كنت أقف على أرض الفضاء الموشى بشجن ذلك النخيل القليل الذي بقي بشموخ خضرته الوشمية يقاوم حرقة العطش وزحف جدران الأسمنت بمنطقة عليشة في موقع غير بعيد عن شارع الوشم عندما دوَّى ذلك الصوت المروع ظهيرة الأربعاء الثاني من شهر ربيع الأول. ولم أكن ومَن معي في تلك اللحظة التي غامت فيها السماء وسطع الرعب في العيون بحاجة لخبير تفجيرات لنعرف أن انفجاراً واضحاً كوضوح النار الغامض كغموض الدخان المنبعث عنها قد وقع غير بعيد عنا. فقد ودَّعنا منذ فترة لم تعد قصيرة تلك الدعة التي كانت تجعلنا في بداية سلسلة التفجيرات نعتقد أن الصوت آتٍ من التلفزيون عن أخبار السيارات المفخخة في البؤر الملتهبة كما كان الأمر في الأوضاع الأمنية المتردية إبان حرب لبنان أو صدامات الجزائر. طلبت أختي الطبيبة على الهاتف؛ إذ تعمل في مستشفى الشميسي القريب من المنطقة لأطمئن عليها، فلم ترد على ندائي في تلك اللحظة، إلا أنها قضت كل ذلك المساء وطوال الليالي السبع التي تلته، ومن خلال الصمت المطبق العميق الذي ران عليها، وكأن رصاصاً صب في حنجرتها، تتحدث دون أن تصدر صوتاً أو تبنس ببنت شفة عن الرعب الذي حل بقسم الطوارئ عن الأشلاء البشرية الممزقة، وعن نوافير الدم التي طاشت على وجوه الأطباء، وعن الأرواح التي فاضت إلى بارئها، وإلى أين، وإلى متى، وما العمل؟! والإصغاء إلى هذه الأسئلة التي كانت مشرعة على مداها في أحداق مَن ذهب بهم الانفجار لا تأتي فقط من ضرورة مقاومة أن نتعود التعايش مع الرعب، بل تأتي من ضرورة أن نقاوم الدخول أصلاً في حالة عامة من الموت الجماعي أو استسهال التفريط بنعمة الحياة؛ لأن هذا النوع من الرعب إذا صار إلى تجاهل الأسئلة التي تطرح لا ينتهي عادة إلا بفناء جميع الأطراف بمَن فيهم مَن يبقى على قيد الحياة أو ينجو من الموت. فلماذا، وبأي ذنب، ولصالح مَن، وضد مَن، وكيف، وإلى متى، وما العمل؟! إن هذه الأسئلة كما أجتهد هي الأمانة التي خرجت يوم الأربعاء الماضي من أعناق تلك الأرواح (التي أزهقت عنوة في وضح النهار وفي حلكة تخفي الأسباب والأهداف والأيدي التي لطخت هواء الرياض وقد ذهبوا برحمة ربهم إلى الدار الآخرة) لتتعلق بأعناقنا وقد صار لا مناص من تمحيصها والبحث عن الأجوبة الشافية لها. ولا أظن أن ذلك بشيء من التفكير والتحليل وعدم الجزع من نقد الذات أمر محال. لقد تابعتُ عن كثب كثيراً مما كتب على إثر حادث الانفجار في مبنى الأمن العام، الذي ذهب ضحيته عدد من البشر من المقيمين والمواطنين (المحايديين)، الذين ربما كان أخطر ما يتسلحون به في مواجهة تلك الطعنة الفاجعة هو انتماءهم وحبهم لتراب أرض هذا الوطن وحزمة من الأحلام لأطفالهم وزوجاتهم وأسرهم الصغيرة أو الكبيرة بحياة كريمة علهم بعزة أنفسهم وبمداخيلهم المتواضعة يحققونها لتأمين لقمة حلال وسد الأقساط الشهرية والحصول على مواعيد غير بعيدة في المستشفيات الحكومية والنزهة في عطلة نهاية الأسبوع على (جال البر) أو إحدى الاستراحات المستأجرة على طريق الثمامة، ثم الذهاب آخر النهار في دعة وسلام للنوم دون أن