في بداية الطفرة كنت في ذلك الوقت طفلاً رقيقاً وناعماً - ترى أمزح لا تصدقون - كانت الحوطة في ذلك الوقت قرية صغيرة، وكحال أي طفل ناعم ورقيق كنت أرى برعب وألم ما كان يفعله الشباب حيث كانوا يعمدون إلي كي أذرعهم بالنار، اعتقاداً منهم أن هذا يجعلهم قادرين على صيد العصافير والحمام بدقة متناهية وبمنتهى السهولة، ومما لا يزال عالقاً في ذهني ويسبب لي الأحلام والكوابيس لحد الآن، إن الأطفال الذين كانوا في سني كانوا يحاكون الشباب في فعلهم هذا، فكان الواحد منهم يجمع رؤوس أعواد الثقاب (البارود) ثم يضع قليلاً منها على ذراعه اليمنى، ثم يشعل عود ثقاب آخر في البارود المجتمع على ذراعه، ثم عليه أن يكتم الألم الناتج عن اشتعال البارود في الجزء الذي حدده من ذراعه، حتى يكون صياداً ماهراً، حيث كان الاعتقاد الراسخ بين أبناء جيلي، أن الشخص الذي يتحمل ذلك الألم يكون ذا مهارة كبيرة في الصيد. وقد اتهمني الأطفال الذين في سني بالجبن لرفضي الشديد كي ذراعي، وقد كانوا صادقين إلا أنني أردت أن أبعد هذه التهمة عن نفسي، فضحكت منهم وأخبرتهم أنني سأكون صياداً ماهراً دون حاجة لكي نفسي بالنار، وإن كنت في قرارة نفسي أعترف أنني لم أخلق أبداً لأكون صياداً، ولكن كان لابد لي من أن أثبت العكس حتى لا أكون مضحكة لأطفال الحارة، فعقدت العزم على أن أظهر أمامهم بمظهر الصياد الماهر، فكنت أحرص على أن لا أسير في طريق إلا والنباطة (المشعاب) بارزة في جيبي، وكنت أحرص كذلك على أن أملأ جيبي بالحصى، حتى وإن كان الثمن عقاب والدتي المستمر لي، بسبب اتساخ ملابسي، بفعل التراب العالق بالحصى، بل وكنت أحرص على أن يراني الأطفال وأنا أنتقي الحصى، وكان هذا لا يكفي فكان لابد لي أن أصطاد شيئاً ليكون دليلاً على مقدرتي على الصيد، وفيما كنت أتطلع إلى النهر الذي يطل على بيتنا؟!! وأفكر في حل لهذه المعضلة، تذكرت أن في بيتنا غرفة يدخلها العصافير، فكنت أصحو على زقزقة العصافير لأغلق بابها عليهم بين فينة وأخرى، فأصطادهم بيدي العاريتين ثم أعمد إلى ذبحهم بدم بارد يتنافى مع رقتي التي حدثتكم عنها، وبجرأة متناهية كنت أنسب ذلك لبراعتي في الصيد بالنباطة، وكنت أطلب من والدتي حفظها الله أن تطبخ هذه العصافير، ثم أدعو أصدقائي لمنزلنا العامر، لكي يتلذذوا بطعمها مع المرقة أو الكبسة، ولكي يكون معي من الوقت ما يكفي لاستعرض مهارتي في الصيد دون اعتراض منهم، فالبيت بيتي وبإمكاني أن أطرد أي واحد منهم يعترض على صحة كلامي، وبإمكاني أن لا أدعوه في المرة القادمة، ولأن قصص مهارتي زادت وعدد المدعوين زاد، فكان لابد من أن أزيد من حصيلة صيدي، فأصبحت أختلس عدم تواجد أحد في مخزن منزلنا وبالأخص والدتي، وأسطو على كيسي الرز والجريش، لكي أضع ما سطوت عليه في الغرفة ليزداد عدد العصافير، ومن ثم لكي أفخر أكثر بقدرتي على الصيد. وقد مللت من سرد بطولاتي في صيد العصافير، فقررت ان أوسع نشاط صيدي، فهداني تفكيري الطفولي إلى حمام أحد أقربائي الكبار، فكنت أدخل إلى حمامه في غيابه، فأنتقي الأفضل والأسمن منهم لأصطاده، مرة بيدي ومرة بالنباطة حسب ما يسمح به الوقت لي، إلى أن اصطادني وأنا أصطاد حمامه، فتعرضت لعلقة ساخنة لا أزال أحس بحرارتها إلى الآن. ولأن دوام الحال من المحال فقد انكشفت أمام أطفال الحارة كلهم، عندما أصابني الغرور من مدحهم الزائد لي، فصدقت أنني أصبحت صياداً ماهراً، حيث أردت أن يروا مدى مقدرتي على الصيد، حيث شاهدت فرخ عصفور على نخلة قصيرة جداً لا يتجاوز ارتفاعها ثلاثة أمتار، حتى أنني كنت أستطيع أن أصعد النخلة وأمسك به، إلا أنني فضلت أن اصطاده بالنباطة التي كنت أحملها معي على الدوام، وكان جيبي مليئ بالحصى، فطلبت منهم بإصرار أن يتركوه لي، وببجاحة متناهية ونظرة متعالية أخبرتهم أنني سأصطاده من أول مرة، وستكون الضربة بين عينيه، فصوبت (نباطتي) نحوه إلا أن الحصاة الأولى لم تصبه، وكذلك الثانية والثالثة والعاشرة، حتى كاد أن ينفد كل ما في جيبي من حصى،والأطفال يتضاحكون وأنا أكاد أن أبكي من القهر، خاصة عندما رأيت أحدهم وقد استلقى على ظهره من كثرة ما ضحك، فإذا بأحدهم رحمة بي أو سخرية مني لا أدري، يصوب نباطته نحو فرخ العصفور المسكين، فإذا به يطيح به من فوق النخلة من أول مرة، فكانت تلك آخر مرة أحمل فيها النباطة!! علي بن زيد بن علي القرون / حوطة بني تميم