلى خلوه وسلامته من جميع أنواع الحسد، إلا أن بعض النفوس لا تخلو من ضعف وحسد، وبحسب فضل الإنسان وظهور النعمة عليه يكون حسد الناس له، فإن كثر فضله كثر حساده، وإن قل قلوا، لأن ظهور الفضل يثير الحسد في تلك النفوس، وحدوث النعمة يضاعف كمدها، ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (استعينوا على قضاء الحوائج بسترها فإن كل ذي نعمة محسود)، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه (ما كانت نعمة الله على أحد إلا وجد لها حاسداً). علاج الحسد ويضع عبدالعزيز النصار علاجاً لرد لحسد فيقول: إذا بلي الإنسان بمن هذه حاله من حساد النعم وأعداء الفضل فلا بد له أن يتقي شره ويدفعه، ويندفع شر الحاسد عن المحسود بأمور منها الاستعاذة بالله تعالى، واللجوء إليه والتحصن به من شر ذلك الحاسد {وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ}، {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}، فالله تعالى مجير من استجار به، ومعيذ من استعاذ به، ومما يقي شر الحاسد تقوى الله تعالى بالوقوف عند حدوده، باتباع أمره واجتناب نهيه، فإن من اتقى الله وقاه ومن حفظ الله حفظه الله {وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا}، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس (احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده أمامك)، ومن ذلك التوكل على الله تعالى بتفويض الأمر إليه والاعتماد عليه، فمن توكل على الله كفاه، ومن كان الله كافيه فلا مطمع فيه لعدوه ولا خوف عليه منه (وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ)، ومنها: عدم الاشتغال بالحاسد وحسده أو التفكير فيه، بل عليه أن يبعده من باله ولا يلتفت إليه ولا يخافه، وعليه إن خطر له أن يشتغل عنه بما هو أنفع له وأولى به فإن هذا من أقوى الأسباب المعينة على اندفاع شر الحاسد عن المحسود والتي توقع الحاسد في شر بغيه وسوء كيده، وتتركه يأكل بعضه بعضاً، فإن الحسد كالنار إذا لم تجد ما تأكله أكل بعضها بعضا، ومما يدفع شر الحاسد التوبة إلى الله تعالى من الذنوب التي سلط عليه الحاسد وغيره من الأعداء بسببها، فإنه ليس في الوجود شر إلا الذنوب وموجباتها، فإذا عوفي من الذنوب عوفي من موجباتها {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ}، ومن أهم ما يدفع شر الحاسد لمن وفق إليه هو الإحسان من المحسود فإن في ذلك إطفاء نار الحاسد وكلما ازداد الحاسد أذى وشراً وبغياً ينبغي للمحسود أن يزداد إليه إحساناً وله نصيحة وعليه شفقة يقول سبحانه: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}، والإنسان بإحسانه إلى حاسده سيحقق ثناء الناس عليه ويصيرون معه على خصمه، فالله تعالى فطر عباده على أن يكونوا مع المحسن على المسيء، ثم إنه لابد له مع حاسده من إحدى الحالتين إما أن يملكه بإحسانه فيستعبده وينقاد له، ويبقى من أحب الناس إليه، وإما أن يفتت كبده ويقطع دابره إن أقام على إساءته إليه فإنه يذيقه بإحسانه أضعاف ما ينال منه بانتقامه، ومن جرب هذا عرف أنها لحق، لذا على المسلم بالإحسان إلى الآخرين بالصدقة وفعل المعروف، فإن لذلك تأثيراً كبيراً في دفع البلاء، ومنه شر الحاسد، فالمحسن المتصدق عليه من الله وقاية، وهو في حصن حصين، فإن الشكر حارس للنعمة من كل ما يكون سبباً لزوالها. عقوبات خمس ومن جانبه يرى الشيخ إبراهيم بن سليمان الرشيد وكيل ديوان المظالم بالشرقية أن للحاسد خمس عقوبات قبل أن يصل إلى المحسود مكروه، أولاها غم لا ينقطع عنه، وثانيتها مصيبة لا يؤجر عليها، وثالثتها مذمة لا يحمد بها، ورابعتها سخط من الله، وخامستها إغلاق أبواب التوفيق عليه. ويقول: إن المجتمع الذي يلزم أفراده كتاب الله ويعتصموا بسنَّة نبيه صلى الله عليه وسلم ويسيرون على هدي سلفهم الصالح، فإنهم يعيشون بقلوب سليمة خالية من الحسد، والحقد، والضغينة، فإذا رأى أحدهم نعمة على أحد من إخوانه المسلمين ساره رضا وأحس بفضل الله واستشعر فقر الخلق وحاجتهم إلى خالقهم. ويضيف الرشيد: إن الحسد مكروه من طبائع البشر، فالإنسان بطبعه يكره أن يفوقه أحد من بني جنسه في شيء من الفضائل في الوقت الذي جلبت فيه النفس على حب الرفعة، وفي الحديث (ثلاث لا ينجو منهن أحد: الظن والطيرة والحسد، قيل وما ينجي منهن، قال: (إذا ظننت فلا تحقق وإذا تطيرت فامش وإذا حسدت فلا تبالغ)، ومن أسباب توفر الحسد العداوة والكبر والعجب وحب الرياسة وخبث النفس وبخلها.