تؤرقهم قليلاً أو كثيراً الأخبار السياسية أو المؤتمرات والندوات الثقافية أو التعصبات الأيدولوجية، فيما عدا التأسي الصامت على ما آلت إليه أحوال العرب والمسلمين في فلسطين أو العراق، والدعاء إلى الله عند قيامهم لصلاة الفجر بكشف الغمة عن الأمة على المستوى العام، وبالستر والعفو والعافية على المستوى الشخصي. غير أنني في متابعتي لما كُتب عن هذا الحدث تحديداً، وكذلك لما كُتب عن الحوادث المماثلة التي أخذت تلم بمجتمعنا في فترات متلاحقة، لم أجد ما يكفي من الجدية والجرأة والشجاعة في طرح الأسئلة مما نحن في أمس الحاجة إليه في هذه اللحظة الحارقة بما يجعلنا نضيء شمعة السؤال بدل أن نكتفي بلعن الظلام أو شجبه وإدانته دون أن نبحث في أسباب المحاق قبل أن يطبق على رقابنا جميعاً كأعمدة سقف دليلة شمشون. وهنا، وقبل أن أناقش بعض الكيفيات التي جرى بها طرح وتناول هذا الحدث وما شابهه من أحداث أليمة والكيفية التي جرى بها تجاهل أو تجنب فتح العديد من الأسئلة التي نرى أنه يستحيل معالجة هذه الكوارث الوطنية معالجة جذرية دون فتحها، لا بد من التنويه بأنني أستثني من مساءلتي الخطاب الرسمي بشقيه السياسي والديني، ليس لأنه فوق المساءلة كما قد يجير مثل هذا الفهم لكلامي، ولكن لأنني أرى وأقدر دور هذا الخطاب في ذروة الحدث في اتخاذ موقف هو بطبيعته موقف تصريحي (كالبيانات) التي من وظيفتها وأهدافها التطمين والتثبيت للمواطنين من ناحية، والإعلان والإعلام عن الموقف الرسمي مما يحدث من ناحية أخرى، دون أن يكون معنياً بالضرورة في لحظة الحدث بالتوقف لإثارة الأسئلة أو تحليلها، وإن لا بد أن يكون معنياً بتقصي المشورة المخلصة الصادقة من كل الأطراف المجتمعية وبمتابعة التساؤلات والتحليلات، بل وطلب البحث فيها من المختصين والمعنيين والمواطنين بكافة أطيافهم ورؤاهم، فكلما اتسعت الرؤية اقتربنا من الحل. هذا كما لا بد أن أنوِّه بأن مناقشتي لا تشمل ذلك السيل من الكتابات المتفجعة الشجية التي اقتصرت على تناول الحدث من جانب خسارته البشرية الفادحة لرجال الأمن وللمدنيين من المقيمين والمواطنين وما لحق بأسرهم من آلام اليتم والترمل والثكل المبرحة، فهذه الكتابات تحمل مشاعر وجدانية نبيلة لا بد أنها كالحدث نفسه تشتعل في أعماق كل صاحب ضمير إنساني حي. إن ما أتوقف عنده على وجه التحديد هو تلك الكتابات التي اكتفت بإدانة الحدث دون أن تجرؤ على أو مع إصرارها على تجنب طرح أي من الأسئلة التي قد تساعدنا على (وضع الحدث الأحداث) في السياق التاريخي والحاضر لواقعنا الاجتماعي على المستوى المحلي وعلى كل من المستوى العربي والإسلامي والعالمي. والأشد إثارة للنقد من تلك الكتابات تلك الكتابات التي وجدت في الحدث فرصة ذهبية لاتخاذ موقف انتهازي في تصفية حسابات قديمة بين التيار الليبرالي وبين التيار (الديني السياسي المتشدد)، أو في الانتقال من موقع النقيض إلى موقع آخر. وإذا كان بالنسبة للنقطة الأخيرة لا غبار على تغيير المواقف إذا كان بناءً على مراجعة للقناعات على سبيل المثال، فإن الخطورة التي تزيد الموقف تعقيداً هو أن يكون ذلك لمجرد ركوب موجة هذا التيار أو ذاك حسب المد والجزر السياسي أو حسب اتجاه الرياح، فلا أظنه إلا من باب التشفي إن لم يكن الاستعداء في هذه اللحظة التي نحن أحوج ما نكون فيها لحضور ولحمة كل القوى الوطنية أن يجري الحديث عن (حروب الكاسيتات) القديمة (رغم الاكتواء منها على محمل فهم أصحابها ليس إلا)، أو عن تجريح والتشكيك في أصحاب المواقف الإصلاحية بتجريدها من بعدها الوطني وربطها دونما برهان بالشرق أوسطية أو بالتصورات الأمريكية. لستُ بطبيعة الحال ضد النقد، ولا أعتقد أن أي تصرفات بشرية أياً كانت صبغتها: ثقافية، سياسية، اجتماعية، يجب أن تتعالى على النقد، أو تكون في منأى عنه، ولكن نقد المواقف القديمة أو الموقف الحاضر والمراجعة، وهي ضرورة يجب أن تتم بطريقة موضوعية، تساهم في تصحيح مسار الحدث، ولا تصب عليه المزيد من المواد الحارقة؛ ظناً منها عن حسن أو سوء نية أنها تصب ماء زلالاً. من المواقف السلبية أيضاً من عملية طرح الأسئلة موقف الاستخفاف بأهمية طرحها نفسه أو تحريمها على أنفسنا بدعوى أن الموقف والحدث ساطع سطوع الشمس في رابعة النهار، وليس من داعٍ لكد أنفسنا بطرح الأسئلة. ومن أمثلة ذلك، الموقف الذي يستبعد أي أسئلة تتعلق بهوية مَن يقف وراء حدث التفجير المروع (خصوصاً أن هناك جهات، وإن كانت غامضة، قد أعلنت مسؤوليتها عنه)، وهو الموقف الذي يسخر من ذلك التساؤل المشروع الذي يدور في أذهان العديد من الناس عن احتمال تورط جهات خارجية فيه كالموساد، بدعوى الرفض القاطع الباتر لنظرية المؤامرة، أو بدعوى محاربة (التفكير الغيبي) أو (التفكير الإسقاطي أو المشجعي) الذي يبحث عن العامل الخارجي لتفسير أزمات الداخل. وينسى متخذو هذا الموقف أنهم إذا كانوا يصدرون في موقفهم هذا عن تمسك بالتفكير المنطقي والتفكير العلمي، فإن من أبجديات هذا التفكير عدم إغلاق الباب في وجه الاحتمالات الممكنة ما لم يقم دليل على نفيها. فهل حقاً في الموقف الدولي والإقليمي الراهن ما يستبعد قطعياً وبشكل حتمي مثل هذا السؤال، فيُتَّهم بالسذاجة والسطحية كل مَن تسوِّل له نفسه باستخدام حق عقلي بسيط هو حق طرح الأسئلة؟!وقبل أن أختتم هذا الموضوع، الذي أدعو الله أن يجيزه رئيس التحرير؛ لأنني يعلم الله تحرَّيت به كلمة حق في حقنا جميعاً وفي حق وطننا قيادة وشعباً بمختلف مواقعه الاجتماعية ورؤاه الثقافية أولاً وأخيراً، فإنني سأتوقف عند بعض الأسئلة مما أشرت إليه على امتداد الموضوع. وأكرِّر في ذلك تلك الأسئلة البسيطة المقلقة: لماذا تجري هذه الأحداث على أرض وطننا؟ ولماذا هذا التوقيت بالذات وسط استعار الحريق الفلسطيني وغليان المستنقع الأمريكي في العراق والتحامل الدولي على المملكة والعالمين العربي والإسلامي؟ بأي ذنب تذهب أرواح المواطنين بهذا الشكل المجاني الذي لا يخدم إلا إثارة الفتن والتناحر؟ بمَن وبأي أيدي يُكبَّد الوطن الخسائر في المال والأرواح والسمعة العالمية والأمن والاستقرار الداخلي؟ لصالح مَن، ومَن هي الجهة أو الجهات المستفيدة من تهديد اللحمة الوطنية وإنجاز الوحدة الوطنية الذي ساهم في تأسيسه أبناء الوطن من شماله إلى جنوبه ومن شرقه إلى غربه على مدى ما يقارب اليوم نصف قرن من الزمان فامتزجت اللهجات الشفهية، وانفتحت الثقافة المكتوبة على بعضها البعض، وتداخلت الأنماط المعيشية اليومية، وأخذت في التراجع إلى حد كبير النعرات المناطقية، كما أخذت تخفت حدة التعصبات القبلية بعد أن كان اختلاف اللهجات بحد ذاته يشكل عائقاً لأبسط أنواع التحاور بين منطقة وأخرى، فصارت هذه الوحدة في الاندياح أو الحلم لتشكيل مجتمع مدني تتكاتف فيه القوى الاجتماعية للمشاركة الوطنية مثالاً مشتهى، خاصة في الوقت الذي تكاد تنحل فيه تماماً كل أحلام الوحدة على مستوى الوطن العربي؟ ضد مَن تحدث التفجيرات ويشهر السلاح ضد مواطنين منغمسين في كفاحهم المعيشي اليومي، حتى إن بعضهم لم يسمع في حياته بكلمة مظاهرة إلا من القنوات الفضائية؟ كيف وصلت إلينا كل هذه الأسلحة الفتاكة في وطن آمن لا يصرح فيه حمل السلاح أصلاً إلا باستثناء؟ إلى أين يمكن أن تأخذنا هذه الأحداث التي إذا لم نعالج العوامل التي أدت إلى ظهورها على السطح من التعصب إلى التهميش، فقد تجرُّنا - لا سمح الله- إلى ما لا تُحمد عقباه... إلى متى، وما العمل؟! في ظني -والله أعلم- وفي ضوء شيء من التحليل السيسيولوجي السياسي للموقف إن هناك ثلاثة مستويات متداخلة لطرح هذه الأسئلة وللبحث في إجابتها نحو حل حقيقي لها وليس الاكتفاء بالحلول المؤقتة. هناك المستوى الاجتماعي والسياسي الثقافي الداخلي، وهناك المستوى الإقليمي العربي والإسلامي وموقع الدولة الصهيونية فيه ومنه، وهناك المستوى الدولي ممثلاً في الموقف الأمريكي وتحالفه الأوروبي الذي أصبح سافراً، ليس في نواياه وحسب، بل في خططه للسيطرة على المنطقة، وخاصة الجزء الخليجي منه. ولا بد في هذه الحالة من معالجة الموقف وإن بدا للبعض أو حلا أن يقصر النظر إليه على أنه مجرد إشكال داخلي خاص بالبنى الاجتماعية والنمط العقيدي والثقافي في المجتمع السعودي. هذا، وإذا كنا في المعالجة التي نقترح نرى ضرورة فتح باب البحث والحوار فيها بالتسامح في طرح الأسئلة التي لا تقنع بالتفسيرات التبريرية الجاهزة، فإن هذا لا يستبعد الحل الأمني في الأطر القانونية التي تحمل المسؤول مسؤولية عمله. وأخيراً، فإن لي ملاحظة ليست أخيرة، وهي أنه يجب ألا نركن لتلك النعوت التي يكثر الإعلام منها هذه الأيام بالقول: الفكر المنحرف، الفئة الضالة، المخربون، الخوارج. فهذه النعوت، وإن لا شك صدقت على كل مَن لا يمنعه وازعه الديني والأخلاقي والوطني من ترويع مواطني بلده الآمنين، فإنها لا تكفي لمعرفة وتحديد هوية مَن يقوم بمثل هذا العمل، وقد تميع إمكانية الوقوف الدقيق والموضوعي على حقيقة الموقف الذي تشكل معرفته شرطاً للتعامل معه لحماية الوطن والمواطنين والمكتسبات الوطنية. وفي طرح كل هذه الأسئلة ومحاولة بحثها لا بد من توحُّد وحضور كل أبناء الوطن للمشاركة في التفكير بصوت مسموع فيما عسانا فاعلون نحو حلول منا تحقن الدماء وتشرع في الإصلاح والبناء.